صفحة جزء
. ( قال رحمه الله ) ويكتب في كتاب وصيته تركته ; لأن الكتاب للتوثق والرجوع إليه عند المنازعة وأكثر ما تقع فيه المنازعة التركة التي تصير في يد الموصي فينبغي أن يذكرها في الكتاب إن كتب فيه أنه يعمل كذا إن مات من مرضه هذا أو في سفره هذا فرجع من ذلك السفر وبرأ من ذلك المرض بطلت تلك الوصية ; لأنه علقها بشرط وقد فات ، والوصية إلى الغير إثبات الخلافة أو الإطلاق ، وهو يحتمل التعليق بالشرط كالوكالة أو هي إثبات الولاية بمنزلة تقليد القضاء فيحتمل التعليق بالشرط .

وإذا أوصى إلى رجلين فمات أحدهما جعل القاضي مكانه وصيا آخر ، والكلام هاهنا في فصول ثلاثة أحدها : أن أحد الوصيين لا ينفرد بالتصرف في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله إلا في أشياء معدودة استحسانا ، وفي قول أبي يوسف ينفرد كل واحد منهما بالتصرف وجه قوله أن الوصايا تثبت الولاية للوصي في التصرف وكل واحد من الوليين يتصرف بانفراده كأنه ليس معه غيره كالأخوين في النكاح والأبوين ، وهذا ; لأن الولاية لا تحتمل التجزؤ وبتكامل السبب في حق كل واحد منهما [ ص: 21 ] بانفراده يثبت الحكم بخلاف الوكيلين فإن الوكالة إنابة ، وإنما جعلهما نائبين عنه في التصرف فلا تثبت الإنابة لكل واحد منهما بانفراده ، وبيان أن ثبوت حق التصرف الفرق للموصي ، لا يكون إلا بعد زوال ولاية الموصي والإنابة تستدعي قيام ولاية المنوب عنه ، وتبطل سقوط ولايته كالوكالة .

وأما الولاية بطريق الخلافة فتستدعي سقوط ولاية من هو أصل ليصير الخلف قائما مقامه كالجد مع الأب وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا : سبب هذه الولاية التفويض فلا بد من مراعاة سبب التفويض ، وإنما فوض إليهما حق التصرف وكل واحد منهما في هذا السبب بمنزلة شطر العلة وشطر العلة لا يثبت شيئا من الحكم بخلاف الأخوين فالسبب هناك الأخوة ، وهي متكاملة في حق كل واحد منهما يوضحه أن ولاية التصرف للوصي بعد موت الموصي باعتبار اختيار الموصي ورضاه به ، وهو إنما رضي برأي المثنى فرأي الواحد لا يكون كرأي المثنى ، ومقصوده توفير المنفعة عليه وعلى ورثته ، وذلك عند اجتماع رأييهما أظهر فأشبهت من هذا الوجه الوكالة فأما الأشياء المعدودة فهو تجهيز الميت وشراء ما لا بد منه للصغير وقضاء الدين ورد الوديعة وتنفيذ الوصية في العين وقبول الهبة والخصومة والقياس في هذه الأشياء أن لا ينفرد أحدهما به لما قلنا ، ولكنا استحسنا ; لأن التجهيز لا يمكن تأخيره وربما يكون أحدهما غائبا ففي اشتراط اجتماعهما إلحاق الضرر لا توفير المنفعة عليه وكذلك شراء ما لا بد للصبي منه فإن ذلك لحاجته فلا يحتمل التأخير . والظاهر

أن الموصي رضي برأي كل واحد منهما على الانفراد فيه عند تحقق الحاجة ، وأما قضاء الدين ; فلأن صاحب الدين يستبد باستيفائه من غير حاجة فيه إلى فعل أو رأي من الوصي فرد الوديعة كذلك ، والوصية بالعين إذا كانت تخرج من الثلث كذلك فالوصي له أن يأخذه فكذلك لأحدهما أن يعينه على ذلك بالتسليم والخصومة مما لا يتحقق اجتماعهما عليه .

( ألا ترى ) أنهما ، وإن حضرا لم يتكلم إلا أحدهما ; لأنهما لو تكلما جميعا لم يفهم القاضي كلام كل واحد منهما ; ولهذا ملك أحد الوكيلين الخصومة والتفرد بها أما قبول الهبة والصدقة فإنه لا يستدعي الولاية .

