صفحة جزء
وذكر عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال : كان علي - كرم الله - وجهه لا يحضر خصومة أبدا وكان يقول : " إن الشيطان ليحضرها وإن لها قحما " الحديث . وفيه دليل على أن التحرز عن الخصومة واجب ما أمكن لما أشار إليه رضي الله عنه أنه موضع لحضرة الشيطان ، وأن للخصومة قحما أي مهالك .

وقال صلى الله عليه وسلم { كفى بالمرء إثما أن لا يزال مخاصما ، قال : وكان إذا خوصم في شيء من أمواله وكل عقيلا رضي الله عنه } ، وفيه جواز التوكيل بالخصومة ، وبظاهره يستدل أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - في جواز التوكيل بغير رضا الخصم ; لأن عليا رضي الله عنه لم يطلب رضا خصومه ، ولكن الظاهر أن خصومه كانوا يرضون بتوكيله ; لأنه كان أهدى إلى طرق الخصومة من غيره لوفور علمه ، وإنما كان يختار عقيلا رضي الله عنه ; لأنه كان ذكيا حاضر الجواب ، حتى حكي أن عليا رضي الله عنه استقبله يوما ومعه عنز له ، فقال له علي رضي الله عنه على سبيل الدعابة : أحد الثلاثة أحمق ، فقال عقيل رضي الله عنه أما أنا وعنزي فعاقلان ، قال فلما كبر سن عقيل وكل عبد الله بن جعفر ، إما أنه وقره لكبره ، أو لأنه انتقص ذهنه فكان يوكل عبد الله بن جعفر رضي الله عنه ، وكان ذكيا شابا ، وقال : " هو وكيلي فما قضي عليه فهو علي ، وما قضي له فهو لي " .

وفي هذا دليل على أن الوكيل يقوم مقام الموكل ، وأن القضاء عليه بمنزلة القضاء على الموكل ، قال فخاصمني طلحة بن عبد الله رضي الله عنه في ضفير أحدثه علي رضي الله عنه بين أرض طلحة وأرض نفسه ، والضفير : المسناة وفيه دليل على أنهم كانوا يختصمون فيما بينهم ، ولا نظن بواحد منهم سوى الجميل ، لكن كان يستبهم عليهم الحكم فيختصمون إلى الحاكم ليبينه لهم ، ولهذا كانوا يسمون الحاكم فيهم : المفتي ، فوقع عند طلحة رضي الله عنه أن عليا - كرم الله وجهه - أضر به وحمل عليه السيل ، ولم ير علي رضي الله عنه في ذلك ضررا حين أحدثه ، قال : فوعدنا عثمان رضي الله عنه أن يركب معنا فينظر إليه ، وفيه دليل على أن فيما تفاقم من الأمر ينبغي للإمام أن يباشره بنفسه ، وأن يركب إن احتاج إلى ذلك ، فقال : والله إني وطلحة نختصم في المواكب ، وإن معاوية رضي الله عنه على بغلة شهباء أمام الموكب قد قدم قبل ذلك وافدا ، فألقى كلمة عرفت أنه أعانني بها ، قال : أرأيت هذا الضفير كان على عهد عمر رضي الله عنه ؟ ، قال : قلت نعم ، قال : لو كان جورا ما تركه عمر رضي الله عنه ، وفي هذا بيان أنه لم يكن بين علي ومعاوية رضي الله عنهما في أول [ ص: 4 ] الأمر ، سوى الجميل إلى أن نزغ الشيطان بينهما ، فوقع ما وقع ، قال : فسار عثمان رضي الله عنه حتى رأى الضفير فقال : ما أرى ضررا ، وقد كان على عهد عمر رضي الله عنه ولو كان جورا لم يدعه ، وإنما قال ذلك ; لأن عمر رضي الله عنه كان معروفا بالعدل ودفع الظلم ، على ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { أينما دار عمر فالحق معه } ، وفيه دليل على أن ما وجد قديما يترك كذلك ولا يغير إلا بحجة ، فإن عثمان رضي الله عنه ترك الضفير على حاله بسبب أنه كان قديما ، وذكر عن شريح رحمه الله أنه يجيز بيع كل مجيز ، الوصي والوكيل ، والمجيز : ما يتم العقد بإجازته ، وفيه بيان أن العقود تتوقف على الإجازة ، وأن من يملك إنشاء العقد يملك إجازته ، وصيا كان ، أو وكيلا ، أو مالكا ; لأن المعتبر أن يكون تمام العقد برأيه ، وذلك ما حصل بإجازته ، وذكر عن شريح - رحمه الله - أنه قال : " من اشترط الخلاص فهو أحمق ، سلم ما بعت ، أو ذر ما أخذت ولا خلاص " وبه أخذ علماؤنا - رحمهم الله - بخلاف ما يقوله إبراهيم النخعي - رحمه الله - أن من باع عبدا يؤاخذ بخلاصه ، يعني : إذا شرط .

( وهذه ثلاثة فصول ) الأول - اشتراط الدرك ، وتفسيره : رد اليمين لاستحقاق المبيع ، وهو شرط صحيح ; لأنه يلائم موجب العقد ، وهو ثابت بدون الشرط ، فلا يزيده الشرط إلا وكادة ، والثاني - شرط العهدة وهو جائز عند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - فإنه عبارة عن ضمان الدرك عندهما ، وعند أبي حنيفة - رحمه الله - هو باطل ، وتفسيره : الصك الأصلي الذي كان عند البائع يشترط المشتري عليه أن يسلمه إليه ، وهذا شرط فيه منفعة لأحد المتعاقدين ، ولا يقتضيه العقد فكان باطلا ، والثالث - شرط الخلاص ، وتفسيره : أن يشترط على البائع أن المبيع إذا استحق من يده يخلصه حتى يسلمه إليه بأي طريق يقدر عليه ، وهذا باطل ; لأنه شرط لا يقدر على الوفاء به ، فالمستحق ربما لا يساعده عليه ، ولهذا ينسبه شريح - رحمه الله - إلى الحماقة ، حيث التزم ما ليس في وسعه الوفاء به ، وإذا وكل الرجل بالخصومة في شيء فهو جائز ; لأنه يملك المباشرة بنفسه ، فيملك هو صكه إلى غيره ليقوم فيه مقامه ، وقد يحتاج لذلك ، إما لقلة هدايته ، أو لصيانة نفسه عن الابتذال في مجلس الخصومة ، وقد جرى الرسم على التوكيل على أبواب القضاة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا ، من غير نكير منكر ، ولا زجر زاجر

التالي السابق


الخدمات العلمية