ذكر طرف من أخباره

روى أبو الحسين بن المنادى بإسناد له عن عتبة بن عامر الجهني ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ذا القرنين ، فقال: "إن أول أمره أنه كان غلاما من الروم أعطي ملكا حتى أتى أرض مصر ، فابتنى عندها مدينة يقال لها الإسكندرية ، فلما فرغ من بنائها أتاه ملك فعرج به فقال له: انظر ما تحتك ، قال: ما أرى مدينتي وأرى مدائن معها ، ثم عرج به ، فقال له: انظر ، فقال: قد اختلطت المدائن ، ثم زاد فقال له: انظر ، فقال: أرى مدينتي وحدها لا أرى غيرها ، فقال له الملك: إنما تلك الأرض كلها ، وهذا السواد الذي ترى محيطا به البحر ، وإنما أراد الله أن يريك الأرض وقد جعل لك سلطانا فيها ، فسر في الأرض علم الجاهل وثبت العالم .

[فسار] حتى بلغ مغرب الشمس ثم أتى السدين ، وهما جبلان لينان ينزل عنهما كل شيء كما قال تعالى : ثم أتبع سببا حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا يعني غتما . فيقال : إنهم هم الترك ، أبناء عم يأجوج ومأجوج فذكروا له أن هاتين القبيلتين قد تعدوا عليهم وأفسدوا في بلادهم ، وقطعوا السبل عليهم ، وبذلوا له حملا وهو الخراج على أن يقيم بينهم وبينهم حاجزا يمنعهم من الوصول إليهم ، فامتنع من أخذ الخراج ; اكتفاء بما أعطاه الله من الأموال الجزيلة قال ما مكني فيه ربي خير ثم طلب منهم أن يجمعوا له رجالا وآلات ليبني بينهم وبينهم سدا ، وهو الردم بين الجبلين ، وكانوا لا يستطيعون الخروج إليهم إلا من بينهما ، وبقية ذلك بحار مغرقة ، وجبال شاهقة ، فبناه ثم سار فوجد يأجوج ومأجوج يقاتلون قوما وجوههم كوجوه الكلاب ، ثم قطعهم ، فوجد أمة قصارا يقاتلون الذين وجوههم كوجوه الكلاب ، ثم مضى فوجد أمة من الغرانيق يقاتلون القوم القصار ، ثم مضى فوجد أمة من الحيات تلتقم الحية منها الصخرة العظيمة ، ثم أفضى إلى البحر المدير بالأرض" . قال ابن الأثير في كتابه الكامل وعنده أن ذا القرنين هو الإسكندر كان فيلفوس أبو الإسكندر اليوناني من أهل بلدة يقال لها مقدونية ، كان ملكا عليها وعلى بلاد أخرى ، فصالح دارا على خراج يحمله إليه في كل سنة . فلما هلك فيلفوس ملك بعده ابنه الإسكندر واستولى على بلاد الروم أجمع ، فقوي على دارا فلم يحمل إليه من الخراج شيئا وكان الخراج الذي يحمله بيضا من ذهب فسخط عليه دارا وكتب إليه يؤنبه بسوء صنيعه في ترك حمل الخراج ، وبعث إليه بصولجان وكرة وقفيز من سمسم ، وكتب إليه : إنه صبي ، وإنه ينبغي له أن يلعب بالصولجان ، والكرة ، ويترك الملك ، وإن لم يفعل ذلك واستعصى عليه بعث من يأتيه به في وثاق ، وإن عدة جنوده كعدة حب السمسم الذي بعث به إليه .

فكتب إليه الإسكندر : إنه قد فهم ما كتب به ، وقد نظر إلى ما ذكر في كتابه من إرساله الصولجان ، والكرة ، وتيمن به لإلقاء الملقي الكرة إلى الصولجان واحترازه إياها ، وشبه الأرض بالكرة ، وأنه يجر ملك دارا إلى ملكه ، وتيمنه بالسمسم الذي بعث كتيمنه بالصولجان ، والكرة لدسمه وبعده من المرارة والحرافة ، وبعث إليه بصرة فيها خردل ، وأعلمه في ذلك أن ما بعث به إليه قليل ولكنه مر حريف ، وأن جنوده مثله . فلما وصل كتابه إلى دارا تأهب لمحاربته .

وقد زعم بعض العلماء بأخبار الأولين أن الإسكندر الذي حارب دارا بن دارا هو أخو دارا الأصغر الذي حاربه ، وأن أباه دارا الأكبر كان تزوج أم الإسكندر ، وهي ابنة ملك الروم ، فلما حملت إليه وجد نتن ريحها وسهكها ، فأمر أن يحتال لذلك منها ، فاجتمع رأي أهل المعرفة في مداواتها على شجرة يقال لها بالفارسية سندر ، فغسلت بمائها فأذهب ذلك كثيرا من نتنها ولم يذهب كله ، وانتهت نفسه عنها ، فردها إلى أهلها ، وقد علقت منه فولدت عند أهلها غلاما فسمته باسم الشجرة التي غسلت بمائها مضافا إلى اسمها .

وقد هلك أبوها وملك الإسكندر بعده ، فمنع الخراج الذي كان يؤديه جده إلى دارا ، فأرسل يطلبه ، وكان بيضا من ذهب ، فأجابه إني قد ذبحت الدجاجة التي كانت تبيض ذلك البيض وأكلت لحمها ، فإن أحببت وادعناك ، وإن أحببت ناجزناك .

ثم خاف الإسكندر من الحرب فطلب الصلح ، فاستشار دارا أصحابه ، فأشاروا عليه بالحرب لفساد قلوبهم عليه ، فعند ذلك ناجزه دارا القتال ، فكتب الإسكندر إلى حاجبي دارا وحكمهما على الفتك بدارا ، فاحتكما شيئا ، ولم يشترطا أنفسهما . فلما التقيا للحرب طعن دارا حاجباه في الوقعة ، وكانت الحرب بينهما سنة ، فانهزم أصحاب دارا ولحقه الإسكندر وهو بآخر رمق .

وقيل : بل فتك به رجلان من حرسه من أهل همذان حبا للراحة من ظلمه ، وكان فتكهما به لما رأيا عسكره قد انهزم عنه ، ولم يكن ذلك بأمر الإسكندر ، وكان قد أمر الإسكندر مناديا ينادي عند هزيمة عسكر دارا أن يؤسر دارا ولا يقتل ، فأخبر بقتله ، فنزل إليه ومسح التراب عن وجهه وجعل رأسه في حجره ، وقال له : إنما قتلك أصحابك وإنني لم أهم بقتلك قط ، ولقد كنت أرغب بك يا شريف الأشراف ويا ملك الملوك وحر الأحرار عن هذا المصرع ، فأوص بما أحببت ، فأوصاه دارا أن يتزوج ابنته روشنك ويرعى حقها ويعظم قدرها ، ويستبقي أحرار فارس ويأخذ له بثأره ممن قتله . ففعل الإسكندر ذلك أجمع وقتل حاجبي دارا ، وقال لهما : إنكما لم تشترطا نفوسكما ، فقتلهما بعد أن وفى لهما بما ضمن لهما ، وقال : ليس ينبغي أن يستبقى قاتل الملوك إلا بذمة لا تخفر .

وكان التقاؤهما بناحية خراسان مما يلي الخزر ، وقيل ببلاد الجزيرة عند دارا .