( ألا ترى ) أن الصبي يقبل بنفسه ومن يعوله ، وإن كان أجنبيا له أن يقبل الهبة له فأحد الوصيين بذلك أولى فأما اقتضاء الدين واسترداد الوديعة فهو على الخلاف ; لأن هذا يقبل التأخير ، ويتحقق اجتماعهما عليه وفيه توفير المنفعة ; لأن حفظ الواحد لا يكون كحفظ المثنى وإنما رضي الموصي بحفظهما ولم يذكر في الكتاب فأما إذا أوصى إلى كل واحد منهما على الانفراد وقد قال كثير من مشايخنا إن هاهنا ينفرد كل واحد منهما [ ص: 22 ] بالتصرف بمنزلة الوكيلين إذا وكل واحد منهما على الانفراد ، ولكن الأصح أن الخلاف في الفصلين ; لأن وجوب الوصية يكون عند الموت وعند الموت إنما نثبت الوصية لهما معا بخلاف الوكالة ، وهذا ; لأن بالإيصاء إلى الثاني يقصد إشراكه مع الأول ، وهو يملك الرجوع عن الوصية إلى الأول فيملك إشراك الثاني معه ، وقد يوصي الإنسان إلى غيره على ظن أنه يتمكن من إتمام مقصوده وحده ، ثم يتبين له عجزه عن ذاك فيضم له غيره فكان بمنزلة الوصية إليهما معا بخلاف الوكيلين فإن رأي الموكل قائم هناك .

وإذا عجز الوكيل يمكن الموكل من المباشرة بنفسه فلم يكن قصده ضم الثاني إلى الأول وإنما كان قصده إنابة كل واحد منهما منابه بانفراده ، فإن مات أحدهما جعل القاضي مكانه وصيا آخر أما عند أبي حنيفة ومحمد ; فلأن الآخر عاجز عن التفرد بالتصرف ، والقاضي قائم مقام الميت في النظر فيعجزه بنفسه عن النظر فيضم إليه وصيا آخر وعند أبي يوسف الحي منهما ، وإن كان يقدر على التصرف فإنما كان الموصي قصد أن يخلف متصرفين في حقوقه وتحصيل مقصوده بنصب وصي آخر هاهنا ; لأن رأي الميت منهما باق حكما برأي من نصبه وروى الحسن عن أبي يوسف أن الحي لا ينفرد بالتصرف هاهنا ; لأن الموصي ما رضي برأيه وحده ، ولا يكون للوصي أن يرضى بما يعلم أن الموصي لم يرض به بخلاف ما إذا أوصى إلى غيره .

وإذا مات وأوصى إلى آخر فهو وصيه في تركته وتركة الميت الأول عندنا ، وقال الشافعي لا يكون وصيا في تركة الميت الأول بحال ، وقال ابن أبي ليلى : لا يكون وصيا في تركة الميت الأول إلا أن يوصي إليه بوصية الأول وجه قول الشافعي أن الوصي بمنزلة الوكيل ; لأنه مفوض إليه بوصية الأول التصرف بعد الموت بعقد فهو كالمفوض إليه التصرف في حالة الحياة بالعقد ، وهو الوكيل ، ثم الوكالة تنقطع بموت الموكل ، ولا يملك الوكيل أن يوكل به غيره فكذلك الوصي إذا مات ولا معنى للفرق ; لأن حق التصرف للوصي إنما يثبت بعد سقوط ولاية وصي ; لأن حق التصرف إنما يثبت له في الوقت الذي فوض إليه التصرف في الوجهين جميعا ، وإنما تصح الوصية باعتبار قيام ولاية الموصي حكما كما تصح الوصية له بالمال بعد موته باعتبار قيام ملكه فيه حكما وفقه ما بينا أن الموصي رضي برأيه والناس في الرأي يتفاوتون فلا يكون ذلك منه رضا برأي غيره ; ولهذا لا يوكل الوصي أيضا عندي ، وحجتنا في ذلك الوصي يتصرف بولاية منتقلة إليه فيملك الإيصاء إلى الغير كالجد وتقريره أن الولاية التي كانت ثابتة للموصي تنتقل في المال إلى الوصي في النفس وإلى الجد في النفس ، ثم [ ص: 23 ] الجد فيما ينتقل إليه قائم مقام الأب فكذلك الوصي فيما انتقل إليه ; لأنه خلف عن الأول وباعتبار هذه الخلافة يجعل الأول قائما حكما والخلف يعمل عمل الأصل عند عدم الأصل ، ومن شرط ثبوت الخلافة إعدام الأصل .

