مواهب الجليل في شرح مختصر خليل

الحطاب - محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعينى

صفحة جزء
، ثم أشار بقوله : وأعظم مالك إلخ إلى مسألة تتعلق بخزنة الكعبة ، وليست من باب النذور ، ولكن ذكرها في المدونة فيه فتبعه المصنف كغيره من أهل المذهب

( ولما تعرض المصنف لهذه المسألة ، فلا بأس أن نبسط القول فيها ونذكر ما يتعلق بها من المسائل والأحكام تتميما للفائدة إذ ليس لها محل غير هذا ) فأقول : الخزنة جمع خازن ، وخزنة الكعبة هم بنو شيبة يقال لهم : خزنة وسدنة وحجبة ، منصبهم يقال له : حجابة وسدانة وخزانة بكسر الخاء ، قال المحب الطبري في الباب الثامن والعشرين من كتاب القربى : الحجابة منصب بني شيبة ولاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها كما ولى السقاية لعمه العباس رضي الله عنه ، وصح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { ألا إن كل مأثرة كانت في الجاهلية فهي تحت قدمي إلا سقاية الحاج وسدانة البيت } والمأثرة : المكرمة والمفخرة التي تؤثر عنهم أي تروى عنهم وتذكر ، والمراد والله أعلم إسقاطها وحطها إلا هاتين المأثرتين ، وسدانة البيت خدمته وتولي أمره وفتح بابه وإغلاقه ، يقال : سدن يسدن فهو سادن والجمع سدنة ، ثم ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة عام الفتح قال لعثمان بن طلحة : ائت بالمفتاح .

قال : فأتيته به ، ثم دفعه إلي ، وقال : خذوها يا بني أبي طلحة خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم ، ثم قال : ولم يزل عثمان يلي البيت إلى أن توفي ، فدفع ذلك إلى شيبة بن عثمان بن أبي طلحة ، وهو ابن عمه فبقيت الحجابة في بني شيبة ، ثم ذكر عن ابن عبد البر أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع المفتاح يوم الفتح إلى عثمان بن أبي طلحة وإلى ابن عمه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة ، وقال : خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم قال ، ثم نزل عثمان المدينة فأقام بها إلى أن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم انتقل إلى مكة فسكنها حتى مات في أول خلافة معاوية رضي الله عنه سنة اثنين وأربعين ، وقيل : قتل بأجنادين ، ثم ذكر عن الواحدي أن أخذ المفتاح من عثمان ورده إليه ونزول الآية بالأمر برده [ ص: 327 ] كان عثمان كافرا ، انتهى .

( قلت ) والأول هو الذي تدل عليه الأحاديث ، وأجنادين بفتح الهمزة وفتح الدال المهملة ومنهم من يكسرها ، وهو موضع بالشام كانت به وقعة مشهورة بين المسلمين والروم ، وقال النووي في تهذيب الأسماء واللغات في ترجمة عثمان بن أبي طلحة : أسلم مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص في هدنة الحديبية ، وشهد فتح مكة ودفع النبي صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة إليه وإلى ابن عمه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة { وقال : خذوها يا بني أبي طلحة خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم } ونزل عثمان المدينة ، ثم مكة وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وتوفي بمكة سنة اثنتين وأربعين ، وقيل : قتل يوم أجنادين وقتل أبو طلحة وعمه عثمان بن أبي طلحة يوم أحد كافرين ، وذكر المحب الطبري في آخر كلام الواحدي أنه جاء جبريل وقال : ما دام هذا البيت ، فإن المفتاح والسدانة في أولاد عثمان ، زاد الواحدي في أسباب النزول : وهو اليوم في أيديهم ، وقال المحب الطبري : وقوله : خالدة تالدة ، لعله من التالد ، وهو المال القديم ، أي أنها لكم من أول ومن آخر ، أو يكون أتباعا لخالدة بمعناها ، قال العلماء : لا يجوز لأحد أن ينزعها منهم ، قالوا : وهي ولاية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأعظم مالك أن يشرك معهم غيرهم ، قال المحب الطبري قلت : ولا يبعد أن يقال هذا إذا حافظوا على حرمته ، ولازموا في خدمته الأدب ، أما إذا لم يحفظوا حرمته ، فلا يبعد أن يجعل عليهم مشرف يمنعهم من هتك حرمته ، وربما تعلق العنين الرأي المعكوس الفهم بقوله صلى الله عليه وسلم وكلوا بالمعروف فاستباح أخذ الأجرة على دخول البيت ، ولا خلاف بين الأمة في تحريم ذلك ، وأنه من أشنع البدع وأقبح الفواحش ، وهذه اللفظة إن صحت فيستدل بها على إقامة الحرمة ; لأن أخذ الأجرة ليس من المعروف ، وإنما الإشارة والله أعلم إلى ما يقصدون به من البر والصلة على وجه التبرر ، فلهم أخذه ، وذلك أكل بالمعروف لا محالة ، أو إلى ما يأخذونه من بيت المال على ما يتولونه من خدمته والقيام بمصالحه ، فلا يحل لهم منه إلا قدر ما يستحقونه ، انتهى .

ونقل القاضي تقي الدين الفاسي المالكي في شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام في الباب الثامن منه كلام المحب الطبري مختصرا .

( قلت ) وما ذكره المحب الطبري من أنهم يمنعون من هتك حرمته هو الحق الذي لا شك فيه ، لا كما يعتقده بعض الجهلة من أنه لا ولاية لأحد عليه ، وإنهم يفعلون في البيت الشريف ما شاءوا ، فإن هذا لا يقوله أحد من المسلمين ، وإنما المحرم نزع المفتاح منهم ، وأما إجراء الأحكام الشرعية عليهم ومنعهم من كل ما فيه انتهاك لحرمة البيت أو قلة أدب ، فهذا واجب لا يخالف فيه أحد من المسلمين ، وما ذكره من تحريم أخذ الأجرة على فتح البيت ظاهر أيضا لا شك فيه ، ووجهه أن أخذ الأجرة إنما يجوز على ما يختص الإنسان بمنفعته والانتفاع به ، والبيت لا يختص به أحد دون أحد ، فلا يجوز لهم أخذ الأجرة على فتحه ، وإنما لهم الولاية على فتحه وإغلاقه في الأوقات التي جرت العادة بفتحه فيها ، ولا يجوز لهم إغلاقه ومنع الناس منه دائما والله أعلم .

( تنبيه ) والظاهر أن حكم فتح المقام وأخذ الأجرة عليه كذلك ولم أقف لأحد في ذلك على كلام والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية