مواهب الجليل في شرح مختصر خليل

الحطاب - محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعينى

صفحة جزء
ص ( وصح بالحرام وعصى )

ش : يعني أن الحج يصح بالمال الحرام ولكنه عاص في تصرفه في المال الحرام ، قال سند : إذا غصب مالا وحج به ضمنه وأجزأه حجه وهو قول الجمهور انتهى ، ونقله القرافي وغيره ، نعم من حج بمال حرام فحجه غير مقبول كما صرح به غير واحد من العلماء كما ستقف عليه إن شاء الله ، وذلك لفقدان شرط القبول لقوله تعالى { : إنما يتقبل الله من المتقين } ، ولا منافاة بين الحكم بالصحة وعدم القبول ; لأن أثر القبول في ترتب الثواب ، وأثر الصحة في سقوط الطلب والله أعلم .

وقوله : الحرام يشمل جميع أنواعه الغصب والتعدي والسرقة والنهب وغير ذلك ، وإنما قال : صح ولم يقل : سقط ليشمل كلامه النفل والفرض ، فإن الحكم بالصحة يشملهما والسقوط خاص بالفرض وجاز اجتماع الصحة والعصيان لانفكاك الجهة ; لأن الحج أفعال بدنية وإنما يطلب المال ليتوصل به إليه فإذا فعله لم يقدح فيه ما تقدمه من التوصل إليه كمن خرج مغررا بنفسه راكبا للمخاوف وحج فإنه يجزئه وهذا قول مالك وهو مذهب الجمهور ، وقال ابن حنبل : لا يجزئه لأنه سبب غير مشروع وهو جار على أصله في الصلاة في الدار المغصوبة ، وذكر ابن فرحون في منسكه رواية عن مالك بعدم الإجزاء كقول الإمام أحمد وسيأتي كلامه ، ونقل سيدي الشيخ أحمد زروق في شرح هذا المحل من المختصر عن ابن العربي رواية ببطلان الصلاة في ذلك كمذهب الإمام أحمد ، وظاهر كلامه أن الرواية المذكورة في المذهب ، وقال التادلي بعد أن ذكر كلام سند المتقدم عن القرافي في شرح الرسالة لعبد الصادق ونقله من كتاب جمل من أصول العلم لابن رشد قال : وسألته عمن حج بمال حرام أترى أن ذلك مجزئ ويغرم المال لأصحابه ؟ قال : أما في مذهبنا فلا يجزئه ذلك وأما في قول الشافعي فذلك جائز ويرد المال ويطيب له حجه ، وقول الشافعي هذا أقرب إلى مذهب مالك بن أنس انتهى .

ونقله ابن فرحون في مناسكه وقال : قلت : ورأيت في بعض الكتب لم يحضرني الآن عن مالك عدم الإجزاء وأنه وقف في المسجد الحرام ونادى أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لا يعرفني فأنا مالك بن أنس من حج بمال حرام فليس له حج أو كلام هذا معناه انتهى ، فظاهر هذه الرواية عدم الإجزاء كقول الإمام أحمد ، وحملها على عدم القبول بعيد وفي مناسك ابن معلى قال العلماء : يجب على مريد الحج أن يحرص أن تكون نفقته حلالا لا شبهة فيها لقوله تعالى { وتزودوا } الآية ، وقوله { إنما يتقبل الله من المتقين } { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } ولقوله عليه السلام { إن الله - تعالى - طيب لا يقبل إلا الطيب } الحديث المشهور في مسلم قال القرطبي في شرح هذا الحديث : قوله صلى الله عليه وسلم يطيل السفر أشعث أغبر يفيد أنه سفر الحج ; لأن الصفتين المذكورتين غالبا لا يكونان إلا فيه قالوا : فلو حج بمال حرام فحجه صحيح عند مالك والشافعي وأبي حنيفة ، وقال ابن حنبل : لا يجزئه وحجه باطل .

( تنبيه ) قال بعض الفضلاء : المنفق من غير حل في حجه جدير بعدم القبول وإن سقط الفرض كما قاله الأئمة الثلاثة ، قال بعض المحققين من العلماء المتقدمين : أما عدم القبول فلاقتران العمل بالمعصية وفقدان الشرط وهو التقوى ، قال الله - تعالى - { إنما يتقبل الله من المتقين } . وأما صحة عبادة في نفسها فلوجود شروطها وأركانها ، قال : ولا تناقض في ذلك لأن أثر عدم القبول يظهر في سقوط الثواب والعياذ بالله ، وأثر الصحة يظهر في سقوط الفرض عنه وإبراء الذمة منه .

( ( قلت ) ) : وقد أشار جماعة من العلماء إلى عدم القبول منهم القشيري والغزالي والقرافي والقرطبي [ ص: 529 ] والنووي ونقله الغزالي عن ابن عباس وكفى به حجة ، وقال في آخر كلامه : آكل الحرام مطرود محروم لا يوفق لعبادة وإن اتفق له فعل خير فهو مردود عليه غير مقبول منه ، وذكر القرطبي في شرح مسلم أن الصديق رضي الله عنه شرب جرعة من لبن فيه شبهة وهو لا يعلم ثم لما علم استقاءها فأجهده ذلك فقيل له : أكل ذلك في شربة لبن فقال : والله لو لم تخرج إلا بنفسي لأخرجتها ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { : كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به } .

( ( قلت ) ) : وإذا كانت الحال هذه فسبيل المرء أن يتقي الله في سره وعلانيته ويحافظ على شروط قبول عبادته ، وقد قال بعض العلماء : إن إعمال الجوارح في الطاعات مع إهمال شروطها ضحكة للشيطان لكثرة التعب وعدم النفع ، وقد روي { من حج من غير حل فقال : لبيك ، قال الله له : لا لبيك ولا سعديك } انتهى ، وهذا الحديث ذكره ابن جماعة في منسكه الكبير بروايات مختلفة ، قال : روي عن سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { : إذا حج الرجل بالمال الحرام فقال : لبيك اللهم لبيك ، قال الله - تعالى - : لا لبيك ولا سعديك حتى ترد ما في يديك وفي رواية : لا لبيك ولا سعديك وحجك مردود عليك وفي رواية من خرج يؤم هذا البيت بكسب حرام شخص في غير طاعة الله فإذا بعث راحلته فقال : لبيك اللهم لبيك ، ناداه مناد من السماء : لا لبيك ولا سعديك كسبك حرام وراحلتك حرام وثيابك حرام وزادك حرام ارجع مأزورا غير مأجور وأبشر بما يسوءك ، وإذا خرج الرجل حاجا بمال حلال وبعث راحلته ، وقال : لبيك اللهم لبيك ، ناداه مناد من السماء : لبيك وسعديك أجبت بما تحب راحلتك حلال وثيابك حلال وزادك حلال ارجع مبرورا غير مأزور واستأنف العمل } ، أخرج هذه الرواية الأخيرة 1584 أبو ذر وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { رد دانق من حرام يعدل عند الله سبعين حجة } وأنشدوا

إذا حججت بمال أصله سحت فما حججت ولكن حجت العير


لا يقبل الله إلا كل طيبة     ما كل من حج بيت الله مبرور

، وقيل : إن هذين البيتين لأحمد بن حنبل ، وقيل : إنهما لغيره ويروى أنه لما مرض عبد الله بن عامر بن كريز مرضه الذي مات فيه أرسل إلى ناس من الصحابة وفيهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهم فقال : إنه قد نزل بي ما ترون فقالوا : كنت تعطي السائل وتصل الرحم وحفرت الآبار في الفلوات لابن السبيل وبنيت الحوض بعرفات فما نشك في نجاتك وعبد الله بن عمر ساكت فلما أبطأ عليه قال : يا أبا عبد الرحمن ألا تتكلم فقال عبد الله : إذا طابت المكسبة زكت النفقة وسترد فتعلم انتهى من الباب الثاني ، وقال فيه : وما أغبن من بذل نفسه وماله على صورة قصد الله - تعالى - وقصده فيه غيره فيبوء بالحرمان وغضب الرحمن انتهى .

