مواهب الجليل في شرح مختصر خليل

الحطاب - محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعينى

صفحة جزء
ص ( وكره ماء مستعمل في حدث )

ش : لما فرغ من بيان المطلق الذي يتطهر به والماء الذي لا يصح التطهر به ذكر قسما ثالثا وهي المياه التي يكره استعمالها مع الحكم بطهوريتها فبدأ منها ب الماء المستعمل في الحدث وذكر أنه مكروه ويعني بذلك أنه طهور ولكنه يكره استعماله يريد مع وجود غيره فإن لم يجد غيره تطهر به ولا يتيمم مع وجوده وهذا هو المشهور من المذهب كما صرح بذلك غير واحد فإن تركه وتيمم وصلى أعاد أبدا وإن استعمله مع وجود غيره فهل يعيد في الوقت أو لا إعادة عليه ؟ لم أر فيه نصا صريحا فيحتمل أن يقال يعيد في الوقت لأن ذلك مقتضى الكراهة ويحتمل أن يقال لا إعادة عليه وهذا هو الظاهر كما صرحوا بذلك في بعض المياه المكروهة الآتية ، والكراهة لا تقتضي الإعادة في الوقت وإنما الإعادة في الوقت هي التي تقتضي الكراهة كما أخذ ابن عرفة ذلك من كلام السليمانية في مسألة البئر يتغير بورق الشجر والله أعلم .

ومقابل المشهور في الماء المستعمل في الحدث قولان أحدهما رواه أصبغ عن مالك وابن القصار عن ابن القاسم أنه غير طهور فيتركه ويتيمم إن لم يجد غيره فإن توضأ به وصلى أعاد أبدا والثاني أنه مشكوك فيه فيتوضأ به ويتيمم لصلاة واحدة وعزاه ابن بشير للأبهري ونوزع في ذلك ولفظ المدونة ولا يتوضأ بماء قد توضأ به مرة ولا خير فيه .

قال ابن القاسم فإن لم يجد غيره توضأ به أحب إلي إن كان الذي توضأ به أولا طاهر الأعضاء واختلف الشيوخ في قول مالك لا خير فيه فحمله ابن رشد على المنع فيكون خلافا لقول ابن القاسم واختاره ابن عبد السلام قال في التوضيح وحمل غير واحد من الشيوخ قول مالك على معنى لا خير فيه مع وجود غيره فيكون وفاقا لابن القاسم قال عياض وعلى ذلك أكثر المختصرين انتهى . وكذا قال ابن ناجي في شرح المدونة وحمل غير واحد قول مالك على الكراهة وجعلوا قول ابن القاسم تفسيرا ورد بأن مالكا منع المتوضئ من مسح رأسه ببلل لحيته وأجيب باحتمال كون المنع لقلته لا لكونه مستعملا انتهى .

وقال ابن الإمام : قال غير واحد : قول ابن القاسم وفاق ولذلك يتعين إسقاط لفظه أحب إلي كما اختصرها ابن أبي زيد وحملها على الوجوب كما قال [ ص: 67 ] صاحب الاستيعاب انتهى . واختلف في علة كراهية الماء المستعمل أو المنع منه على أقوال فقيل لأنه أديت به عبادة وقيل أزال المانع وقيل لكونه لا يعلم سلامته من الأوساخ وقيل إنه قد ذهبت قوته في عبادة فلا يقوى لعبادة أخرى وقيل إنه ماء الذنوب وقيل إنه لم ينقل عن السلف جمع ذلك واستعماله والراجح في تعليل الكراهة كونه مختلفا في طهوريته واقتصر في الذخيرة على التعليلين الأولين قال : فإن انتفيا كما في الغسلة الرابعة في الوضوء فلا منع وإن وجد أحدهما كالمستعمل في الغسلة الثانية والثالثة وفي الأوضية المستحبة وفي غسل الذمية من الحيض احتمل الخلاف في ذلك انتهى . وأصله لابن عرفة

( تنبيهات الأول ) قال أبو الحسن عن ابن أبي زمنين صورة الماء المستعمل أن يسيل الماء في صحفة أو طست أو ما أشبهه أو يغتسل في قصرية وهو نقي الجسم انتهى . وقال غيره المستعمل في الحدث هو ما قطر على الأعضاء أو اتصل بها في وضوء أو جنابة بشرط سلامتها من النجس والوسخ وإلا فهو ماء حلته نجاسة أو ماء مضاف فله حكم ذلك وهذا الأخير نحوه في التوضيح وفي كلام الشارح وقد يتبادر منه أن الماء بمجرد اتصاله بالعضو يصير مستعملا وليس ذلك بمراد لهم فقد قال في الذخيرة : الماء المتنازع فيه هو المجموع عن الأعضاء لا ما يفضل في الإناء بعد الطهارة ولا المستعمل في بعض العضو إذا جرى للبعض الآخر وقال في فروقه : لا خلاف أن الماء ما دام في العضو طهور وصرح بذلك غير واحد فيحتمل قوله واتصل بها على أن المراد إذا وضع المتوضئ أو المغتسل أعضاءه في الماء وغسلها فيه .

