مواهب الجليل في شرح مختصر خليل

الحطاب - محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعينى

صفحة جزء
( ولنشرع ) في الكلام على اشتقاق الحج والعمرة ومعناهما لغة وشرعا وما يتعلق بذلك ; فنقول : الحج في اللغة القصد ، وقيل : القصد المتكرر . قال ابن عبد السلام : الحج في اللغة القصد ، وقيل : بقيد التكرار انتهى . وكذا قال في التنبيهات : أصل الحج القصد وسميت هذه العبادة حجا لما كانت قصد موضع مخصوص وقيل : الحج مأخوذ من التكرار والعود مرة بعد أخرى لتكرار الناس عليه ، كما قال الله - تعالى - مثابة للناس أي يرجعون إليه ويثوبون في كل عام ، انتهى . وعلى الثاني اقتصر صاحب المقدمات وصاحب الطراز ونقله القرافي عن الخليل وهو ظاهر الصحاح ; لقوله : الحج القصد ورجل محجوج أي مقصود وقد حج بنو فلان فلانا إذا أطالوا الاختلاف إليه انتهى . والظاهر أنه مستعمل في اللغة بالوجهين ; لقول صاحب القاموس : الحج القصد والكف والقدوم وكثرة الاختلاف والتردد وقصد مكة للنسك ، ويشهد لذلك حديث مسلم المتقدم { أن الله فرض عليكم الحج فحجوا } ، وقول الرجل : { أكل عام يا رسول الله } الحديث ; لأنه يحتمل أن يكون سؤاله لهذا المعنى ويحتمل أن يكون لمعنى آخر وهو أن العلماء اختلفوا في الأمر المطلق هل يقتضي التكرار أو لا يقتضيه أو يتوقف فيما زاد على مرة على البيان فلا يحكم باقتضائه ، قال ابن القصار : وهو عند مالك مقتض للتكرار وخالفه بعض أصحابنا فيحتمل أن يكون السائل يرى بعض هذه المذاهب والله أعلم .

واختلف في إطلاق الحج على العبادة المشروعة فقيل : حقيقة لغوية ، وأن الحج مستعمل في معناه اللغوي الذي هو القصد أو القصد المتكرر غير أن الشارع اعتبر مع ذلك أمورا لا بد منها ، وهذا مذهب القاضي أبي بكر الباقلاني وقيل : إنه حقيقة شرعية نقلها الشارع من المعنى اللغوي إلى المعنى الشرعي من غير ملاحظة للمعنى اللغوي وإن صادف أن بين المعنيين علاقة لأمر اتفاقي وهذا مذهب المعتزلة ، وقال به جماعة من الفقهاء وقيل : إنه نقل إلى المعنى الشرعي على سبيل المجاز لمناسبته للمعنى اللغوي ، وهذا مذهب الإمام فخر الدين والمازري وجماعة من الفقهاء .

قال ابن ناجي : وهو مذهب المحققين من المتأخرين وهذه الثلاثة الأقوال جارية على الحقائق الشرعية كالصلاة والصوم والزكاة وغيرها ، وكلام صاحب القاموس المتقدم يشهد للأول ; لأنه جعل قصد مكة للنسك من جملة معاني الحج في اللغة ، وعلى القول الثالث فوجه المناسبة بين معنى الحج في اللغة وعلى القول بأنه القصد ظاهر وأما على القول بأن معناه في اللغة القصد المتكرر فقيل في وجه مناسبة الحج في الشرع له [ ص: 470 ] كون الناس يأتونه في كل سنة قال ابن مشدين : فحكم التكرار باق في كل سنة فرض كفاية على العموم قال : وذهب جماعة من العلماء إلى أنه واجب على الإمام أن يقيم مناره كل سنة بنفسه أو بغيره وقيل : لأن الناس يعودون إلى البيت بعد التعريف يوم النحر ثم يعودون إليه لطواف الوداع وقال التادلي : قال في الإكمال : لما كان مقتضى الحج التكرار من حيث الاشتقاق واتفقوا على أن الحج لا يلزم إلا مرة واحدة كانت العودة إلى البيت تقتضي كونها في عمرة حتى يحصل التردد إلى البيت كما اقتضاه الاشتقاق انتهى . فيتحصل في معنى التكرار فيه ثلاثة أقوال انتهى كلام التادلي . وقد أشبع القاضي عياض في الإكمال في أول كتاب الصلاة الكلام في ذلك والله أعلم .

وأما في الشرع فقال التادلي : قال صاحب المحكم : هو القصد إلى التوجه إلى البيت بالأعمال المشروعة فرضا وسنة انتهى . وقال صاحب المقدمات : فحج البيت في الشرع قصده على ما هو في اللغة إلا أنه قصد على صفة ما في وقت ما تقترن به أفعال ما انتهى . قال التادلي : ويرد على الأول كونه لم يذكر الأعمال المشروعة فيه بل أطلق وعلى الثاني ما فيه من الإجمال ; لأن من شرط الحد أن يكون مبينا لذات المحدود انتهى . وقال ابن عرفة : قال ابن هارون : لا يعرف ; لأنه ضروري للحكم بوجوبه ضرورة وتصور المحكوم عليه ضرورة ضروري ويرد بأن شرط الحكم تصوره بوجه ما والمطلوب معرفة حقيقته وابن عبد السلام لعسره ويرد بعدم عسر حكم الفقيه بثبوته ونفيه وصحته وفساده ولازمه إدراك فصله أو خاصته كذلك ، ويمكن رسمه بأنه عبادة يلزمها وقوف بعرفة ليلة عشر ذي الحجة وحده بزيارة وطواف ذي طهر أخص بالبيت عن يساره سبعا بعد فجر يوم النحر والسعي من الصفا للمروة ومنها إليها سبعا بعد طواف كذلك لا يقيد وقته بإحرام في الجميع انتهى . وقوله : ولازمه إدراك فصله أو خاصته كذلك أي دون عسر . وقوله : وطواف ذي طهر بإضافة طواف إلى ذي بمعنى صاحب .

وقوله : أخص أي من الحدث والخبث ، وقوله : بعد طواف كذلك ، أي ذي طهر . . . إلخ . وقوله : لا يقيد وقته يعني أن وقت السعي ليس بمقيد كوقت طواف الإفاضة ووقت الوقوف بل يصح السعي في كل وقت كما سيأتي إن شاء الله - تعالى - . وقوله : بإحرام أي مع إحرام ، والله أعلم . واعترض عليه بعضهم بأن لزوم الوقوف بعرفة ذاتي ; لأنه ركن فلا يصح أن يكون رسما إذ لا يؤتى فيه بالذاتيات وإن كان اللزوم خارجيا فيلزم بطلان الحد ; لأنه مركب من الذاتي والخارجي قال المشذالي : والجواب أنا نلتزم صحة الرسم ; لأنه ذكر فيه الجنس البعيد والخاصة قولكم : لزوم الوقوف ذاتي ، قلنا : ممنوع ، وإنما الذاتي فعل الوقوف وبين الوقوف وبين المفهومين بون بعيد ويلزم تركيبه من التصورات والتصديقات ; لأن اللزوم من عوارض التصديقات انتهى . فكأنه التزم بطلان الحد ويمكن تصحيحه بأن يقال : عبادة ذات وقوف بعرفة إلى آخره ، والله أعلم . وقال ابن ناجي : ولما كان ابن هارون حج أشبه ما قال ، ولما لم يحج ابن عبد السلام حسن منه أن يقول لعسره انتهى ، وأما ضبطه فقال ابن فرحون في شرحه : الحج بفتح الحاء وكسرها وكذا الحجة فيها اللغتان وأكثر المسموع فيها الكسر والقياس الفتح .

وقال ابن راشد : الحج بالكسر الاسم انتهى ، وقال في الصحاح : الحج بالكسر الاسم انتهى . ونحوه في القاموس وقال في الإكمال : الحج بالفتح المصدر وبكسرها وفتحها معا الاسم وبالكسر أيضا الحجاج انتهى . والعمرة في اللغة الزيارة يقال : اعتمر فلان أي زاره قال ابن الحاج : ولذا كان ابن عباس لا يرى العمرة لأهل مكة ; لأنهم بها فلا معنى لزيارتهم إياها انتهى . وقال في الإكمال : قال الإمام المازري : والاعتمار في الكلام لزوم الموضع وهي أيضا الزيارة قال التادلي : وقال آخرون : معنى الاعتمار [ ص: 471 ] والعمرة القصد قال الشاعر

لقد سما ابن معمر حين اعتمر فحل أعلى محتد ومفتخر

أراد حين قصد انتهى . وفي الشرع زيارة البيت على وجه مخصوص أو تقول : عبادة يلزمها طواف وسعي فقط مع إحرام ، وقولنا : فقط ليخرج الحج

التالي السابق


الخدمات العلمية