يوضحه أن مقصود الموصي أن يتدارك برأيه ما فرط فيه بنفسه ولما استعان به في ذلك مع علمه أنه قد تخترمه المنية قبل تتميم مقصوده فقد صار راضيا بإيصائه إلى الغير في ذلك لما فيه من تحصيل مقصوده ، وبه فارق الوكيل ; لأن الموكل هناك قائم يمكنه أن يحصل مقصوده بنفسه فلا يضمن لوكيله الرضا بوكيل غيره أو الإيصاء إلى غيره عند موته ، فأما ابن أبي ليلى فيقول : هو بمطلق الإيصاء يجعل الوصي خلفا عنه فيما هو من حوائجه وحقوقه التي فرط فيها ، وهذا مقصور على تركته فأما التصرف في تركة الموصي فليس من حوائجه في شيء فلا يملك الوصي ذلك إلا بالتنصيص عليه .

ولكنا نقول بعد قبوله الوصية وموت الموصي صار التصرف في تركة الأول وأولاده الصغار من حوائجه فيما هو مستحق عليه بمنزلة التصرف في تركة نفسه يوضحه أنه جعل الثاني خلفا عند قائما مقامه في كل مكان يملكه بنفسه مما يقبل النقل إلى الغير بعد موته ، وقد كان ملك التصرف في التركتين جميعا في حال حياته فيخلفه الوصي الثاني فيهما جميعا بمطلق الإيصاء ، وعن أبي يوسف رحمه الله كذلك إلى أن يخص تركته عند الإيصاء إلى الثاني فحينئذ يعمل تخصيصه ; لأنه نظر لنفسه في هذا التخصيص ، وهو أنه لا يتحمل ، وبال التصرف في ملك الغير حيا وميتا .

وإذا قبل الوصي الوصية في حياة الموصي ، ثم أراد الخروج منها بعد موته فليس له ذلك والوصية له لازمة ; لأن المقصود توفير المنفعة على الموصي ودفع الضرر عنه وبعد ما قبل الوصي لو جاز له الرد بعد الموت تضرر به الموصى ; لأنه ترك النظر والإيصاء إلى الغير اعتمادا على قبوله ويصير هذا الوصي بالقبول كالغار له والغرور حرام والضرر مدفوع بخلاف الوصية بالمال فإن هناك ، وإن قبله في حياته فله أن يرده بعد موته ; لأن المقصود هناك توفير المنفعة على الموصى له وليس في رده معنى الضرر والغرور حق الموصي ; لأنه إذا رده لا يضيع المال بل يصير إلى وارثه وذلك خير للموصي شرعا فأما إذا لم يقبل الوصي حتى مات الموصي فهو بالخيار إن شاء قبله ، وإن شاء رده ; لأنه متبرع بالتصرف في حق الغير فلا يلزمه ذلك بدون قبوله كالوكالة ، وليس في رده هنا غرور من جهته ، وإنما الموصي هو الذي اغتر حين لم يعرف عن حاله أنه يقبل الوصية أم لا ، فإن رده في وجه الموصي فقال الموصي ما كان ظني بك هذا فمن يقبل وصيتي إذا أمكث حتى [ ص: 24 ] مات الموصي ، ثم قبل لم تكن وصية ; لأن برده في وجهه بطلت الوصاية فلا يمكن قبولها بعد ذلك .

ولو أنه ردها في غير وجه الموصي ، ثم قبلها بأن سمع كلام الناس في ذلك فإنه لا يكون وصيا عندنا ، وقال زفر : رحمه الله يكون وصيا ; لأن رده في غير وجه الموصي إنما يتم إذا بلغ الموصي فإذا لم يبلغه حتى قبل صار كأن الرد لم يوجد .

ولكنا نقول : قبل القبول هو ينفرد بالرد في وجه الموصي ، وفي حال غيبته فيبطل العقد برده ، ولا يعتبر القبول بعد ذلك .

ولو قبلها بعد موته ، ولم يكن ردها في حياته فقد لزمته الوصية بمنزلة ما لو قبلها في وجهه بل ; لأن أوان ولايته بعد الموت فالقبول في هذه الحالة يكون ألزم منه قبل أوانه ، ثم دليل القبول كصريح القبول حتى لو باع بعض تركة الميت أو اشترى للورثة بعض ما يحتاجون إليه أو اقتضى مالا أو قضاه لزمته الوصية لوجود دليل القبول والرضى به كالمشروط له الخيار إذا وجد منه ما يدل على الإجازة أو الفسخ كان ذلك بمنزلة التصريح بذلك .

والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام { لبريرة : إن وطئك الزوج فلا خيار لك } ، وإذا اشتكى الورثة أو بعضهم الوصي إلى القاضي فإنه لا ينبغي له أن يعزله حتى تبدو له منه خيانة ; لأن الموصي اختاره ورضي به والشاكي قد يكون ظالما في شكواه فما لم يتبين خيانته لا يحتاج القاضي إلى النيابة عن الميت في النظر له والاستبدال به ، فإن علم منه خيانة عزله عن الوصية ; لأن الموصي اعتمد في اختياره أمانته والظاهر أنه لو علم بخيانته عزله والقاضي بعد موته قائم مقامه نظرا منه للميت ، وإن كان الوصي هو الذي شكا إلى القاضي عجزه عن التصرف فعلى القاضي أن ينظر في ذلك ، فإن علم عدالته وعجزه عن الاستبدال ضم إليه غيره ; لأنه لو لم يفعل ذلك فإما أن يتصرف الوصي بالعجز عن التصرف في حقوق نفسه أو يترك التصرف في حوائج الموصي فيتمكن الخلل في مقصوده ويرتفع هذا الخلل بضم غيره إليه ، وإن ظهر عنده عجزه عن القيام بالوصية استبدل به ; لأنه مأمور بالنظر من الجانبين .

ولو ظهر عند الموصي في حياته عجزه استبدل به فكذلك من قام مقامه في النظر ، وهو القاضي .

وإذا أوصى إلى عبد غيره فالوصية باطلة ، وإن أجاز مولاه ; لأن الوصية ولاية ، والرق ينفي ولايته على نفسه فيمنع ولايته على غيره ; ولأنه عاجز عن تحصيل مقصود الموصي ; لأن منافعه لمولاه فالظاهر أنه يمنعه من التبرع به على غيره ، وكذلك بعد إجازته على غيره ; لأن هذا بمنزلة الإعارة منه للعبد فلا يتعلق به اللزوم ، فإذا رجع عنه كان عاجزا عن التصرف ، وكذلك إن أوصى إلى عبده ، والورثة كبار أو فيهم كبير فللكبير أن يمنعه من [ ص: 25 ] التصرف ، وله أن يبيع نصيبه منه فيمنعه المشتري من التصرف ، فإن كانت الورثة صغارا كلهم فالوصية إليهم جائزة في قول أبي حنيفة ، ولا يجوز في قول أبي يوسف ومحمد ، وهو القياس ; لأن الرق الذي ينفي الولاية قائم في عبده كما هو في عبد غيره ; ولأنه صار مملوكا للورثة ، وإثبات الولاية للمملوك على المالك من أبعد ما يكون كما لو كان فيهم كبير وأبو حنيفة يقول : أوصى إلى مخاطب مطلع فيجوز كما لو أوصى إلى مكاتبه أو مكاتب غيره ومعنى قولنا مطلع أي مستند بالتصرف في حوائج الموصي على وجه لا يملك أحد منعه عن ذلك ولا اكتساب سبب يمنعه .

ولو كان الرق يمنع الإيصاء إليه لم تجز الوصية إلى المكاتب لقيام الرق فيه إلا أنهما يقولان : المكاتب لا يصير مملوكا للوارث فلا يؤدي إلى إثبات الولاية للمملوك على المالك وأبو حنيفة يقول : الصغار من الورثة ، وإن كانوا يملكون رقبة العبد فلا يملكون التصرف عليه فيجوز إثبات ولاية التصرف له في حقوقهم بخلاف ما إذا كان فيهم كبير وإنما استحسن أبو حنيفة هذا لما رأى فيه من توفر المنفعة على الميت وعلى ورثته فإن من ربى عبده وأحسن إليه فالظاهر أن شفقته على الصغار من أولاده بعد موته أكثر من شفقة الأجنبي ; ولهذا اختاره للوصية فلتوفير المنفعة عليه جوز الوصاية إليه استحسانا كالوصية إلى مكاتبه ، فإن عجز المكاتب عن المكاتبة عاد قنا فيكون الجواب فيه كالجواب في العبد ، وإذا أوصى المسلم إلى ذمي أو إلى حربي مستأمن أو غير مستأمن فهو باطل ; لأن في الوصية إثبات الولاية للوصي على سبيل الخلافة عنه ، ولا ولاية للذمي ولا للحربي على المسلم ، ثم الوصي يخلف الموصي في التصرف كما أن الوارث يخلف المورث في الملك بالتصرف ، ثم الكافر لا يرث المسلم فكذلك لا يكون وصيا للمسلم وكذلك إن أوصى الذمي إلى الحربي لم تجز لهذا المعنى .

