صفحة جزء
. ( باب ادعاء الولد ) ( قال رحمه الله ذكر عن شريح رحمه الله أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إليه إذا أقر الرجل بولده لم يكن له أن ينفيه ، وهكذا عن علي رضي الله عنه وبقولهما نأخذ أنه متى ثبت النسب بإقراره لم يكن له أن ينفيه بعد ذلك ) ; لأن النسب لا يحتمل النقض والنسخ [ ص: 99 ] ولا يتصور تحويله من شخص إلى شخص وبإقراره ثبت منه لكون الإقرار حجة عليه فإن ( قيل ) أليس أن النسب يثبت من الزوج بفراش النكاح ، ثم يملك نفيه باللعان ( قلنا ) ; لأن ثبوته هناك بحكم الفراش على احتمال أن لا يكون منه فيتصور نفيه أما هنا بثبوت النسب منه بتنصيصه على أنه مخلوق من مائه فلا يبقى بعده احتمال النفي كالمشتري إذا أقر بالملك للبائع ، ثم استحق من يده ورجع بالثمن لم يبطل إقراره حتى إذا عاد إلى يده يوما يؤمر بتسليمه إلى البائع بخلاف ما إذا اشتراه ، ولم يقر له بالملك ; لأن نفس الشراء ، وإن كان إقرارا بالملك فالاحتمال فيه باق بخلاف الإقرار به نصا وعن جابر رضي الله تعالى عنه قال مر عمر رضي الله عنه على جارية تسقي مع رجل من بئر فقال لمن هذه فقالوا لفلان قال : ولعله يطؤها قالوا نعم قال أما إنها لو ولدت ألزمته ولدها وبظاهره يأخذ الشافعي رحمه الله فنقول الأمة تصير فراشا بنفس الوطء ، ولا حجة له فيه ; لأن عنده الفراش إنما يثبت بإقرار المولى وهنا الإقرار في الأجانب وبه لا يثبت الفراش .

فأما أن يحمله على أنه عرف أنها أم ، ولده أو يحمله على أن مراده من ذلك حث الناس على تحصين الجواري ، ومنعهن عن الاختلاط بالرجال فقد ظهر عن عمر رضي الله عنه ما يخالف هذا على ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان له جارية ، وكان يطؤها فجاءت بولد ونفاه ، وقال اللهم لا يلحق بآل عمر من لا يشبههم فأقرت أنه من فلان الراعي .

وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه كان يطأ جاريته فجاءت بولد فنفاه فقال كنت أطؤها ، ولا أبغي ، ولدها أي أعزل عنها ، وهكذا نقل عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما والذي ذكر في الكتاب عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر رضي الله عنه قال من وطئ وليدة له فضيعها فالولد منه والضياع عليه لا حجة فيه للخصم ; لأن الوليدة اسم لأم الولد فإنه فعيل بمعنى فاعل أي : والدة وذكر عن عمر رضي الله عنه قال حصنوهن أو لا تحصنوهن أيما رجل وطئ جارية فجاءت بولد ألزمته إياه ، وإنما قال ذلك على سبيل الحث للناس على تحصين السراري ومنعهن عن الخروج ، ثم لا خلاف بين العلماء رحمهم الله أن النسب يثبت بالفراش والفراش تارة يثبت بالنكاح وتارة يثبت بملك اليمين فأما الفراش في النكاح الصحيح يثبت بنفسه إذا جاءت بالولد لمدة يتوهم أن العلوق بعد النكاح ثبت النسب على وجه لا ينتفي إلا باللعان إذا كان من أهل اللعان ، وكذلك النسب يثبت بشبهة النكاح إذا اتصل به الدخول ، وهذه الشبهة تثبت بالنكاح الفاسد تارة ، وبإخبار المخبر أنها امرأته تارة ; لأن الشبهة تعمل عمل الحقيقة فيما هو مبني على [ ص: 100 ] الاحتياط ، وأمر النسب مبني على الاحتياط .

( ألا ترى ) أن في حق وجوب المهر والعدة جعلت الشبهة بمنزلة حقيقة النكاح فكذلك في النسب ومتى ثبت النسب بالشبهة لا يمكن نفيه بحال ; لأن نفي النسب بعد ثبوته لا يكون إلا باللعان ، ولا يجري اللعان في النكاح الفاسد والوطء بالشبهة .

وأما بملك اليمين لا خلاف أن النسب لا يثبت بنفس الملك ، ولا بالوطء بشبهة الملك بدون الدعوة ، وإنما الخلاف في أن بنفس الوطء بملك اليمين هل يصير فراشا حتى لا يثبت النسب به عندنا إلا أن يقر المولى بالنسب وعند الشافعي يثبت بنفس الوطء ، ولكن إذا كان المولى يطؤها ويمنعها من الخروج فالأولى له أن يدعي ولدها ، ولا ينفيه فإن الميرة في هذا ، ولكن لا يلزمه حكما إلا بالدعوة واحتج الشافعي بما روي عن { عبد الله بن زمعة وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما اختصما بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ولد ولدته زمعة فقال عبد ولد أبي ولد على فراش أبي وقال سعد رضي الله عنه ابن أخي عهد إلي فيه أخي وأمرني أن أضمه إلى نفسي فقال صلى الله عليه وسلم هو لك يا عبد الولد للفراش وللعاهر الحجر } فقد أثبت النسب من زمعة بإقرار من يخلفه بوطئه إياها ، ولم يسبق من زمعة دعوة النسب فدل أن الفراش يثبت بنفس الوطء .

والمعنى فيه : أنه وضع ماءه حيث له وضعه فيثبت النسب منه كما في فراش النكاح ; وهذا لأن الوطء بملك اليمين ينزل منزلة عقد النكاح .

( ألا ترى ) أنه تثبت به حرمة المصاهرة كما يثبت بالنكاح بل أقوى فحرمة الربيبة تثبت بالوطء ، ولا يثبت بنفس النكاح ، وكذلك يحرم الجمع بين الأختين وطئا بملك اليمين كما يحرم الجمع بينهما نكاحا ، ثم الفراش في حق النسب يثبت بالنكاح فكذلك بالوطء بملك اليمين ، ولنا أن وطء الأمة كملكها وبملكها لا يثبت الفراش ; لأنه محتمل قد يكون لبيعها ، وقد يكون لوطئها فكذلك وطؤه إياها محتمل قد يكون للاستفراش ، وقد يكون لقضاء الشهوة ، وتحقيق ذلك بالعزل عنها عادة ، وينفرد بذلك شرعا والمحتمل لا يكون حجة فلا يثبت منه إلا بالدعوة التي لا يبقى بعدها احتمال بخلاف النكاح فإنه لا يكون إلا للفراش عادة .

( ألا ترى ) أن التمكن من الوطء هناك جعل بمنزلة حقيقة الوطء وهنا بالتمكن من الوطء لا يثبت النسب بالاتفاق للاحتمال فكذلك بحقيقة الوطء ; ولأن هناك لا يبطل بثبوت النسب ملكا باتا للزوج ، وهنا يبطل ملك المالية والتصرف فيها بثبوت نسب ولدها .

والمحتمل لا يكون حجة في إبطال الملك المتحقق به وبه فارق حرمة المصاهرة فليس في إثباتها إبطال الملك بل باب الحرمة مبني على الاحتياط فيجوز إثباته مع الاحتمال ; ولأن [ ص: 101 ] ثبوته باعتبار الاتحاد بين الواطئين حسا حتى تصير أمهاتها ، وبناتها كأمهاته وبناته وذلك حاصل بملك اليمين .

( ألا ترى ) أن الرضاع في إثبات الحرمة جعل كالنسب ، ولم يجعل كهو في إبطال الملك به يعني بالعتق عليه ، وكذلك حرمة الجمع بين الأختين نكاحا للتحرز عن قطيعة الرحم بينهما وذلك يحصل بالوطء بملك اليمين .

فأما حديث عبد فقد ذكر أبو يوسف رحمه الله في الأمالي أن وليدة زمعة كانت أم ولد له وفي بعض الروايات في الحديث زيادة { قال ولد أبي ولد على فراش أبي لأني أقربه أبي } وعندنا إذا أقر المولى بالنسب يثبت النسب منه على أن قوله صلى الله عليه وسلم هو لك يا عبد ليس بقضاء بالنسب بل هو قضاء بالملك له لكونه ولد أمة أبيه ، ثم أعتقه عليه بإقراره بنسبه .

( ألا ترى ) أنه عليه الصلاة والسلام { قال لسودة فأما أنت يا سودة فاحتجبي منه فإنه ليس بأخ لك } والمراد من قوله صلى الله عليه وسلم الولد للفراش تأكيد نفي النسب عن عتبة بن أبي وقاص رضي الله عنه ; لأنه كان عاهرا لإلحاق النسب بزمعة .

التالي السابق


الخدمات العلمية