صفحة جزء
وينبغي له أن يقضي بما في كتاب الله فإن أتاه شيء لم يجده فيه قضى فيه بما أتاه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم يجده فيه نظر فيما أتاه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم فقضى ، وقد بينا هذا فيما سبق والحاصل أنه إذا صح له قول عن واحد من المعروفين من الصحابة رضي الله عنهم قضى به وقدمه على القياس لقوله صلى الله عليه وسلم { أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم } ، ولأن فيما يبلغه عن الصحابي رضي الله عنه احتمال السماع فقد كانوا يسمعون من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم يفتون به تارة ويرون أخرى ، وفيه أيضا احتمال ترجيح الإصابة في نفس الرأي فقد وفقوا لما لم يوفق غيرهم بعدهم فإن كانوا اختلفوا فيه تخير من أقاويلهم أحسنها في نفسه ، وليس له أن يخالفهم جميعا ويبتدع شيئا من رأيه ; لأنهم لو اجتمعوا على قول لم يجز لأحد أن يخالفهم . فإذا اختلفوا على أقاويل محصورة فذلك إجماع منهم على أن الحق لا يعدو مما قالوا فلا يجوز لأحد أن يخالفهم ويبتدع شيئا من رأيه ، ولكنه يختار أحسن الأقاويل في نفسه ; لأنهم لما اختلفوا ولم تجر المحاجة بينهم بالرواية فقد انقطع احتمال السماع وتعين القول بالرأي فتعارض أقاويلهم كتعارض الأقيسة ، وعند ذلك على القاضي أن يصير إلى الترجيح ويعمل بما ظهر الرجحان فيه . فكذلك عند اختلاف الصحابة رضوان الله عليهم يصير إلى الترجيح فإن لم يبن له وجه الترجيح فله أن يعمل بأي الأقاويل شاء ; لأن بالتعارض لا تنعدم الحجة في أقاويلهم فينبغي أن يعمل بأحسنها في نفسه ، ويكون ذلك عملا منه بالحجة فإن لم يجده في ما جاءه عن أحد منهم اجتهد رأيه في ذلك وقاسه بما جاء منه ، ثم قضى بالذي يجتمع رأيه عليه من ذلك ويرى أنه الحق ; لأنه مأمور بفصل القضاء .

والتكليف بحسب الوسع والذي في وسعه اجتهاد الرأي عند انقطاع سائر الأدلة عنه فيشتغل به إذ كان من أهله كمن اشتبه عليه القبلة عند انقطاع الأدلة والأصل فيه قوله تعالى [ ص: 84 ] { فاعتبروا يا أولي الأبصار } والاعتبار رد الشيء إلى نظيره فالعبرة هو البيان قال الله تعالى { إن كنتم للرؤيا تعبرون } والبيان يرد الشيء إلى نظيره .

فإن أشكل عليه شاور رهطا من أهل الفقه فيه ، وكذلك إن لم يكن من أهل الاجتهاد فعليه أن يشاور الفقهاء ; لأنه يحتاج إلى معرفة الحكم ليقضي به ، وقد عجز عن إدراكه بنفسه فليرجع إلى من يعرف ذلك كما إذا احتاج معرفة قيمة شيء فإن اختلفوا فيه نظر إلى أحسن أقاويلهم وأشبهها بالحق فأخذ به كما بينا عند اختلاف الصحابة رضوان الله عليهم إلا أن هنا إن رأى خلاف رأيهم فإن استحسن وأشبه الحق قضى بذلك ; لأن إجماعهم لا ينعقد بدون رأيه وهو واحد منهم ، ولأن رأيه أقوى في حقه من رأي غيره فلو قضى برأيه كان قاضيا بما هو الصواب عنده . وإذا قضى برأي غيره كان قاضيا بما عنده أنه خطأ وقضاؤه بما عنده أنه هو الصواب أولى ، وإن لم يكن من أهل اجتهاد الرأي ليختار بعض الأقاويل نظر إلى أفقههم عنده وأورعهم فقضى بفتواه فهذا اجتهاد مثله ولا يعجل بالحكم إذا لم يبن له الأمر حتى يتفكر فيه ويشاور أهل الفقه ; لأنه مأمور بالقضاء بالحق ولا يستدرك ذلك إلا بالتأمل والمشورة .

وقال صلى الله عليه وسلم { التأني من الله والعجلة من الشيطان } والأصل في الباب حديث الشعبي رضي الله عنه قال كانت القضية ترفع إلى عمر رضي الله عنه وربما يتأمل في ذلك شهرا ويستشير أصحابه واليوم يفصل في المجلس ما به قضية وحديث ابن مسعود رضي الله عنه في المفوضة معروف فإنه ردهم شهرا ، ثم قال أقول فيه برأيي فإن يك صوابا فمن الله ورسوله ، وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان الحديث فعرفنا أنه ينبغي للقاضي أن يتأنى ويشاور عند اشتباه الأمر .

وإذا قضى بقضاء ، ثم بدا له أن يرجع عنه فإن كان الذي قضى به خطأ لا يختلف فيه رده وأبطله يعني إذا كان مخالفا لنص ، أو لإجماع فالقضاء بخلاف النص والإجماع باطل وهو جهل من القاضي ، وفي الحديث { ردوا الجهالات إلى السنة } فإن كان خطأ مما يختلف فيه أمضاه على حاله وقضى فيما يستقبل بالذي أدى إليه اجتهاده ويرى أنه أفضل ; لأن القضاء الأول حصل في موضع الاجتهاد فنفذ ولزم على وجه لا يجوز إبطاله والأصل فيه ما روي أن عمر رضي الله عنه كان يقضي في حادثة بقضية ، ثم ترفع إليه تلك الحادثة فيقضي بخلافها فكان إذا قيل له في ذلك قال تلك كما قضينا وهذه كما يقضى وقال الشعبي رحمه الله حفظت من عمر رضي الله عنه في الحد سبعين قضية لا يشبه بعضها بعضا وبهذا يتبين أن الاجتهاد لا ينقض باجتهاد مثله ، ولكنه فيما يستقبل يقضي بما أدى إليه اجتهاده وأصله في التحري للقبلة وذكر عن شريح [ ص: 85 ] رحمه الله أنه كان يقضي بالقضاء ، ثم يبدو له فيرجع عنه ولا يرجع فيما كان قضى به يعني في المجتهدات كان إذا تحول رأيه بني فيما يستقبل على ما أدى إليه اجتهاده ولم ينقض ما كان قضى به ، وفيه دليل أن التابعي إذا أدرك من الصحابة رضي الله عنهم وسوغوا له الاجتهاد معهم فإن رأيه يعارض رأيهم ; لأن شريحا رحمه الله كان قاضيا في زمن عمر وعلي رضي الله عنهما ، ثم كان يبني القضاء على رأيه ولا يرجع إليهما فيما كان يبدو له ، وقد سوغوا له ذلك حتى كان عليا رضي الله عنه يقول له قل لي يا أيها العبد ألا تنظر ، وقد رجع ابن عباس رضي الله عنهما إلى قول مسروق رحمه الله في مسألة نحر الولد وعن عامر قال { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي بالقضاء فينزل عليه القرآن بخلافه فيمضي ما قضى به ويستأنف القضاء } ، وفي هذا دليل على أنه كان يقضي باجتهاده في ما لم يوح إليه فيه ، وقد بينا أنه كان لا يعجل بذلك ، ولكن كان ينتظر الوحي .

فإذا انقطع طمعه عن الوحي فيه قضى باجتهاده وصار ذلك شريعة ، ثم ينزل القرآن بخلافه بعد ذلك فيكون ناسخا له ونسخ السنة بالكتاب جائز عندنا ونظيره أمر القبلة فإنه صلى الله عليه وسلم بعد ما قدم المدينة كان يصلي إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا ، ثم انتسخ ذلك بالأمر بالتوجه إلى الكعبة وكان يستأنف القضاء بالناسخ ولا يبطل ما قضى به ; لأن النسخ ينهي مدة الحكم ولا يبين أنه لم يكن حقا قبل نزول الناسخ واستدل بهذا الحديث على ما تقدم من المجتهدات فإنه لا ينقض ما كان قضى به إلا أنهما يفترقان من حيث إن الرأي لا ينسخ الرأي وعن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فمن قضيت له بشيء من مال أخيه بغير حق فإنما أقضي له بقطعة من النار } معنى قوله ألحن أفطن وأقدر على البيان فاللحن في اللغة هو الفطنة ، وفيه دليل لمن يقول إن بقضاء القاضي لا يحل ما كان حراما فيكون حجة لمحمد رحمه الله في مسألة قضاء القاضي في العقود والفسوخ وأبو حنيفة رحمه الله يقول المراد الأملاك المرسلة والمراد بيان الوعيد لمن يدعي الباطل ويقيم عليه شهود الزور فالوعيد يلحقه بذلك عندنا ، وإن كان الملك يثبت له بقضاء القاضي بسببه

التالي السابق


الخدمات العلمية