ولو أوصى الذمي إلى الذمي فهو جائز ; لأنه يثبت لبعضهم على البعض ولاية بالقرابة فكذلك بالتفويض ، وأحدهما يرث صاحبه فيجوز أن يكون وصيا له أيضا .

ولو أوصى إلى رجل مسلم أو إلى امرأة أو أعمى أو محدود في قذف فهو جائز ; لأن هؤلاء من أهل الولاية والخلافة إرثا وتصرفا .

ولو أوصى إلى فاسق منهم متخوف على ماله فالوصية باطلة ; لأن الإيصاء إلى الغير إنما يجوز شرعا ليتم به نظر الموصي لنفسه ولأولاده وبالإيصاء إلى الفاسق لا يتم معنى النظر ولم يرد بقوله الوصية إليه باطلة أنه لا يصير وصيا بل يصير وصيا لكون الفاسق من أهل الولاية والخلافة إرثا وتصرفا حتى لو تصرف نفذ تصرفه ، ولكن القاضي يخرجه من الوصية ويجعل مكانه وصيا آخر ; لأنه لم [ ص: 26 ] يحصل نظر الموصي لنفسه ، وكان عليه أن يتدارك ذلك ، وإذا لم يفعل حتى عجز عن النظر لنفسه بالموت أناب القاضي منابه في نصب وصي آخر له بمنزلة ما لو أوصى مكانه وصيا آخر لهذا ، وإذا أوصى إلى رجل بماله فهو وصي في ماله وولده وسائر أسبابه عندنا وقال الشافعي لا يكون وصيا إلا فيما جعله وصيا فيه ; لأنه تفويض التصرف إلى الغير فيختص بما خصه به المفوض كالتوكيل ولئن سلمنا أن الوصي تثبت له الولاية فيثبت هذه الولاية إيجاب الموصي ، وقيل يقبل التخصيص كولاية القضاء لما كان سبب التقليد كان قابلا للتخصيص ، وهذا ; لأن الإيصاء إلى الغير مشروع بحاجة الموصي ، وهو أعلم بحاجته فربما يكون التفريط منه في نوع دون نوع فنجعله وصيا فيما فرط فيه ، وربما يؤتمن هذا الوصي على نوع دون نوع أو يعرف هدايته في نوع من التصرف دون نوع ، وربما يعرف شفقة الأم على الأولاد ، ولا يأتمنها على مالهم فيجعل الغير وصيا على المال دون الأولاد للحاجة إلى ذلك فكان هذا تخصيصا مقيدا فيجب اعتباره ، ووجه قولنا أنه ينصرف بولاية منتقلة إليه فيكون كالجد ، وكما أن تصرف الجد لا يختص بنوع دون نوع ; لأنه قائم مقام الأب عند عدمه فكذلك تصرف الوصي فيما يقبل النقل إليه ودليل صحة هذه القاعدة أن الإيصاء يتم بقوله أوصيت إليك مطلقا .

ولو كان طريقه طريق الإنابة لم يصح إلا بالتنصيص على ما هو المقصود كالتوكيل فإنه لو قال : وكلتك بمالي لا يملك التصرف ، وكذلك لو قال : جعلتك حاكما لا يملك تنفيذ القضاء ما لم يتبين له ذلك ، وههنا لما صح الإيصاء إليه مطلقا عرفنا أنه إثبات للولاية بطريق الخلافة ، والدليل عليه أن ولايته بعد زوال ولاية الموصي بخلاف التوكيل والتقليد في الحكومة ، ولئن سلمنا أن الإيصاء تفويض ، ولكن لما كان هذا التفويض إنما يعمل بعد زوال ولاية الموصي وعجزه عن النظر كان جوازه لحاجته ، والحاجة تتجدد في كل وقت فهو عند الإيصاء لا يعرف حقيقة ما يحتاجون فيه إلى النائب بعده فلو لم يثبت للوصي حق التصرف في جميع الأنواع تضرر به الموصي ، والظاهر أنه بهذا التخصيص لم يقصد تنفيذ ولايته بما سمي ، وإنما سمي نوعا ; لأن ذلك كان أهم عنده والإنسان في مثل هذا يذكر الأهم ، وهذا بخلاف الوكالة ; لأن رأي الموكل قائم عند تصرف الوكيل فإذا تجددت الحاجة أمكنه أن ينظر فيه بنفسه أو بتفويضه إليه أو إلى غيره ، وكذلك في التقليد ، فإن رأي المقلد قائم فيمكنه أن يفصل بنفسه أو يفوض ذلك إليه أو إلى غيره عند الحاجة

التالي السابق


الخدمات العلمية