( الثاني ) قال ابن عبد السلام ينبغي أن ينظر هل يتحقق من المذهب اشتراط اليسارة في كراهة الماء المستعمل أم لا ؟ فإن ثبت اشتراطها فهل تنتفي الكراهة بتكثيره بماء أوضية أخرى وهو الظاهر أو لا تنتفي الكراهة ؟ وإذا زالت الكراهة عن هذا الكثير ثم فرق حتى كان كل جزء منه يسيرا هل تعود الكراهة أم لا ؟ والظاهر أنها لا تعود بزوالها ولا موجب لعودها والله أعلم انتهى .

( قلت ) : في كلامه ميل إلى اشتراط اليسارة في الحكم بكراهة المستعمل واعلم أن المستعمل له صورتان كما تقدم إحداهما أن يتقاطر الماء عن الأعضاء والثانية أن يتصل بالأعضاء كأن يغتسل في قصرية ونحوها فأما الصورة الأولى فلا شك أن المتقاطر عن الأعضاء يسير وأما الثانية فقد يكون الماء كثيرا وقد يكون يسيرا ولا شك أن المحكوم له بالكراهة هو اليسير .

قال ابن عرفة : وفيها إن اغتسل في ماء حياض الدواب حيث غسل أذاه قبل دخولها فلا بأس به وإن اغتسل في قصرية فلا خير في مائها وإن كان غير جنب فلا بأس به وقال ابن الحاجب وقال في مثل حياض الدواب : لا بأس به قال في التوضيح أي لكثرته والظاهر أن هذا ليس مرادا لابن عبد السلام لوضوحه ولذلك لو صب على الماء المستعمل ماء مطلق غير مستعمل حتى صار كثيرا فلا يشك أن ذلك غير مراد له وإنما يقع التردد في المسألة التي فرضها وهي ما إذا جمع الماء المستعمل في أوضية أو اغتسال حتى صار كثيرا فهل تنتفي الكراهة عنه أم لا فاختار انتفاء الكراهة وهو خلاف ما اختاره ابن الإمام فإنه قال والظاهر أن ما حكم عليه بأنه مستعمل وجمع حتى صار كثيرا فحكمه حكم المستعمل لأنه لما ثبت كراهة كل جزء منه حال الانفراد كان للمجموع حكم أجزائه انتهى .

( قلت ) : وهذا هو الظاهر وفي كلامه ما يقتضي الجزم باشتراط اليسارة في كراهة الماء المستعمل والله أعلم ( الثالث ) قال أبو محمد بن أبي زيد فيمن لم يكن معه من الماء إلا قدر ما يغسل به وجهه وذراعيه أنه إن كان يقدر على جمع ما يسقط من أعضائه فعل وغسل بذلك الماء باقي أعضائه ويصير كمن لم يجد إلا ما توضأ به مرة نقله عنه ابن يونس وأبو الحسن وابن عرفة وابن ناجي وغيرهم وجعله [ ص: 68 ] ابن يونس من باب الوضوء بالماء المستعمل إذا لم يجد غيره وبحث في ذلك ابن هارون فقال هذا إذا قلنا إن كل عضو يطهر بانفراده وأما على القول بأنه لا يطهر إلا بالجميع فلا يكون مستعملا ونحوه لابن عرفة ونصه الشيخ من لم يجد إلا قدر وضوئه بمستعمل بعض أعضائه تعين خرجه الصقلي على المستعمل وفيه نظر على ما مر من كون كل عضو يطهر بانفراده انتهى .

وقوله على ما مر لم يظهر لي ما أشار إليه به وقال ابن عبد السلام ومما ينظر فيه في هذا الفصل أنه إذا قيل كل عضو يطهر بانفراده وهو الأظهر عندي أنه يكون كل ما أخذ من هذا الماء من قليل أو كثير من الماء المستعمل وإن قيل إن طهارة الأول متوقفة على طهارة الأخير فيكون ما أخذ من العضو الأول واستعمله غير هذا التوضي في طهارة قبل كمال طهارة المتوضئ به أولا عاريا عن الكراهة لأنه إنما يحكم له بها بشرط التمام ولم يحصل إلى الآن إلا أن يقال إنه ينبغي التوقف عنه حتى ينظر مآل أمر المتوضئ به هل تتم طهارته أم لا انتهى .

( قلت ) : فيظهر من آخر كلامه أنه إذا تمت الطهارة حكم لما أخذ أولا بالكراهة ولو كان قد استعمل وهذا هو الذي يظهر وإذا كان الأمر كذلك فلا يظهر لكلام ابن هارون وابن عرفة في مسألة الشيخ ابن أبي زيد وجه لأن الفرض أن الطهارة قد تمت فتأمله والله أعلم .

