مواهب الجليل في شرح مختصر خليل

الحطاب - محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعينى

صفحة جزء
ص ( وللحج حضور جزء عرفة ساعة ليلة النحر ، ولو مر إن نواه )

ش : هذا هو الركن الرابع : الذي ينفرد به الحج ، وهو الوقوف وإضافة الحضور لجزء عرفة على معنى في وساعة منصوب على الظرفية ، وهي مضافة لليلة النحر على معنى اللام ونبه بقوله : جزء عرفة على أن الوقوف يصح في كل موضع من عرفة لكن المستحب أن يقف حيث يقف الناس واستحب ابن حبيب أن يستند إلى الهضاب من سفح الجبل قال في النوادر : قال ابن حبيب : ثم استند إلى الهضاب من سفح الجبل ، وحيث يقف الإمام أفضل ، وكل عرفة موقف ، ثم قال : ففيها عن كتاب ابن المواز قال مالك : ولا أحب لأحد أن يقف على جبال عرفة ، ولكن مع الناس ، وليس في موضع من ذلك فضل إذا وقف مع الناس ، ومن تأخر عنهم فوقف دونهم أجزأه قال محمد إذا ارتفع من بطن عرنة ثم قال فيها أيضا : قال أشهب : وأحب موقف عرفة إلي ما قرب من عرفة ، ومن مزدلفة ما قرب من الإمام انتهى .

وقوله : ما قرب من عرفة يريد - والله أعلم - ما قرب منها إلى موضع وقوف الناس فمن في قوله : من عرفة على أصلها ، والمجرور في موضع الحال ، وما في قوله : ما قرب من الإمام بمعنى الذي فتحصل من كلامه في النوادر أن ابن حبيب يقول : إن الاستناد إلى الهضب من سفح الجبل ، وحيث يقف الإمام أفضل وقوله : حيث يقف الإمام ، كذا نقله في النوادر بالواو وتبعه على ذلك غير واحد من أهل المذهب ، وهو من عطف التفسير ، وهو في مختصر الواضحة بغير واو ، ولفظه : إذا انقضت الصلاة فخذ [ ص: 92 ] في التكبير والتحميد والتهليل وامض إلى الموقف بعرفة فاستند إلى الهضاب من سفح الجبل حيث يقف الإمام أفضل ذلك ، وحيث ما وقفت من عرفة أجزأك انتهى .

وكان الإمام في ذلك الزمان يقف هناك ، وأما في هذا الزمان فيقف على موضع مرتفع آخر جبل الرحمة وتحصل أيضا من كلام النوادر أن مذهب مالك في كتاب ابن المواز ليس في ذلك موضع له فضل على غيره إذا وقف حيث يقف الناس ، وأنه لا يقف على جبل عرفة ، ولا يبعد عن محل وقوف الناس ، ونحوه ما حكاه أشهب هذا الذي تلخص من كلامه في النوادر ، وقال في الجلاب : وليس لموضع من عرفة فضيلة على غيره والاختيار الوقوف مع الناس ويكره الوقوف على جبال عرفة انتهى .

وظاهره متدافع إلا أن يحمل قوله : ليس لموضع من عرفة فضيلة أي : من الموضع الذي يقف فيه الناس فيكون حينئذ موافقا لما في كتاب ابن المواز ويزول عنه التدافع ، والله أعلم .

( تنبيهات الأول : ) قال ابن معلى بعد أن ذكر كلام ابن الجلاب ، وقد اعترض على قوله : ليس لموضع من عرفة فضيلة على غيره ; لأن العلماء استحبوا الوقوف حيث وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : وهذا الموقف عند الصخرات الكبار المفروشة في أسفل جبل الرحمة ، وهو الجبل الذي توسط أرض عرفة ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف هناك على ما في صحيح مسلم ، وقد نص حذاق المذهب على استحباب هذا الموضع للوقوف فينبغي الاعتناء بالمحافظة عليه والاهتمام بالقصد إليه تبركا بآثاره صلى الله عليه وسلم انتهى .

، وقال التادلي : قال عياض في الإكمال واستحب العلماء الوقوف بموضع وقوف النبي صلى الله عليه وسلم لمن قدر عليه انتهى .

ونص كلامه في الإكمال في شرح قوله : حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصوى إلى الصخرات وجعل جبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة ، فيه إن السنة الوقوف على هذه الهيئة واستحبوا هذا الموضع ثم قال : وقوله : وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف ووقفت هاهنا وجمع كلها موقف تعريف بتوسعة الأمر على أمته وبيان لهم واستحب العلماء الوقوف بموضع وقوف النبي صلى الله عليه وسلم لمن قدر عليه انتهى ما قاله في الإكمال ، ونقله التادلي عنه ، وذكره ابن معلى هو الذي قاله ابن حبيب ، وظاهر كلام مالك في الموازية خلافه ولهذا قال ابن جماعة الشافعي في منسكه الكبير وأفضل المواقف في قول غير المالكية عند الصخرات الكبار المفروشة في طرق الروابي الصغار التي عند ذيل الجبل الذي بوسط عرفات ، وهو الجبل المسمى بجبل الرحمة ثم قال : ومشهور مذهب مالك أن ليس لموضع من عرفة فضيلة على غيره ، وإنما يكره الوقوف على جبال عرفة ويقف مع عامة الناس انتهى .

( قلت : ) والظاهر أن قول مالك ليس بمخالف لقول ابن حبيب ، وأن معنى قول مالك ليس في موضع من ذلك فضل أي : أنه لم يرد في ذلك حديث يقتضي فضل موضع من المواضع على غيره ، وذلك لا ينافي استحباب القرب من محل وقوفه صلى الله عليه وسلم تبركا به فيتحصل من هذا أن الوقوف على جبال عرفة مكروه ، ومثله البعد عن محل وقوف الناس ، والمستحب أن يقف في محل وقوف الناس ، والقرب من الهضاب حيث يقف الإمام أفضل ، والهضاب بكسر الهاء جمع هضبة على وزن تمرة قال في القاموس والهضبة الجبل المنبسط على الأرض ، أو جبل خلق من صخرة واحدة ، أو الجبل الطويل الممتنع المنفرد ، ولا يكون إلا في حجر الجبل انتهى .

( قلت : ) والظاهر أن المراد بها في كلام ابن حبيب المعنى الأول ، فإن الظاهر أنه أراد بالصخرات المفروشة عند جبل الرحمة ويقال : لجبل الرحمة إلال على وزن هلال ، وقيل : بفتح الهمزة ( الثاني : ) قال ابن جماعة الشافعي ، وقد اجتهد والدي - تغمده الله برحمته - في تعيين موقف النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 93 ] وجمع فيه بين الروايات ، فقال : إنه الفجوة المستعلية المشرفة على الموقف ، وهي من وراء الموقف صاعدة في الرابية ، وهي التي عن يمينها ووراءها صخر ناتئ متصل بصخر الجبل المسمى بجبل الرحمة وهذه الفجوة بين الجبل المذكور والبناء المربع عن يساره ، وهي إلى الجبل أقرب بقليل بحيث يكون الجبل قبالة الواقف بيمين إذا استقبل القبلة ، ويكون طرف الجبل قبالة وجهه ، والبناء المربع عن يساره بقليل وراء ، وقال : إنه وافقه على ذلك من يعتمد عليه من محدثي مكة وعلمائها حتى حصل الظن بتعيينه انتهى .

وقوله : عن يساره أي : يسار الجبل ، وقوله : بيمين أي : في جهة يمين الواقف ، وقوله : عن يساره بقليل وراء أي : عن يساره إلى جهة وراء ، والبناء المربع الذي ذكره هو الذي يقال له : بيت آدم قال الفاسي ، وكان سقاية للحاج أمرت بعملها والدة المقتدر انتهى .

( قلت : ) والأئمة في هذا الزمان لا يقفون في هذا الموضع ، وإنما يقفون على موضع مرتفع في الجبل ، كما تقدم بيانه ، وكأنهم فعلوا ذلك ليراهم الناس ، والله أعلم .

( الثالث : ) نقل الأزرقي عن ابن عباس أن حد عرفة من الجبل المشرف على بطن عرنة بالنون إلى جبال عرفة إلى وصيق إلى ملتقى وصيق ووادي عرفة بالفاء ووصيق بواو مفتوحة وصاد مهملة مكسورة ومثناة تحتية ساكنة وقاف قال الشيخ إبراهيم بن هلال : وعرفة كل سهل وجبل أقبل على الموقف فيما بين التلعة إلى أن تقضي إلى طريق نعمان وما أقبل من كبكب من عرفة انتهى .

وأصله لابن شعبان ، ونص كلامه في الزاهي ، ويقفون مستقبلي القبلة عن يمين الإمام وشماله وأمامه وخلفه وعرفة كلها موقف إلا بطن عرنة ; لأنه من الحرم وعرنة كل سهل وجبل أقبل على الموقف فيما بين التلعة التي تفضي إلى طريق نعمان ، والتي تفضي إلى طريق حضن ، ما أقبل من كبكب من عرفات انتهى .

وذكر النووي ، وغيره في ذلك كلاما طويلا ، وقد تقدم أن جبل الرحمة في وسط عرفة ، والناس ينزلون حوله في قطعة من أرض عرفة ، وهي متسعة من جميع الجهات ، والمحتاج إليه من حدودها ما يلي الحرم للاختلاف فيه ، ولئلا يجاوزه الحاج قبل الغروب ، وقد صار بذلك معروفا بالأعلام التي بنيت ، وكانت ثلاثة فسقط منها واحد ، وبقي اثنان مكتوب في أحدهما : أنه لا يجوز لحاج بيت الله أن يجاوز هذه الأعلام قبل غروب الشمس ( الرابع : ) قال ابن جماعة الشافعي اشتهر عند كثير من العوام ترجيح الوقوف على جبل الرحمة على الوقوف على غيره أو أنه لا بد من الوقوف عليه ، ويختلفون بذلك قبل وقت الوقوف ، ويوقدون الشمع عليه ليلة عرفة ، ويهتمون باستصحابها من بلادهم ، ويختلط الرجال بالنساء في الصعود والهبوط ، وذلك خطأ وجهالة ، وابتداع قبيح حدث بعد انقراض السلف الصالح نسأل الله إزالته وسائر البدع ، وشذ بعض أهل العلم من متأخري الشافعية فاستحب الوقوف عليه ، وسماه جبل الدعاء ، وليس لذلك أصل انتهى .

( قلت : ) ذكر المحب الطبري في القربى استحباب طلوعه ، وعبر المصنف بالحضور لينبه على أن المراد بالوقوف الكون بعرفة مع الطمأنينة على أي وجه حصل ذلك بقيام أو جلوس أو اضطجاع ما عدا المرور ففيه تفصيل يذكره المصنف قال سند ، ولا يشترط أحد في الوقوف قياما ، وإنما هو الكون بعرفة فكيف ما كان أجزأه قائما كان أو جالسا أو ماشيا أو راكبا ، وكيف ما تصور ، وقال بعده : الواجب من الوقوف الكون بها على أي وجه كان ، والمستحب أن يقف قائما إن كان ماشيا أو يركب ناقته مستقبل القبلة انتهى .

قال ابن عبد السلام : ليس المراد من لفظ الوقور حقيقته ، وإنما المراد منه الطمأنينة بعرفة سواء كان فيها واقفا أو جالسا أو غير ذلك ما عدا المرور من غير طمأنينة فهو المختلف فيه ، وإنما كثر استعمالهم الوقوف هنا ; لأنه أفضل [ ص: 94 ] الأحوال في حق أكثر الناس ، والركوب لا يتأتى في حق الأكثر انتهى .

وقال في التوضيح : المراد بالوقوف بعرفة الطمأنينة ، ولو جالسا انتهى .

وقال ابن فرحون ليس المراد بالوقوف القيام على الرجلين فالراكب بغيره يسمى واقفا بل المراد الطمأنينة بعرفة سواء كان فيها واقفا أو جالسا أو مضطجعا ما عدا المرور من غير طمأنينة فهو المختلف فيه انتهى .

وقول المصنف : ولو مر إن نواه أشار به إلى الخلاف في إجزاء المرور بعرفة من غير طمأنينة فذكر أنه يجزئ إذا نوى به الوقوف ، ويريد إذا عرفها بدليل قوله : بعد هذا إلا لجاهل ، ما ذكره من إجزاء المرور إذا نوى به الوقوف هذا أحد الأقوال الأربعة وعزاه في التوضيح لابن المواز وعزاه ابن عرفة للشيخ عن ابن المواز ولابن محرز ، وذكر في التوضيح عن سند أنه شهر إجزاء المرور ، وإن لم يعرفها ، ولم ينو الوقوف ، وهو ظاهر كلام سند ، وقيل : يجزئ مروره إذا عرفها ، وإن لم ينو الوقوف ، وإنما يجزئ المرور إذا عرفها ونوى الوقوف ، وذكر الله ، وقيل : بالوقف ذكر هذه الأقوال الأربعة ابن عرفة ( تنبيهات الأول : ) قال ابن عبد السلام ، وإذا قيل : إن المرور يجزئ فقال في كتاب محمد : عليه دم ، ونقله ابن فرحون

التالي السابق


الخدمات العلمية