مواهب الجليل في شرح مختصر خليل

الحطاب - محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعينى

صفحة جزء
( الثاني : ) قال ابن معلى : قال بعض العلماء رضي الله عنهم : وكيفية الطواف : أن يمر بجميع بدنه على الحجر ، وذلك : بأن يستقبل البيت ، ويقف إلى جانب الحجر الذي إلى جهة الركن اليماني بحيث يصير جميع الحجر عن يساره يمينه ويصير منكبه الأيمن عند طرف الحجر ثم ينوي الطواف لله تعالى ثم يمشي مستقبل الحجر مارا إلى يمينه حتى يجاوز الحجر بجميع بدنه ، فإذا جاوزه انفتل ، وجعل يساره إلى البيت ويمينه إلى خارج ، ولو فعل هذا في الأول ، وترك استقبال الحجر جاز ذكر هذه الكيفية حذاق الشافعية ( قلت : ) ، ولم أر من تعرض لها من أئمة المالكية ، ولا شك أن الإتيان بها للخروج من الخلاف من باب الأولوية ; لأن النووي - رحمه الله - قال : لا يصح طواف من لم يمر بجميع بدنه على جميع الحجر انتهى .

كلام ابن المعلى ، ونقله التادلي عنه ، وأصله للنووي في الإيضاح وحاصل كلامه فيه : أنه يشترط في صحة الطواف أن يمر بجميع بدنه على جميع الحجر ، والمستحب في ذلك أن يستقبله على الكيفية المذكورة ، فإن جعل الحجر الأسود عن يساره [ ص: 66 ] من الأول ومر بجميع بدنه عليه جاز ، ولكن فاته المستحب ، كما صرح بذلك النووي في الكلام على الواجب الرابع من واجبات الطواف ، ولم يذكر ابن المعلى كلام النووي جميعه بل اقتصر على كلامه في كيفية ابتداء الطواف ، وظاهر كلام ابن معلى بل صريحه : أن هذه الكيفية ينبغي أن تكون مطلوبة أيضا في المذهب ، وكذلك ظاهر كلام التادلي : ما قالاه غير ظاهر فقد نازع المتأخرون من الشافعية النووي في استحباب الكيفية المذكورة ، قال ابن جماعة إثر كلامه المتقدم : حكى ابن الصلاح استحباب الكيفية الأولى من هاتين الكيفيتين في الطوفة الأولى خاصة دون ما بعدها عن الشيخ أبي حامد والقاضي أبي الطيب في طائفة من العراقيين وجزم النووي بأنه إذا تركها فاتته الفضيلة ثم قال ابن جماعة : ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { لما قدم مكة أتى الحجر فاستلمه ثم مشى على يمينه فرمل ثلاثا ومشى أربعا } فمن بدأ بالطواف مستقبلا للحجر إلى أن جاوزه ثم انفتل فقد خالف السنة ومضى جزء من طوافه ، والبيت ليس على يساره ، ولم ينقل ذلك عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم المبين عن الله ، ولا عن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين مع توفر الدواعي على النقل ، ولم يذكره الشافعي - رحمه الله - ولا الخراسانيون من الشافعية ، ولا الرافعي واقتصروا على الكيفية الثانية فالصحيح عدم استحباب الكيفية الأولى ، وكراهتها لما قدمناه ولأن ارتكابها قد يوقع في الأذى ، وأنا ممن تأذى بها ، فإن بعض فقهاء الشافعية عمل بها ، وأنا معه في الطواف ، وكنت وراءه حين مشى مستقبل الحجر قبل أن يجاوزه ، ولم أدر به فانفتل عند مجاوزته الحجر ، ولم يرني فداس رجلي فآذاني برجله بدوسته انتهى .

وقال الزركشي من الشافعية أيضا يلزم على الكيفية الأولى يعني التي استحبها النووي ثلاثة أمور تأخيره إلى صوب الركن اليماني بعد استلام الحجر ومشيه مستقبلا حتى يقطع الحجر وانفتاله بعد مجاوزته الحجر ، وإذا كان أبو الطيب لم يسمح بتكبيرة لم تثبت فكيف سمح بهذا بل في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم أتى الحجر فاستلمه ثم مشى على يمينه ، وظاهر كلام الأئمة : أن ذلك لا يجوز ; لأن من بدأ بالطواف مستقبلا الحجر إلى أن جاوزه ثم انفتل بعد مضي جزء من طوافه ، والبيت ليس على يساره فالوجه امتناعه ، وقد أشار ابن الرفعة لذلك ، وقال : إن الإمام احترز عنه بقوله : المراد بالبدن في المحاذاة شق الطائف اليسار لا غير لكن كلام القاضي أبي الطيب والبندنيجي وغيرهما مصرح بأن اشتراط جعل البيت على يساره هو من حين مجاوزة الحجر لا عند محاذاته ، وهو يؤيد كلام النووي انتهى .

فهؤلاء من أئمة الشافعية أنكروا هذه الكيفية ، وأنكروا استحبابها ، بل جعلوها مكروهة وممنوعة ، أما اشتراط أن يمر بجميع بدنه على جميع الحجر فقد اعترض عليه في ذلك بأنه صرح في الروضة ، وأصلها بأنه يكفي أن يحاذي بجميع بدنه بعض الحجر قال ، وينبغي أن يمر بجميع بدنه على جميع الحجر ، وقال في شرح المهذب إنه المذهب ، أما المالكية فليس في كلامهم تعرض للكيفية المذكورة بل الواقع في كلامهم أنهم يقولون : يستلم الحجر ثم يجعل البيت على يساره بل في كلام القاضي سند في الطراز ما يقتضي أنها غير مطلوبة ، فإنه قال : يبدأ في الطواف من الحجر الأسود فيستقبل الحجر بجميعه لما روي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل المسجد استقبل الحجر واستلمه ، والأحسن : أن يأتي عن يمين الحجر ، ويحاذي بيساره يمين الحجر ثم يقبله ويضعه على يساره ، ويطوف على يده اليمنى ، ولو حاذى بعضه أجزأه ; لأنه منه بدأ ، فإذا انتهى .

إلى ذلك الموضع كان شوطا وزعم بعض أصحاب الشافعي أنه لا يجزئه ذلك الشوط حتى يستقبل جميع الحجر عن يمينه ; لأنه ما لزمه استقباله لزمه بجميع بدنه كالقبلة ، وما قلناه أبين ; لأن الواجب طواف بالبيت [ ص: 67 ] وموضع البداءة الحجر ، وقد بدأ منه ، ويخالف القبلة ، فإن عليه أن لا يستقبل غيرها ، ولأنه في البيت أيضا لا يستقبل جميعه في الصلاة ، وإنما يستقبل بعضه وكذا يجزئه من الحجر بعضه انتهى .

قال ابن فرحون بعد أن ذكر كلام ابن معلى ، وهذا من الحرج الذي لا يلزم والمذهب مبني على عدم هذا التحديد ومراعاة هذه الكيفيات والمراعى أن يبتدئ من الحجر الأسود ويحتاط في ابتداء الشوط الأول بحيث يكون ابتداؤه من الحجر الأسود انتهى .

وقد صرح سند بأن البداءة من الحجر ليست شرطا عندنا بل هي مما يجبر بالدم بل صرحوا بأنه لو بدأ من بين الحجر والباب أنه يسير ويجزئه ، والله أعلم .

ولا يقال : قوله : في الطراز يستقبل الحجر بجميعه معارض لقوله : بعد والأحسن أن يأتي من يمين الحجر ويحاذي يساره بيمين الحجر ; لأنا نقول : المراد أنه يستقبل الحجر بجميع بدنه ، وتكون يده اليسرى محاذية ليمين الحجر ثم يقبله ويمشي على جهة يده اليمنى ، والله أعلم .

( الثالث : ) ذكر الشيخ أبو عبد الله بن الحاج في المدخل في ابتداء الطواف أمرا لا يحتاج إليه ، بل هو مشوش على كثير من الناس ، ويوجب لهم الوسواس ، وربما حصل منه إذا فعلوه تشويش على الطائفين ، ونصه : وليحذر مما يفعله بعضهم ، وهو أن يأتي الحجر فيقبله ثم يأخذ في الطواف ، وبعض الحجر خلفه ، وإذا فعل ذلك لم يستكمل الطواف بالبيت سبعة أشواط بل ستة ، فإذا كان في طواف القدوم وجب عليه دم ، وإن كان في طواف الإفاضة بطل طوافه ، ووجب عليه القضاء من قابل ، وهو باق على إحرامه فيلزمه في كل ما يقع له مما يخالف إحرامه ما ذكره العلماء في ذلك ، وهذا إذا لم يمكنه التدارك ، وكيفية ما يفعله حتى يسلم مما ذكر وهو أن يمشي ثلاث خطوات أو نحوها من ناحية الركن اليماني ثم يرد البيت على يساره ثم يأخذ في الطواف فيكون على يقين من إكماله ، ومثل ذلك يفعل في الشوط الأخير يمشي فيه حتى يترك الحجر خلفه بخطوتين أو ثلاث لكي يوقن ببراءة ذمته انتهى .

( قلت : ) ، وهذا غير لازم ; لأنه قد تقدم أنه إذا ابتدأ من أي ناحية من الحجر أجزأه إذا تم الشوط السابع إلى الموضع الذي ابتدأ منه بل لو ابتدأ من بين الركن والباب فقد تقدم أنه يجزئه إذا أتم إليه ، فإن كان مراد صاحب المدخل أنه إذا ابتدأ من وسط الحجر الأسود أو من جانبه الذي يلي البيت ثم أتم الطواف إلى طرفه الذي يلي الركن اليماني فما قاله من عدم صحة الطواف صحيح ولكنه لا يحتاج إلى ذكره من الرجوع إلى جهة الركن اليماني بثلاث خطوات أو نحوها ولأن ذلك ربما آذى الطائفين وشوش عليهم وتقدم بيان ما يفعله في ابتداء الطواف ، وقال ابن الفاكهاني في شرح الرسالة : ينبغي أن يحتاط عند ابتدائه الطواف بأن يقف قبل الركن بقليل بأن يكون الحجر عن يمين موقفه ليستوعب جملته بذلك ; لأنه إن لم يستوعب الحجر لم يعتد بذلك الشوط الأول فليتنبه لذلك ، فإن كثيرا ما يقع فيه الجاهل انتهى .

( قلت : ) إن أراد أن هذا هو الأولى فظاهر لكن قوله إن لم يستوعب الحجر لم يعتد بذلك الشوط ليس بظاهر لما تقدم

التالي السابق


الخدمات العلمية