( والحاصل ) أن من وجد من الماء ما يستعمله في غسل بعض أعضاء وضوئه وأمكنه أن يجمع ذلك ويستعمله في بقية الأعضاء تعين عليه ذلك ولا يجوز له التيمم وإذا علم ذلك فلا يغتر بقول ابن فرحون في شرح ابن الحاجب في باب التيمم أنه لم ير في ذلك نصا والذي يقتضيه البحث أنه يجمعه ولكنه لا خلاف أنه ينتقل إلى التيمم فإنه مخالف لما تقدم عن الشيخ ابن أبي زيد وقبله الجماعة كلهم .

( الرابع ) من نسي مسح رأسه فمسحه ببلل ذراعيه لم يجزه قال ابن رشد في رسم سلف عن سماع ابن القاسم لأنه لا يتعلق بذراعيه ما يمكنه به المسح قال : وكذلك بلل لحيته إذا لم يتعلق بها من الماء ما فيه كفاية قال : واختلف إذا تعلق بها ما فيه كفاية فمنع ذلك مالك في المدونة على أن الوضوء بالمستعمل لا يجوز وأجازه ابن الماجشون لإجازته الوضوء بالماء المستعمل كما يقوله ابن القاسم انتهى .

( قلت ) : وهذا مبني على ما تقدم من حمله كلام مالك على المنع وأما على ما حمله عليه أكثر الشيوخ من الكراهة فيكره له ذلك إذا وجد ماء غيره يمسح به رأسه وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك ، ( الخامس ) قال ابن الإمام : والأظهر أن إدخال المحدث يده في الإناء بعد غسل الوجه ونية رفع الحدث لا يصير الماء مستعملا إذا انفصلت اليد من الماء على أصلنا ولم أر فيه نصا وعند الشافعية يصير مستعملا إلا أن يقصد الاغتراف انتهى .

( قلت ) : ونصوص المذهب كالصريحة في ذلك منها ما ذكره ابن رشد في رسم نقدها من سماع عيسى من كتاب الطهارة من الخلاف بين مالك وابن القاسم هل الاختيار أن يدخل يديه في الإناء جميعا لغسل وجهه وبقية أعضائه أو الاختيار أن يدخل اليمنى فقط والله أعلم .

( السادس ) ولا بأس بما انتضح من غسل الجنب في إنائه ولا يستطيع الناس الامتناع من هذا قال في الطراز : الماء الذي ينتضح في إناء المغتسل على وجهين : ما تطاير من جسده : وما تطاير من الأرض وكلاهما لا يضر إذا لم يتيقن تطاير نجاسة وقال ابن ناجي : قال عياض ظاهره ما ينتضح من الأرض وعليه حمله الناس وهذا إذا كان المكان ظاهرا أو منحدرا لا تثبت فيه نجاسة وإن لم يكن كذلك وكان يبال فيه ويستنقع الماء فهو نجس وينجس ما طار منه .

وقال بعض شيوخنا : يحمل قولها عندي على أن المراد بما انتضح من غسل الجنب ما يكون في بدنه من نجاسة فإن إمرار يديه مع الماء للتدلك ثم ردهما إلى الإناء عفو وإن كانت النجاسة في يديه وهو [ ص: 69 ] تأويل بعيد وما ذكره عياض من أن المكان منحدر نقله عبد الحق عن ابن الماجشون وهو بين انتهى .

( قلت ) : عادته إذا قال بعض شيوخنا يشير به إلى ابن عرفة ولم أقف على ما ذكره في كلام ابن عرفة لكن صرح ابن رشد في سماع ابن أبي زيد بأن الماء لا يتنجس بإدخال يديه فيه بعد دلك جسده بهما ولو كان في جسده نجاسة .

وقال البرزلي : بعد أن ذكر كلام عياض السابق فيه نظر على ما علل به في المدونة أنه ضرورة فظاهره مطلقا والله أعلم ، ( السابع ) لا إشكال في كراهة الماء المستعمل في الحدث في طهارة الحدث وأما في طهارة الخبث فقال الشيخ زروق في شرح الإرشاد : قال ابن راشد لا ينبغي أن يختلف في إزالة النجاسة بالمستعمل لأنها معقولة المعنى قال وفي كلام صاحب الإرشاد إشارة إليه لاقتصاره على ذكر الوضوء انتهى .

( قلت ) : وانظر هل يكره استعماله في الأوضية والاغتسالات المسنونة والمستحبة أم لا لم أر فيه نصا صريحا والظاهر أنه يكره استعماله مع وجود غيره لأن المشهور في علة الكراهة فيه كونه غير طهور وإطلاق كلام المصنف يشتمل ذلك كما أنه يشتمل استعماله في طهارة الخبث وهو الظاهر عندي - والله أعلم - ولا خلاف في المذهب أنه ليس بنجس ولا ينجس ما أصابه .

من ثوب أو غيره إذا كان الذي تطهر به أولا طاهر الأعضاء والله أعلم ولا يكره التيمم على التراب مرة بعد أخرى نص عليه في العتبية قال ابن رشد والفرق بينه وبين الماء أن الماء لا بد أن يتعلق به شيء من البدن والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية