صفحة جزء
( قال رحمه الله ) رجل قال لرجل إني أريد أن ألجئ إليك عبدي هذا فأبيعكه تلجئة ، وباطلا ، وليس بشراء ، واجب لشيء أخافه ، فقال : نعم وحضر هذه المقالة شهود ، ثم قال له في مجلس آخر قد بعتكه بألف درهم ، فقال قد فعلت ، ثم تصادقا على ما كان بينهما ، فالبيع باطل ; لأن التلجئة بمنزلة الهزل ، والهزل أن يراد بالكلام غير ما وضع له والهازل لا يكون مختارا للحكم ، ولا راضيا به ، ويكون مختارا للسبب لغير ما وضع له السبب ، فالملجئ أيضا يكون مختارا للسبب لغير ما وضع له السبب ، ولا يكون مختارا للحكم ، ولا راضيا به .

فلا يمنع الهزل ، والتلجئة انعقاد السبب ، ولكن لا يكون موجبا لحكمه لما لم ينعدم هذا الوصف ، وهو كالبيع بشرط الخيار لهما أبدا يكون منعقدا ، ولكن لا يكون موجبا لحكمه مع بقاء الخيار لهما إذا عرفنا هذا ، فنقول : إن تصادقا على أنهما بنيا على تلك المواضعة ، فالبيع باطل لاتفاقهما على أنهما يعزلانه ، وإن تصادقا أنهما أعرضا عن تلك المواضعة فالبيع لازم بينهما لأنهما تصادقا على أنهما قصدا الجد وهذا ناسخ لما كان بينهما من المواضعة ، وإذا كان العقد بعد العقد يكون فاسخا للعقد بعد المواضعة أولى أن يكون ناسخا لها ، وإن تصادقا أنه لم يحضرهما نية عند العقد ، ففي ظاهر الجواب البيع باطل ، وروى المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أن البيع صحيح : وجه تلك الرواية أن مطلق فعل العاقل المسلم محمول على الصحة ، وما يحل شرعا ، وعند الإطلاق يجب - حمل كلامهما عليه ، فلا يجوز [ ص: 123 ] إلغاء كلامهما مع إمكان تصحيحه ، ووجه ظاهر الرواية أنهما ما تواضعا إلا ليبنيا على تلك المواضعة ، فيكون فعلهما بناء على تلك المواضعة باعتبار الظاهر ما لم يظهر منهما خلافه ، وهذا ; لأنه إذا لم يجعل بناء كان استعمالهما بتلك المواضعة استعمالا بما لا يفيد .

والحاصل أن في ظاهر الرواية تعارض الأمران في الإطلاق ، فيرجح السابق منهما ، وهو المواضعة ، وفي الرواية الأخرى جعل الثاني ناسخا للأول ، وأما إذا اختلفا ، فقال أحدهما : بنينا على تلك المواضعة ، وقال الآخر : أعرضنا عنها ، فعلى قول أبي حنيفة القول قول من يدعي صحة العقد ، وعند أبي يوسف ومحمد القول قول من يدعي البناء على تلك المواضعة ; لأن عند الخصومة القول قول من يشهد له الظاهر وإنما يشهد الظاهر لمن يدعي البناء على المواضعة : يوضحه أنا نجعل في حق كل واحد منهما كأنه قصد ما أخبر به ، ولكن بإعراض أحدهما عن المواضعة لا يصح العقد فيما بينهما ، كما لو بنيا على المواضعة ، ثم أجاز العقد أحدهما وأبو حنيفة يقول : عند الاختلاف يجب الرجوع إلى الأصل ، والأصل أن مطلق العقد يقتضي اللزوم فدعوى البناء من أحدهما على المواضعة كدعواه شرط الخيار .

يوضحه أن تلك المواضعة لم تكن لازمة بينهما ، فينفرد كل واحد منهما بإبطالها بطريق الإعراض عنها ، وإذا بطلت المواضعة بقي العقد صحيحا ، ثم اختلافهما في بناء العقد على المواضعة بمنزلة اختلافهما في أصل المواضعة ، ولو ادعى أحدهما المواضعة السابقة ، وجحد الآخر كان القول قول المنكر ، وكان البيع صحيحا بينهما حتى تقوم البينة للآخر على هذا القول منهما ، فكذلك إذا اختلفا في البناء عليها ، وإن تصادقا على البناء على المواضعة ، ثم قال أحدهما قد أجزت البيع لم يجز على صاحبه ; لأن ذلك بمنزلة اشتراط الخيار منهما ، فالمجيز يكون مسقطا لخياره ، ولكن خيار الآخر يكفي في المنع من جواز العقد ، فإن قال صاحبه : قد أجزت أنا أيضا ، فالبيع جائز ; لأنهما أسقطا خيارهما ، ولأن البيع كان هزلا منهما ، ولم يكن مفيدا حكمه لانعدام الاختيار منهما للحكم ، وقد اختارا ذلك ، وإن لم يجيزاه حتى قبض المشتري ، فأعتقه كان عتقه باطلا بمنزلة ما لو كانا شرطا الخيار لهما ، وهذا ; لأن الحكم - وهو الملك - غير ثابت لعدم اختيارهما للحكم بالقصد إلى الهزل ، فتوقف الحكم على اختبارهما له ، وقبل الاختيار لا ملك للمشتري ، فلا ينفذ عتقه بخلاف المشتري من المكره فالمكره مختار للحكم ، ولكنه غير راض به ; لأن الحكم للجد من الكلام ، وإنما أكره على الجد ، فأجاب إلى ذلك ، فلهذا ينفذ عتقه بعد القبض حتى لو كان أكره على بيعه تلجئة ، فباعه لم يجز عتق المشتري فيه أيضا .

التالي السابق


الخدمات العلمية