صفحة جزء
قال : ( ولا خير في السلم في جلود الإبل والبقر والغنم عندنا )

وقال مالك بأنه يجوز ; لأنه مقدور التسليم معلوم المقدار بالوزن والصفة بالذكر ولكنا نقول الجلود لا توزن عادة ولكنها تباع عددا وهي عددية متفاوتة فيها الصغير والكبير فلا يجوز السلم في الحيوان في أبعاض الحيوان فقد قامت الدلالة لنا على أن السلم في الحيوان لا يجوز فكذلك في أبعاض الحيوان ولهذا لا يجوز السلم في الأكارع والرءوس وكذلك لا يجوز السلم في الأدم والورق ; لأنه مجهول فيه الصغير والكبير إلا أن يشترط من الورق والصحف والأدم ضربا معلوم الطول والعرض والجودة فحينئذ يجوز السلم فيه كالثياب وكذلك الأدم إذا كان يباع وزنا فإنه يجوز السلم فيه بذكر الوزن إذا كان على وجه لا تتمكن المنازعة بينهما في التسليم والتسلم قال : ( ولا خير في السلم في شيء من الحيوان عندنا ) وعند الشافعي يجوز إذا بين الجنس والنوع والصفة والسن واحتج في ذلك بما روينا من الآثار أن النبي صلى الله عليه وسلم { استقرض بكرا وقضاه رباعيا وقال : خيركم أحسنكم قضاء } والسلم أقرب إلى الجواز من الاستقراض فإذا ثبت جواز استقراض الحيوان بهذا الحديث ثبت جواز السلم فيه بطريق الأولى والمعنى فيه أنه مبيع معلوم مقدور التسليم فيجوز السلم فيه كالثياب والمكيلات والموزونات وبيان الوصف أنه يجوز بيعه عينا والدليل على أنه معلوم فإنه إذا سمى الإبل صار الجنس معلوما وإذا قال : حيوان [ ص: 132 ] صار النوع معلوما وإذا قال : جذع أو ثني يصير السن معلوما وإذا قال : ثمين تصير الصفة معلومة وإعلام الشيء من الأعيان بهذه الأشياء وشرط جواز العقد إعلام العين ولا يعتبر بعد ذلك جواز نفع في المالية كما في الذبائح والثياب الفاخرة والدليل عليه أن بني إسرائيل استوصفوا البقرة فوصفها الله تعالى لهم وأدركوها بتلك الصفة حيث قالوا : { الآن جئت بالحق } وقال : صلى الله عليه وسلم { لا يصف الرجل الرجل بين يدي امرأته حتى كأنها تنظر إليه } فقد جعل الموصوف من الحيوان كالمرئي

والدليل عليه أنه يثبت في الذمة مهرا وأن الدعوى والشهادة في الحيوان تسمع بذكر الصفة فدل أنها تصير معلومة بذكر الوصف بخلاف اللآلئ والجواهر فالسلم في الصغار من اللآلئ يجوز وزنا أما الكبار منها فلا يمكن إعلامها لكون المقصود التدوير والصفاء والماء وليس لذلك حد معلوم يوقف عليه فإذا بالغ في بيانه يصير بذلك عديم النظير وفي مثله لا يجوز السلم ولهذا لا يثبت مهرا في الذمة وحجتنا في ذلك حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن السلم في الحيوان } وفي الكتاب قال : ( بلغنا عن عبد الله بن مسعود ) وإنما فسر هذا الحديث في أول كتاب المضاربة أن ابن مسعود دفع مالا مضاربة إلى زيد بن خليدة فأسلمها زيد إلى عتويس بن عرقوب في قلانص معلومة فقال عبد الله بن مسعود اردد مالنا لا نسلم أموالنا في الحيوان وقد روينا عن عمر بن الخطاب أنه قال : إن من الربا أبوابا لا يكدن يخفين على أحد منها السلم في السن وقد بينا تأويل آثارهم وما روي أنه استقرض بكرا فالمراد استعجل في الصدقة ثم لم تجب الزكاة على صاحبها فردها رباعيا أو استقرض لبيت المال وكما يجوز أن يثبت لبيت المال حق مجهول يجوز أن يثبت ذلك على بيت المال أيضا والمعنى فيه أنه أسلم في مجهول فلا يجوز كما لو أسلم في الحلقات أو الجواهر وهذا لأن المسلم فيه مبيع وشرط جواز العقد القدرة على التسليم ولا يوجد ذلك إذا كان المسلم فيه مجهولا وبيان الوصف أن بعد ذكر الأوصاف التي يشترطها الخصم يبقى تفاوت عظيم في المالية فإنك تجد فرسين مستويين في السن والصفة ثم تشتري أحدهما بأضعاف ما تشتري به الآخر لتفاوت بينهما في المعاني الباطنة كالهملجة وشدة العدو وكذلك في البعيرين وهذا في بني آدم لا يخفى فإن العبدين والأمتين يتساويان في السن والصفة ويختلفان في المالية لتفاوتهما في الذهن [ ص: 133 ] والكياسة . وفيه يقول القائل :

رب واحد يعدل ألفا زائدا وألوف تراهم لا يساوون واحدا

وكما أن العين مقصود ، فالمالية أيضا مقصودة ، بل أكثر لأن المقصود هو الاسترباح وذلك بالمالية يكون .

فإذا كان الحيوان بذكر الأوصاف لا يلتحق بذوات الأمثال في معنى المالية ; قلنا : لا يجوز السلم فيها بخلاف الثياب فإنها مصنوع بني آدم . فما لم يكن معلوما لهم لا يتمكنون من اتخاذها ، والثياب إذا نسجت في منوال واحد على هيئة واحدة لا تتفاوت في المالية إلا يسيرا ، ولا معتبر بذلك القدر كالتفاوت بين الجيد والرديء في الحنطة في المالية . فأما الحيوان مصنوع الله تعالى وذلك يكون على ما يريده فقد يكون على وجه لا نظير له ولو بالغ فاستقصى في بيان وصفه يصير عديم النظير ، وذلك لا يجوز السلم فيه بالاتفاق ويوضحه أن أقرب الحيوانات إلى الثياب الغنم ، وما هو المقصود من الغنم غير مرئي بل هو تحت الجلد ، ويقع فيه تفاوت عظيم ، وما هو المقصود في الثياب ظاهر مرئي ، وقد ذكر عمرو بن أبي عمرو عن محمد رحمهما الله تعالى قال : قلت : له إنما لا يجوز السلم في الحيوان لأنه غير مضبوط بالوصف ، قال : ( لا فإنا نجوز السلم في الذبائح ولا نجوز في العصافير ) ولعل ضبط العصافير بالوصف أهون من ضبط الذبائح ; ولكنه للسنة . وإنما ذكر الله تعالى لبنى إسرائيل الأوصاف الظاهرة وذلك يمكن إعلامه عندنا ثم كان المقصود التشديد عليهم لما استقصوا في الاستيصاف .

هكذا قاله ابن عباس وإنما نهى صلى الله عليه وسلم عن الاستيصاف لخوف الفتنة وذلك يقع بالأوصاف الظاهرة ، وكذلك سماع الدعوى والشهادة لأن الأوصاف الظاهرة منها تصير معلومة ، وثبوته في الذمة مهرا لكون النكاح مبنيا على التوسع ، فإن المقصود به شيء آخر سوى المالية بخلاف السلم ، ولهذا يجوز من غير بيان الوصف هناك

التالي السابق


الخدمات العلمية