والروايتان الأوليان أخرجهما الحافظ أبو الفرج في مثير الغرام إلى زيارة البيت الحرام قال ولكن بلفظ بمال من غير حله في الرواية الأولى وبلفظ هذا مردود عليك في الثانية وقوله : يؤم أي يقصد ، وقوله : شخص شخوص المسافر خروجه من منزله ، والسحت بضم الحاء وإسكانها قال في القاموس : الحرام وما خبث من المكاسب وقد نظم الشيخ أبو عبد الله محمد بن رشيد البغدادي في قصيدته التي في المناسك المسماة بالذهبية معنى هذا الحديث فقال

: وحج بمال من حلال عرفته     وإياك والمال الحرام وإياه
فمن كان بالمال المحرم حجه     فعن حجه والله ما كان أغناه
إذا هو لبى الله كان جوابه     من الله لا لبيك حج رددناه

[ ص: 530 ]

كذاك روينا في الحديث مسطرا     وما جاء في كتب الحديث سطرناه

قال ابن عطاء الله في مناسكه : وإنما أتي على كثير من الناس في عدم قبول عباداتهم وعدم استجابة دعواتهم لعدم تصفية أقواتهم عن الحرام والشبهات انتهى .

وقال النووي : فإن حج بمال حرام أو بشبهة فحجه صحيح ولكنه ليس بمبرور انتهى ، واعترض عليه بأن المبرور هو الذي لا يخالطه مأثم ومن وقع في الشبهات لم يتحقق وقوعه في الإثم وقد حمل العلماء قوله صلى الله عليه وسلم : ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام على وجهين قال الفاكهاني في شرح عمدة الأحكام أحدهما أن من تعاطى الشبهات وداوم أفضت به إلى الوقوع في الحرام ، والثاني أن من تعاطى الشبهات وقع في الحرام في نفس الأمر وإن كان لا يشعر بها فمنع من تعاطى الشبهات لذلك انتهى . ونحوه في شرح الأربعين فمن تعاطى ما فيه شبهة لا يحرم فإنه آثم إلا على القول بأن الشبهات حرام وقيل : إنها حلال وصوب القرطبي في المفهم القول بالكراهة انتهى من شرح الأربعين للفاكهاني ولأنهم عدوا من الشبهات ما اختلف فيه العلماء كما صرح به الفاكهاني والزناتي وغيرهم وابن ناجي ومن ارتكب ما اختلف فيه العلماء لا نقول فيه إثم فكان الأولى أن يقول فإن حج بشبهة خيف عليه أن لا يكون حجه مبرورا وقد اختلف العلماء في الحلال هل هو ما علم أصله أو ما جهل أصله : ورجح جماعة كثيرون الثاني منهم الشيخ الفاكهاني وأبو علي الجبائي ذكره في شرح الأربعين ولا سيما في هذا الزمان والله أعلم .

وقال المصنف في منسكه ثم ينظر في أمر الزاد وما ينفقه فيكون من أطيب جهة لأن الحلال يعين على الطاعة ويكسل عن المعصية وكان السلف رضي الله عنهم يتركون سبعين بابا من الحلال مخافة الوقوع في الحرام هذا وهم متلبسون بغير الحج فما بالك بالحج انتهى ، وقد قال صلى الله عليه وسلم { من أكل الحلال أطاع الله شاء أو أبى ومن أكل الحرام عصى الله شاء أو أبى } ذكره في المدخل وقال عليه السلام { : طلب الحلال فريضة } وقال عليه السلام { من أمسى وانيا من طلب الحلال بات مغفورا له } وقوله وانيا من قولهم ونى إذا تعب وعن عائشة رضي الله عنها { أنها قالت : يا رسول الله من المؤمن قال الذي إذا أصبح سأل من أين قرصه وإذا أمسى سأل من أين قرصه ، قالت : يا رسول الله لو علم الناس لتكلفوه قال : قد علموا ذلك ولكنهم غشموا المعيشة غشما } أي تعسفوا تعسفا ، وقال ابن عبدوس عماد الدين وقوامه طيب المطعم فمن طاب كسبه زكا عمله ومن لم يصحح في طيب مكسبه خيف عليه أن لا تقبل صلاته وصيامه وحجه وجهاده وجميع عمله لأن الله - تعالى - يقول { إنما يتقبل الله من المتقين } انتهى

التالي السابق


الخدمات العلمية