صفحة جزء
، وكذلك لو قتل المسلم الذمي عمدا فعليه القصاص عندنا وعند الشافعي لا قصاص عليه وأما الذمي إذا قتل ذميا ، ثم أسلم القاتل فعليه القصاص بالاتفاق ويحكي أن أبا يوسف رحمه الله قضى بالقصاص على هاشمي بقتل ذمي فجعل أولياء القاتل يؤذونه بألسنتهم ويقولون يا جائر يا قاتل مؤمن بكافر فشكاهم إلى الخليفة فقال ارفق بهم فلما علم مراد الخليفة خرج وأمر بإعادتهم إليه ، ثم قال : لأولياء القتيل هاتوا بينة من المسلمين أن صاحبكم كان يؤدي الجزية طوعا فإن هؤلاء يدعون أنه كان ممتنعا من أداء الجزية ; فلهذا قتله ولا قتل عليهم إلا ببينة من المسلمين فعجزوا عن ذلك فدرأ القود به ودخل على الخليفة فأخبره بذلك فضحك وقال من يقاومكم يا أصحاب أبي حنيفة واستدل الشافعي بقوله تعالى { أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون } ، فالقصاص يبني على المساواة وبعد ما انتفت المساواة بينهما بالنصوص الظاهرة لا يجب عليه القصاص وقال عليه السلام { المسلمون تتكافأ دماؤهم } فهذا دليل على أن دماء غيرهم لا يكافئ دماءهم ، ثم قال في آخر الحديث { لا يقتل مؤمن بكافر } وبالإجماع ليس المراد نفي الاستيفاء فعرفنا أن المراد نفي الوجوب .

والمعنى فيه أن المقتول منقوص بنقص الكفر فلا يجب القصاص على المسلم بقتله كالمستأمن وهذا لأن الكفر من أعظم النقائص ، فالكافر كالميت من [ ص: 132 ] وجه قال الله تعالى { أومن كان ميتا فأحييناه } أي كافرا فرزقناه الهدى فلا مساواة بين من هو ميت من وجه وبين من هو حي من كل وجه بخلاف الذمي إذا قتل ذميا ، فقد وجدت المساواة هناك فوجب القصاص ، ثم الإسلام بعد ذلك زيادة حصلت على حق الأولياء فلا يمنعهم من الاستيفاء كالمستأمن إذا قتل مستأمنا يلزمه القصاص منصوص عليه في السير الكبير في النفس ، والطرف جميعا ، ثم لو أسلم القاتل بعد ذلك لا يسقط عنه القصاص ولأن الكفر مهدر للدم مؤثر في الإباحة ، فإذا وجد ولم يبح يصير شبهة كالملك فإنه مبيح ، فإذا وجد في الأخت من الرضاعة ولم يبح فيصير شبهة في درء ما يندرئ بالشبهات ، والدليل على أن الكفر مهدر للدم أن من لا يحل قتله من أهل الحرب كالنساء ، والذراري إذا قتلهم إنسان لا يغرم شيئا لوجود المهدر وما ذلك إلا الكفر ، والدليل عليه أنا أمرنا بقتل الكفار لكفرهم قال الله تعالى { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } يعني فتنة الكفر وقال عليه الصلاة والسلام { أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله } وهذا الكفر قائم بعد عقد الذمة إلا أنه غير عامل في إباحة الدم بمعنى الدعاء إلى الدين بأحسن الوجوه على ما أشار الله تعالى إليه في قوله تعالى { فأجره حتى يسمع كلام الله } فبقي باعتباره شبهة ينتفي بها المساواة بينه وبين المسلم بمنزلة طهارة المستحاضة مع طهارة الأصحاء فإن سيلان الدم الذي هو ناقض للطهارة موجود مع طهارة المستحاضة ، ولكنه غير عامل في الوقت ومع هذا لا تكون طهارتها طهارة الأصحاء حتى لا تصلح لإمامة الأصحاء وهذا بخلاف المال فإنه يجب القطع بسرقة مال الذمي ; لأن المبيح ، وهو الكفر ليس في المال ، وإنما هو في النفس ، فهو نظير حقيقة الإباحة بسبب القضاء بالرجم فإنه لا يكون مؤثرا في المال حتى يجب القطع بسرقة ماله ولا يجب القصاص على أحد بقتله ; ولهذا أوجب القطع بسرقة مال المستأمن أيضا .

يوضحه أن القطع في السرقة خالص حق الله تعالى فوجوبه يعتمد الجناية على حق الله تعالى دون المساواة ومعنى الجناية يتحقق في سرقة مال الذمي ، والمستأمن بثبوت إلا من لهما حقا لله تعالى فما كان القطع إلا نظير الكفارة ، والكفارة تجب بقتل الذمي ، والمستأمن كما تجب بقتل المسلم وحجتنا في ذلك ما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام { أقاد مسلما بذمي وقال أنا أحق من وفى بذمته } وهذا التعليل تنصيص على وجوب القود على المسلم بقتل الذمي واستيفاء القود منه وفي بعض الروايات { أن رجلا مسلما قتل ذميا فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص وقال أنا أحق من وفى بذمته } .

وعن عمر رضي الله عنه أنه أمر بقتل رجل مسلم برجل من أهل الحيرة [ ص: 133 ] ذمي ، ثم بلغه أنه فارس من فرسان العرب فكتب فيه أن لا يقتل يعني يسترضوا الأولياء فيصالحوا على الدية ، وإن عبيد الله بن عمر لما قتل هرمزان بتهمة دم أبيه استقر الأمر على عثمان فطلب منه علي رضي الله عنه أن يقتص من عبد الله وكان يدافع في ذلك أياما ، ثم قال : هذا رجل قتل أبوه بالأمس فأنا أستحي أن أقتله اليوم ، وإن هرمزان رجل من أهل الأرض أنا وليه أعفو عنه وأؤدي الدية فهذا اتفاق منهما على وجوب القصاص وقضى علي رضي الله عنه بالقصاص على مسلم بقتل ذمي ، ثم رأى الولي بعد ذلك فقال ماذا صنعت قال : إني رأيت أن قتلي إياه لا يرد أخي ، وقد أعطوني المال فقال : فلعلهم خوفوك فقال : لا ، فقال علي رضي الله عنه : إنما أعطيناكم الدية وتبذلون الجزية لتكون دماؤكم كدمائنا وأموالكم كأموالنا ، والمعنى فيه أن دم الذمي مضمون بالقصاص حتى إذا كان القاتل ذميا يلزمه القصاص به بالإجماع وذلك دليل على انتفاء الشبهة المبيحة عن الدم وبعد انتفاء الشبهة يستوي أن يكون القاتل مسلما ، أو ذميا ولا يدخل عليه الأب إذا قتل ابنه ; لأن امتناع وجوب القود عليه عندنا ليس لقيام الشبهة في دم الابن ، بل لأن فضيلة الأبوة تخرج الولد من أن يكون مستوجبا القود على والده كما يمنعه من قتله شرعا ، وإن كان الأب مباح الدم بأن كان مرتدا أو حربيا ، أو زانيا ، وهو محصن ، والدليل على أن الأبوة إذا طرأت تمنع استيفاء القصاص ، والشبهة إنما تؤثر إذا اقترنت بالسبب الموجب وحيث كان طريان الأبوة مانعا من الاستيفاء عرفنا أن المعنى فيه ما ذكرنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية