صفحة جزء
ولو أكره بوعيد تلف حتى يحصل عتق عبده في يد هذا الرجل ، أو طلاق امرأته ، ولم يدخل بها ، ففعله ، فطلق ذلك الرجل المرأة ، أو أعتق العبد ، وقع الطلاق ، والعتاق ; لأن الإكراه لا يمنع صحة الإعتاق ، والطلاق ، فكذلك لا يمنع صحة التسليم بها عليه ، وصحة تمليكه من غيره تجعله في يده .

( ألا ترى ) أن الإكراه في هذا كشرط الخيار ، وشرط الخيار كما لا يؤثر في الإعتاق لا يؤثر في تفويض العتق إلى الغير ، ثم القياس فيه أن لا يغرم المكره شيئا ; لأنه ما أكرهه على السبب المتلف ، فإن السبب قول المجعول إليه للعبد أنت حر ، وللمرأة أنت طالق إلا أنه يشترط لحصول التلف بهذا تقدم التفويض من المالك ، فالمكره على ذلك التفويض بمنزلة المكره على شرط العتق ، والدليل عليه ، فصل الشهادة ، فإن شاهدين لو شهدا على رجل أنه جعل أمر عبده في العتق في يد فلان ، أو أمر امرأته في الطلاق ، ثم أعتق فلان العبد ، وطلق المرأة ، ثم رجعا عن شهادتهما لم يضمنا شيئا ، فلما جعل التفويض بمنزلة الشرط في حكم الشهادة ، فكذلك في حكم الإكراه ، ولكنه استحسن ، فقال على المكره ضمان قيمة العبد ، ونصف المهر الذي غرم لامرأته ; لأن هذا إكراه على الأمر بالعتق بعينه ، أو بالطلاق بعينه ، فيصير به متلفا عند وجود الإيقاع من المفوض إليه .

( ألا ترى ) أنه لو أكرهه على أن يجعل ذلك في يد المكره ، ففعل ذلك ، وأوقعه كان ضامنا ، ولا يكون ضامنا بإيقاعه إنما يكون ضامنا بإكراهه على جعل ذلك في يده ، والأخذ بالقياس في هذا الفصل قبيح ; لأنه لو أكرهه على إعتاقه كان المكره متلفا ، فإذا أكرهه على جعل العتق في يد المكره ، فأعتقه المكره كان أولى أن يكون متلفا ، والفرق بين الإكراه ، والشهادة من حيث إن المكره مضار متعنت ، فيتعدى الإكراه إلى ما يتحقق فيه الضرر ، والشاهد محتسب في أداء الأمانة ، فلا تتعدى شهادته عما شهد به إلى غيره .

( ألا ترى ) أن الإكراه على الهبة يجعل إكراها على التسليم ; لأن الضرر به يتحقق ، والشهادة على الهبة لا تكون شهادة على التسليم : يوضحه أن الشاهد مخبر عن تفويض قد كان منه ، والإيقاع من المفوض إليه ليس من جنس الخبر بل هو إنشاء ، فلا يصح أن يكون متمما لما ثبت بإخبار الشاهد ، فأما المكره ، فإنما ألجأه إلى إنشاء التفويض ، فيمكن جعل [ ص: 103 ] إيقاع المفوض إليه متمما لما أكرهه المكره عليه حتى يصير هو متلفا .

وفي الكتاب استشهد لإيضاح هذا الفرق ، فقال .

( ألا ترى ) أن شهود الإحصان إذا رجعوا بعد الرجم ، وقالوا شهدنا بالباطل ، ونحن نعلم أنه باطل لم يكن عليهما غرم ، ولو لم يشهدوا بالإحصان ، وقال القاضي علمت أنه غير محصن ، وأنه لا رجم ، ولكني أرجمه ، وأكره الناس حتى رجموه كان ضامنا ، وبهذا تبين الفرق بين الشهادة ، والإكراه ، ثم في هذه المسألة على قول أبي حنيفة رحمه الله الإشكال أن القاضي يضمن الدية ; لأنه لا يرى القود في القتل رجما على من باشره ، فكذلك على من أكره عليه ، وكذلك عند أبي يوسف رحمه الله ; لأنه لا يرى القود على المكره إذا أكره على القتل بالسيف ، فبالحجارة أولى ، فإن عند محمد رحمه الله في القياس يجب القصاص على القاضي ; لأنه يوجب القود على المكره ، والقتل بالحجر عنده كالقتل بالسيف في حكم القصاص ، وهذا قتل بغير حق ، فكان موجبا للقصاص عليه ، ولكنه استحسن ، فجعل عليه الدية في ماله للشبهة التي دخلت من حيث إن السبب المبيح لدمه موجود ، وهو الزنا ، فإن عند ظهور إحصانه إنما يرجم لزناه لا لإحصانه ، فيصير هذا السبب شبهة في إسقاط القود عن القاضي ، ولأن بعض الرجم قائم مقام إقامة الحد المستحق عليه .

( ألا ترى ) أنه بعد ما رجمه القاضي بعض الرجم لو بدا له في ذلك لم يكن له أن يقيم عليه الحد ، فيصير ذلك شبهة في إسقاط القود عن القاضي ، وتلزمه الدية في ماله ; لأن المال ثبت مع الشبهات .

التالي السابق


الخدمات العلمية