قال ابن إسحاق : ثم إن الإسلام جعل يفشو بمكة في قبائل قريش في الرجال والنساء ، وقريش تحبس من قدرت على حبسه ، وتفتن من استطاعت فتنته من المسلمين ، ثم إن أشراف قريش من كل قبيلة ، كما حدثني بعض أهل العلم عن سعيد بن جبير ، وعن عكرمة مولى ابن عباس ، عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال : [ حديث رؤساء قريش مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ]

اجتمع عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو سفيان بن حرب ، والنضر بن الحارث ( بن كلدة ) ، أخو بني عبد الدار ، وأبو البختري بن هشام ، والأسود بن المطلب بن أسد ، وزمعة بن ا?أسود ، والوليد بن المغيرة ، وأبو جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية ، والعاص بن وائل ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج السهميان ، وأمية بن خلف ، أو من اجتمع منهم .

قال : اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة ، ثم قال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه ، فبعثوا إليه : إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك ، فأتهم ؛ فجاءهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سريعا ، وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بداء ، وكان عليهم حريصا يحب رشدهم ، ويعز عليه عنتهم ، حتى جلس إليهم ؛ فقالوا له : يا محمد ، إنا قد بعثنا إليك لنكلمك ، وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك ، لقد شتمت الآباء ، وعبت الدين ، وشتمت الآلهة ، وسفهت الأحلام ، وفرقت الجماعة ، فما بقي أمر قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك - أو كما قالوا له - فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا ، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا ، فنحن نسودك علينا ، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك - وكانوا يسمون التابع من الجن رئيا - فربما كان ذلك ، بذلنا لك أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه ، أو نعذر فيك .

فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما بي ما تقولون ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ، ولا الشرف فيكم ، ولا الملك عليكم ، ولكن الله بعثني إليكم رسولا ، وأنزل علي كتابا ، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا ، فبلغتكم رسالات ربي ، ونصحت لكم ، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به ، فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم أو كما قال - صلى الله عليه وسلم - قالوا : يا محمد ، فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلدا ، ولا أقل ماء ، ولا أشد عيشا منا ، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به ، فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا ، وليبسط لنا بلادنا ، وليفجر لنا فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق ، وليبعث لنا من مضى من آبائنا ، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب ، فإنه كان شيخ صدق ، فنسألهم عما تقول : أحق هو أم باطل ، فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك ، وعرفنا به منزلتك من الله ، وأنه بعثك رسولا كما تقول .

فقال لهم - صلوات الله وسلامه عليه - : ما بهذا بعثت إليكم ، إنما جئتكم من الله بما بعثني به ، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم ، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله تعالى ، حتى يحكم الله بيني وبينكم قالوا : فإذا لم تفعل هذا لنا ، فخذ لنفسك ، سل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ، ويراجعنا عنك وسله فليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي ، فإنك تقوم بالأسواق كما نقوم ، وتلتمس المعاش كما نلتمسه ، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم .

فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما أنا بفاعل ، وما أنا بالذي يسأل ربه هذا ، وما بعثت إليكم بهذا ، ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا - أو كما قال - فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم قالوا : فأسقط السماء علينا كسفا كما زعمت أن ربك إن شاء فعل ، فإنا لا نؤمن لك إلا أن تفعل ، قال : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ذلك إلى الله ، إن شاء أن يفعله بكم فعل قالوا : يا محمد ، أفما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ، ونطلب منك ما نطلب ، فيتقدم إليك فيعلمك ما تراجعنا به ، ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا ، إذ لم نقبل منك ما جئتنا به إنه قد بلغنا أنك إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له : الرحمن ، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا ، فقد أعذرنا إليك يا محمد ، وإنا والله لا نتركك وما بلغت منا حتى نهلكك ، أو تهلكنا .

وقال قائلهم : نحن نعبد الملائكة ، وهي بنات الله . وقال قائلهم : لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا . [ حديث عبد الله بن أبي أمية مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم ]

فلما قالوا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام عنهم ، وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم - وهو ابن عمته ، فهو لعاتكة بنت عبد المطلب - فقال له : يا محمد . عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ، ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول ، ويصدقوك ويتبعوك فلم تفعل ، ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم ، ومنزلتك من الله ، فلم تفعل ، ثم سألوك أن تعجل لهم بعض ما تخوفهم به من العذاب ، فلم تفعل - أو كما قال له - فوالله لا أومن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ، ثم ترقى فيه وأنا أنظر إليك حتى تأتيها ، ثم تأتي معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول ، وايم الله ، لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك ، ثم انصرف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهله حزينا آسفا لما فاته مما كان يطمع به من قومه حين دعوه ، ولما رأى من مباعدتهم إياه . عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : سأل أهل مكة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل لهم الصفا ذهبا ، وأن ينحي عنهم الجبال فيزدرعوا ، فقيل له : إن شئت أن تستأني بهم ، وإن شئت أن تؤتيهم الذي سألوا ، فإن كفروا أهلكوا كما أهلكت من قبلهم . قال : " لا ، بل أستأني بهم " . فأنزل الله تعالى : وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها [ الإسراء : 59 ] الآية وهكذا رواه النسائي من حديث جرير به .

وقال أحمد : حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل عن عمران أبي الحكم عن ابن عباس قال : قالت قريش للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا ونؤمن بك . قال : " وتفعلون ؟ " . قالوا : نعم قال : فدعا ، فأتاه جبريل ، فقال : إن ربك يقرأ عليك السلام ، ويقول لك : إن شئت أصبح الصفا لهم ذهبا ، فمن كفر منهم بعد ذلك عذبته عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ، وإن شئت فتحت لهم باب الرحمة والتوبة . قال : " بل التوبة والرحمة " . وهذان إسنادان جيدان. [ ما توعد به أبو جهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ]

فلما قام عنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال أبو جهل : يا معشر قريش ، إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا ، وشتم آبائنا ، وتسفيه أحلامنا ، وشتم آلهتتا ، وإني أعاهد الله لأجلسن له غدا بحجر ما أطيق حمله - أو كما قال - فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه ، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني ، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم ؛ قالوا : والله لا نسلمك لشيء أبدا ، فامض لما تريد . [ ما حدث لأبي جهل حين هم بإلقاء الحجر على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ]

فلما أصبح أبو جهل أخذ حجرا كما وصف ، ثم جلس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينتظره ، وغدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما كان يغدو . وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة وقبلته إلى الشام ، فكان إذا صلى صلى بين الركن اليماني والحجر الأسود ، وجعل الكعبة بينه وبين الشام ، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي وقد غدت قريش فجلسوا في أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل ، فلما سجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتمل أبو جهل الحجر ، ثم أقبل نحوه ، حتى إذا دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه مرعوبا قد يبست يداه على حجره ، حتى قذف الحجر من يده .

وقامت إليه رجال قريش ، فقالوا له : ما لك يا أبا الحكم ؟ قال : قمت إليه لأفعل به ما قلت لكم البارحة ، فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل ، لا والله ما رأيت مثل هامته ، ولا مثل قصرته ولا أنيابه لفحل قط ، فهم بي أن يأكلني .

قال ابن إسحاق : فذكر لي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ذلك جبريل - عليه السلام - لو دنا لأخذه . [ نصيحة النضر لقريش بالتدبر فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ]

فلما قال لهم ذلك أبو جهل ، قام النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي .

قال ابن هشام : ويقال النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف

قال ابن إسحاق : فقال : يا معشر قريش ، إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد ، قد كان محمد فيكم غلاما حدثا أرضاكم فيكم ، وأصدقكم حديثا ، وأعظمكم أمانة ، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب ، وجاءكم بما جاءكم به ، قلتم ساحر ، لا والله ما هو بساحر ، لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم ؛ وقلتم كاهن ، لا والله ما هو بكاهن ، قد رأينا الكهنة وتخالجهم وسمعنا سجعهم ؛ وقلتم شاعر ، لا والله ما هو بشاعر ، قد رأينا الشعر ، وسمعنا أصنافه كلها : هزجه ورجزه ، وقلتم مجنون ، لا والله ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ، ولا وسوسته ، ولا تخليطه ، يا معشر قريش ، فانظروا في شأنكم ، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم . [ ما كان يؤذي به النضر بن الحارث رسول الله صلى الله عليه وسلم ]

وكان النضر بن الحارث من شياطين قريش ، وممن كان يؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وينصب له العداوة ، وكان قد قدم الحيرة ، وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس ، وأحاديث رستم واسبنديار .

فكان إذا جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجلسا فذكر فيه بالله ، وحذر قومه ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله ، خلفه في مجلسه إذا قام ، ثم قال : أنا والله يا معشر قريش ، أحسن حديثا منه ، فهلم إلي ، فأنا أحدثكم أحسن من حديثه ، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم واسبنديار ، ثم يقول : بماذا محمد أحسن حديثا مني ؟ .

قال ابن هشام : وهو الذي قال فيما بلغني : سأنزل مثل ما أنزل الله . قال ابن إسحاق : وكان ابن عباس - رضي الله عنهما - يقول ، فيما بلغني : نزل فيه ثمان آيات من القرآن : قول الله - عز وجل - : إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين . وكل ما ذكر فيه من الأساطير من القرآن . قال ابن إسحاق : فلما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما عرفوا من الحق ، وعرفوا صدقه فيما حدث وموقع نبوته فيما جاءهم من علم الغيب حين سألوه عنه ، حال الحسد منهم له بينهم فقال قائلهم : لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه أي اجعلوه لغوا باطلا وهزؤا لعلكم تغلبون بذلك فإنكم إن ناظرتموه وخاصمتموه غلبكم بذلك .

فقال أبو جهل يوما ، هو يهزأ برسول الله صلى الله عليه وسلم وما أتى به من الحق : يا معشر قريش يزعم محمد إنما جنود الله الذين يعذبونكم في النار ويحبسونكم فيها تسعة عشر ، وأنتم الناس عددا وكثرة ، فيعجز كل مائة منكم عن رجل منهم؟

فأنزل الله تعالى في ذلك : وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة فلا يطاقون كما تتوهمون وما جعلنا عدتهم إلا فتنة ضلالا للذين كفروا بأن يقولوا : لم كانوا تسعة عشر ، ليستيقن الذين أوتوا الكتاب أي اليهود صدق النبي صلى الله عليه وسلم في كونهم تسعة عشر الموافق لما في كتابهم ، ويزداد الذين آمنوا من أهل الكتاب إيمانا تصديقا لموافقة ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم لما في كتابهم . ولا يرتاب يشك الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون من غيرهم في عدد الملائكة ، وليقول الذين في قلوبهم مرض شك بالمدينة والكافرون بمكة ماذا أراد الله بهذا العدد مثلا سموه مثلا لغرابته وأغرب حالا .

كذلك أي مثل إضلال منكر هذا العدد وهدى مصدقه ، يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك أي الملائكة في قوتهم وأعوانهم إلا هو سبحانه وتعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية