صفحة جزء
وإذا اجتمع الموجب للحد ، والمسقط له ترجح المسقط على الموجب وأبو حنيفة وأبو يوسف استدلا بما روينا من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن الصحابة رضي الله عنهم ، وأقوى ما يستدل به قول الرسول عليه الصلاة والسلام { : حرمت الخمر لعينها ، والمسكر من كل شراب } ، وبهذا تبين أن اسم الخمر لا يتناول سائر الأشربة حقيقة ; لأن عطف الشيء على نفسه لا يليق بحكمة الحكيم [ ص: 16 ] وقد بينا أنه كان يسمى خمرا لمعنى مخامرة العقل بطريق المجاز ، والمجاز لا يعارض الحقيقة ، وما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال { : كل مسكر خمر } لا يكاد يصح ، فقد قال يحيى بن معين رحمه الله ثلاث لا يصح فيهن حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر في جملتها كل مسكر خمر ، ثم مراد النبي عليه الصلاة والسلام تشبيه المسكر بالخمر في حكم خاص ، وهو الحد ، فقد بعث مبينا للأحكام دون الأسامي ، ونحن نقول : إن المسكر ، وهو القدح الأخير مشبه للخمر في أنه يجب الحد بشربه ، وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى يوم النحر عام حجة الوداع ، فأتي بنبيذ من السقاية ، فلما قربه إلى فيه قطب وجهه ، ورده قال العباس رضي الله عنه : أحرام هذا يا رسول الله ؟ فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم ، ودعا بماء ، وصب عليه ، ثم شرب ، وقال إنه إذا استلبث عليكم شيء من الأشربة ، فاكسروا متونها بالماء } ، فقد كان مشتدا ، ولهذا قطب وجهه ، ورده ثم لما خاف أن يظن الناس أنه حرام أخذه ، وشربه ، فدل أن المشتد من المثلث لا بأس بشربه .

ولا يقال : إنما قطب وجهه لحموضته ; لأن شرب السقاية إنما كان يتخذ لشرب الحاج ، ولا يسقى الخل العطشان ، فعرفنا أنه قطب وجهه للشدة ، والمعنى فيه أن الخمر موعود للمؤمنين في الآخرة قال الله تعالى { : وأنهار من خمر لذة للشاربين } ، فينبغي أن يكون من جنسه في الدنيا مباحا يعمل عمله ليعلم بالإصابة منه تلك اللذة ، فيتم الترغيب فيه ، وما هو مباح في الدنيا يصير كالأنموذج لما هو موعود في دار الآخرة .

( ألا ترى ) أنه لما وعد الله المؤمنين الشرب في الكأس في الذهب والفضة في الآخرة أحل من جنسه في الدنيا ، وهو الشرب من الكأس المتخذ من الزجاج ، والبلور ، وغير ذلك لهذا المعنى ، ولهذا المعنى وعد المؤمنين الحلية في الآخرة أحل لهم ما هو من جنس ذلك في ذلك ، وتقرر هذا الحرف من وجه آخر ، فنقول إن الشرع حرم الخمر ، ولا شك أن هذه الحرمة لمعنى الابتلاء ، وإنما يتحقق معنى الابتلاء بعد العلم بتلك اللذة ليكون في الامتناع منه عملا بخلاف هوى النفس ، وتعاطيها للأمر ، وحقيقة تلك اللذة لا تصير معلومة بالوصف بل بالذوق ، والإصابة ، فلا بد من أن يكون من جنس ذلك ما هو حلال لتصير تلك اللذة به معلومة بالتجربة ، فيتحقق معنى الابتلاء في تحريم الخمر يعتبر هذا بسائر المحرمات كالزنا ، وغيره إلا أن في الخمر القليل والكثير منه حرام ; لأن قليله يدعو إلى كثيره ، فأما هذه الأشربة ، ففيها من الغلظ ، والكثافة ما لا يدعو قليلها إلى كثيرها ، فكان القليل منها مباحا مع وصف الشدة ، والمسكر منها حرام .

وقد بينا أن [ ص: 17 ] المسكر هو الكأس الأخير ، وأنه مباين في الحكم لما ليس بمسكر منه ، وهو كمن شرب أقداحا من ماء ، ثم شرب قدحا من الخمر ، فالمحرم عليه هو الخمر ، وبها يلزمه الحد دون ما سبق من الأقداح ، فهذا مثله .

فإن كان يسكر بشرب الكثير منه ، فذاك لا يدل على أنه يحرم تناول القليل منه كالبنج ، ولبن الفرس ، وأما الحديث ، فنحن نقول به ، وكل مسكر عندنا حرام ، وذلك القدح الأخير ، وروي عن أبي يوسف أنه قال في تأويله : إذا كان يشرب على قصد السكر ، فإن القليل ، والكثير على هذا القصد حرام ، فأما إذا كان يشرب لاستمراء الطعام فلا ، فهو نظير المشي على قصد الزنا يكون حراما ، وعلى قصد الطاعة يكون طاعة ، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام ما أسكر كثيره ، فقليله حرام هو على ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والقدح الأخير الذي هو مسكر قليله ، وكثيره حرام ، ثم هذا عند التحقيق دليلنا ، فبهذا يتبين أن ما هو الكثير منه يكون مسكرا ، فالمحرم عليه قليل من ذلك الكثير ، وإنما يكون ذلك إذا جعلنا المحرم هو القدح الأخير ، فأما إذا جعلنا الكل محرما ، فلا يكون المحرم قليلا من ذلك الكثير كما اقتضاه ظاهر الحديث ، ثم قد بينا أن هذا كان في الابتداء لتحقيق الزجر ، ثم جاءت الرخصة بعد ذلك في شرب القليل منه ، ومهما أمكن الجمع بين الآثار ، فذلك أولى من الأخذ ببعضها ، والإعراض عن بعضها ، ولا بأس بنبيذ التمر والبسر جميعا ، أو أحدهما وحده إذا طبخ ; لأن البسر من نوع التمر ، فإنه يابس العصب ، وقد بينا : أن المطبوخ من نبيذ التمر شربه حلال ، والمسكر منه حرام ، وكذلك التمر والزبيب ، أو البسر والزبيب ، وهو شراب الخليطين ، وقد بينا الكلام فيه ، وبعد ما طبخ معتقه ، وغير معتقه سواء في إباحة الشرب يعني المشتد منه ، وغير المشتد منه ، والمحرم المسكر منه ، وذلك بغير المشتد لا يحصل .

ولو حصل كان محرما أيضا بمنزلة الأكل فوق الشبع ، ولا بأس بهذه الأنبذة كلها من العسل ، والذرة ، والحنطة ، والشعير ، والزبيب ، والتمر ، وكل شيء من ذلك ، أو غيره من النبيذ عتق ، أو لم يعتق خلط بعضها ببعض ، أو لم يخلط بعد أن يطبخ أما الكلام في نبيذ التمر ، والزبيب ، فقد بيناه .

التالي السابق


الخدمات العلمية