وكان ملك الروم قبل الإسكندر متفرقا فاجتمع ، وملك فارس مجتمعا فتفرق . وحمل الإسكندر كتبا ، وعلوما لأهل فارس من علوم ، ونجوم ، وحكمة ، ونقله إلى الرومية

فجمع بعد هلك دارا ملك دارا فملك العراق ، والشام ، والروم ، ومصر ، والجزيرة ، وعرض جنده فوجدهم على ما قيل ألف ألف وأربعمائة ألف رجل ، منهم من جنده ثمانمائة ألف رجل ، ومن جند دارا ستمائة ألف رجل ، وتقدم بهدم حصون فارس وبيوت النيران وقتل الهرابذة ، وأحرق كتبهم ، واستعمل على مملكة فارس رجالا ، وسار قدما إلى أرض الهند ، فقتل ملكها ، وفتح مدنها ، وخرب بيوت الأصنام ، وأحرق كتب علومهم ، ثم سار منها إلى الصين ، فلما وصل إليها أتاه حاجبه في الليل وقال : هذا رسول ملك الصين ، فأحضره فسلم وطلب الخلوة ، ففتشوه فلم يروا معه شيئا ، فخرج من كان عند الإسكندر ، فقال : أنا ملك الصين جئت أسألك عن الذي تريده ، فإن كان مما يمكن عمله عملته وتركت الحرب . فقال له الإسكندر : ما الذي آمنك مني ؟ قال : علمت أنك عاقل حكيم ولم يكن بيني وبينك عداوة ولا ذحل ، وأنت تعلم أنك إن قتلتني لم يكن قتلي سببا لتسليم أهل الصين ملكي إليك ، ثم إنك تنسب إلى الغدر .

فعلم أنه عاقل فقال له : أريد منك ارتفاع ملكك لثلاث سنين عاجلا ونصف الارتفاع لكل سنة . قال : قد أجبتك ولكن اسألني كيف حالي ، قال : كيف حالك ؟ قال : أكون أول قتيل لمحارب وأول أكلة لمفترس . قال : فإن قنعت منك بارتفاع سنتين ؟ قال : يكون حالي أصلح قليلا . قال : فإن قنعت منك بارتفاع سنة ؟ قال : يبقى ملكي وتذهب لذاتي . قال : وأنا أترك لك ما مضى وآخذ الثلث كل سنة فكيف يكون حالك قال : يكون السدس للفقراء والمساكين ومصالح البلاد ، والسدس لي ، والثلث للعسكر ، والثلث لك . قال : قد قنعت منك بذلك . فشكره وعاد ، وسمع العسكر بذلك ففرحوا بالصلح .

فلما كان الغد خرج ملك الصين بعسكر عظيم أحاط بعسكر الإسكندر ، فركب الإسكندر والناس ، فظهر ملك الصين على الفيل وعلى رأسه التاج ، فقال له الإسكندر : أغدرت ؟ قال : لا ولكني أردت أن تعلم أني لم أطعك من ضعف ولكني لما رأيت العالم العلوي مقبلا عليك أردت طاعته بطاعتك ، والقرب منه بالقرب منك ، فقال له الإسكندر : لا يسام مثلك الجزية ، فما رأيت بيني وبينك من يستحق الفضل والوصف بالعقل غيرك ، وقد أعفيتك من جميع ما أردته منك وأنا منصرف عنك . فقال له ملك الصين : فلست تخسر ، وبعث إليه بضعف ما كان قرره ، وسار الإسكندر عنه من يومه ودانت له عامة الأرضين في الشرق والغرب وملك التبت وغيرها .

وعند ابن الأثير في كتابه الكامل وعنده أن ذا القرنين هو الإسكندر ومن حيل الإسكندر في حروبه أنه لما حارب دارا خرج إلى بين الصفين وأمر مناديا فنادى : يا معشر الفرس ، قد علمتم ما كتبتم إلينا وما كتبنا إليكم من الأمان ، فمن كان منكم على الوفاء فليعتزل فإنه يرى منا الوفاء . فاتهمت الفرس بعضها بعضا واضطربوا .

ومن حيله أنه تلقاه ملك الهند بالفيلة ، فنفرت خيل أصحابه عنها ، فعاد عنه وأمر باتخاذ فيلة من نحاس وألبسها السلاح وجعلها مع الخيل حتى ألفتها ، ثم عاد إلى الهند ، فخرج إليه ملك الهند ، فأمر الإسكندر بتلك الفيلة فملئت بطونها من النفط والكبريت ، وجرت على العجل في وسط المعركة ومعها جمع من أصحابه ، فلما نشبت الحرب أمر بإشعال النار في تلك الفيلة ، فلما حميت انكشف أصحابه عنها وغشيتها فيلة الهند ، فضربتها بخراطيمها فاحترقت وولت هاربة راجعة إلى الهند ، فانهزموا بين يديها .

ومن حيله أنه أنزل على مدينة حصينة وكان بها كثير من الأقوات وبها عيون ماء ، فعاد عنها فأرسل إليها قوما على هيئة التجار ومعهم أمتعة يبيعونها وأمرهم بمشترى الطعام والمغالات في ثمنها ، فإذا صار عندهم أحرقوه وهربوا ، ففعلوا ذلك وهربوا إليه فأنفذ السرايا إلى سواد تلك المدينة وأمرهم بالغارة مرة بعد أخرى ، فهربوا ودخلوا البلد ليحتموا به ، فسار الإسكندر إليهم ، فلم يمتنعوا عليه .

وكتب إلى أرسطا طاليس يذكر له أنه من خاصة الروم جماعة لهم همم بعيدة ونفوس كبيرة وشجاعة ، وأنه يخافهم على نفسه ويكره قتلهم بالظنة . فكتب إليه أرسطا طاليس : فهمت كتابك ، فإن ما ذكرت من بعد هممهم فإن الوفاء من بعد الهمة وكبر النفس ، والغدر من دناءة النفس وخستها ، وأما شجاعتهم ونقص عقولهم ، فمن كانت هذه حاله فرفهه في معيشته واخصصه بحسان النساء ، فإن رفاهية العيش تميت الشجاعة ، وتحبب السلامة ، وإياك والقتل فإنه ذلة لا تستقال وذنب لا يغفر ، وعاقب بدون القتل تكن قادرا على العفو ، فما أحسن العفو من القادر ، وليحسن خلقك تخلص لك النيات بالمحبة ، ولا تؤثر نفسك على أصحابك ، فليس مع الاستئثار محبة ، ولا مع المؤاساة بغضة .

وكتب إلى أرسطا طاليس أيضا لما ملك بلاد فارس يذكر أنه رأى بإيران شهر رجالا ذوي رأي ، وصرامة ، وشجاعة ، وجمال ، وأنساب رفيعة ، وأنه إنما ملكهم بالحظ والإنفاق ، وأنه لا يأمن - إن سافر عنهم فأفرغهم - وثوبهم وأنه لا يكفى شرهم ببوارهم . فكتب إليه : قد فهمت كتابك في رجال فارس ، فأما قتلهم فهو من الفساد والبغي الذي لا يؤمن عاقبته ، ولو قتلتهم لأنبت أهل البلد أمثالهم وصار جميع أهل البلد أعداءك بالطبع وأعداء عقبك لأنك تكون قد وترتهم بغير حرب ، وأما إخراجك إياهم من عسكرك فمخاطرة بنفسك وأصحابك ، ولكني أشير عليك برأي هو أبلغ من القتل ، وهو أن تستدعي منهم أولاد الملوك ومن يصلح للملك فتقلدهم البلدان وتجعل كل واحد منهم ملكا برأسه فتتفرق كلمتهم ويقع بأسهم بينهم ويجتمعون على الطاعة والمحبة لك ويرون أنفسهم صنيعتك . ففعل الإسكندر ذلك ، فهم ملوك الطوائف ، وقيل في ملوك الطوائف غير هذا السبب

التالي السابق


الخدمات العلمية