صفحة جزء
والكلام في شرط صحة البراءة من كل عيب ينبني على صحة الإبراء عن الحقوق المجهولة فالشافعي لا يجوز ذلك ، وقد قام الدليل على جوازه لنا في ذلك حديث { علي رضي الله عنه حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصالح بني جذيمة فواداهم حتى ميلغة الكلب وبقي في يديه مال فقال هذا لكم ما لا تعلمونه ولا يعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر } فهذا دليل جواز الصلح عن الحقوق المجهولة والمعنى فيه أن هذا إسقاط حق [ ص: 93 ] لا يحتاج فيه إلى التسليم فيصح في المجهول كالطلاق والعتاق ، وتأثيره أن نفس الجهالة لا تمنع صحة الالتزام ولكن جهالة تفضي إلى تمكن المنازعة ألا ترى أن التمليكين يصح في هذا وهذا أضيق من الإسقاطات ثم الجهالة التي لا تفضي إلى المنازعة لا تمنع صحة التمليك كجهالة القفيز من الصبرة فلأن لا يمنع صحة الإسقاط أولى فالسقوط يكون متلاشيا لا يحتاج فيه إلى التسليم والجهالة التي لا تفضي إلى المنازعة أولى ولا معنى لقول من يقول إن الإيجاب في المجهول في معنى التعليق بشرط البيان فما لا يحتمل التعليق بالشرط لا يصح إيجابه في المجهول ; لأن الشرط داخل على نفس السبب حتى يجعله في حكم تصرف آخر هو يمين .

والجهالة تدخل على حكم السبب فإذا كانت تفضي إلى المنازعة يتعذر إثبات الحكم مع الجهالة وإذا كانت لا تفضي إلى المنازعة لا تتعذر فلا يمنع صحته هذا الشرط ثبت جواز العقد معه ; لأن هذا الشرط يقرر مقتضى العقد ومقتضى العقد اللزوم ، والعقد بهذا الشرط يلزم سليما كان المبيع أو معيبا ثم البائع بهذا الشرط يمتنع من التزام ما لا يقدر على تسليمه ; لأن عند إطلاق العقد يلتزم تسليم المبيع بصفة السلامة وإذا كان معيبا فهو عاجز عن تسليمه سليما وعند هذا الشرط يلتزم التسليم على الصفة التي عليها المبيع وهو قادر على تسليمه بتلك الصفة ، والقدرة على التسليم شرط جواز العقد لا أن يكون موجبا فساد العقد ثم لا يتمكن جهالة في المبيع بهذا الشرط ; لأنه مشار إليه معلوم بالإشارة إلى عينه وإلى مكانه ، وليس مقصوده من هذا الشرط الإقرار بالعيوب به فلا يجتمع كل عيب في عيب واحد ، وإنما يقصد بذكر هذا الشرط التزام البيع والتزام التسليم على وجه يقدر عليه وهذا من الحكمة ; ولهذا قلنا : إن المشتري بقوله لا عيب به لا يصير مقرا بإسقاط العيوب عنه بل قصده من ذلك ترويج السلعة بخلاف قوله ليس بآبق ففي تخصيصه هذا العيب بالذكر ما يدل على أن مراده نفي هذا العيب عنه ولئن تمكنت جهالة في وصف المعقود عليه بهذا الشرط فهي جهالة لا تفضي إلى المنازعة فلا يؤثر في العقد كجهالة مقدار العيب المسمى وكان ابن أبي ليلى - رحمه الله - يقول : لا تصح البراءة من العيب مع التسمية ما لم يره المشتري .

وقد جرت المسألة بينه وبين أبي حنيفة في مجلس الدوانيقي فقال له أبو حنيفة : أرأيت لو أن بعض حرم أمير المؤمنين باع عبدا برأس ذكره برص أكان يلزمها أن يرد ذلك المشتري وما زال به حتى أفحمه وضحك الخليفة مما صنع به فإذا عرفنا جواز العقد لهذا الشرط قلنا : تدخل فيه البراءة من كل عيب موجود به وقت العقد ، فإن حدث بيع عيب آخر بعد البيع وقبل التسليم فهو داخل في هذه البراءة أيضا في قول أبي حنيفة رضي الله عنه وهو الظاهر من قول أبي يوسف رحمه الله ، وقال محمد وزفر والحسن - رحمهم الله - لا تدخل البراءة عن العيب الحادث في هذا الشرط وهو رواية عن أبي يوسف ; لأن ذلك مجهول لا يدري أيحدث أم لا وأي مقدار يحدث ولو صرح بالتبري من [ ص: 94 ] العيب الذي يحدث قبل القبض فسد به العقد ولو دخل في هذا الشرط لفسد العقد به أيضا فأبو يوسف - رحمه الله - يقول العيب الحادث قبل القبض لما جعل كالموجود عند العقد في ثبوت حق الرد فكذلك يجعل كالموجود عند العقد في دخوله في شرط البراءة من كل عيب وهذا ; لأن مقصود البائع إثبات صفة اللزوم للعقد والامتناع من التزام ما لا يقدر على تسليمه ، وفي هذا لا فرق بين العيب الموجود والحادث قبل القبض ولا رواية عن أبي يوسف فيما إذا نص على البراءة عن العيب الحادث .

وقيل : ذلك صحيح عندنا باعتبار أنه يقيم السبب وهو العقد مقام نفس العقد الموجب للرد في صحة الإسقاط ، ولئن سلمنا فنقول هنا : ظاهر لفظه يتناول العيوب الموجودة ثم يدخل فيه ما يحدث قبل القبض تبعا ; لأن ذلك يرجع إلى تقرير مقصودهما ، وقد يدخل في التصرف تبعا ما لا يجوز أن يكون مقصودا بذلك التصرف كالشرب في بيع الأرض والمنقولات في وقف القربة ، ولو كان شرط البراءة من كل عيب به فهذا يفسد العيب الموجود فلا يتناول الحادث بالاتفاق ، وإن اختلفا في عيب فقال المشتري أنه حدث بعد العقد قال البائع بل كان موجودا عند العقد ، فإن كان شرط البراءة من كل عيب فالقول قول المشتري ، وإن كان شرط البراءة من كل عيب فعلى قول محمد القول في ذلك قول البائع ، وعند زفر القول قول المشتري ; لأنه هو المسقط لحقه فالقول في بيان ما أسقط قوله كما في الفصل الأول ، ومحمد يقول : قد ظهر المسقط مطلقا فالمشتري إذا ادعى خروج شيء بعينه من ذلك المطلق لا يقبل قوله في ذلك إلا بحجة كما لو أبرأه عن كل حق له عليه ثم اختلفا في دين أنه كان موجودا وقت الإبراء أو حدث بعده فإنه يجعل القول قول من يدعي دخوله في البراءة المطلقة لهذا المعنى بخلاف ما إذا شرط البراءة من كل عيب به ; لأن المسقط هنا ما ظهر إلا مقيدا بوصف فإذا أنكر المشتري في عيب عينه أنه ما دخل في ذلك الإيجاب المقيد وجب المصير إلى قوله كما في البراءة المقيدة بمكان أو زمان

التالي السابق


الخدمات العلمية