قال ابن إسحاق : وأخبرني من لا أتهم ، عن أبي سعيد قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لما فرغت مما كان في بيت المقدس أتي بالمعراج ، ولم أر شيئا قط أحسن منه ، وهو الذي يمد إليه ميتكم عينيه إذا حضر ، فأصعدني فيه صاحبي ، حتى انتهى بي إلى باب من أبواب السماء ، يقال له : باب الحفظة . عليه ملك من الملائكة يقال له : إسماعيل . تحت يده اثنا عشر ألف ملك ، تحت يدي كل ملك منهم اثنا عشر ألف ملك " . قال : يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا حدث بهذا الحديث : وما يعلم جنود ربك إلا هو [ المدثر : 31 ] ثم ذكر بقية الحديث ، وهو مطول جدا ، وقد سقناه بإسناده ولفظه بكماله في " التفسير " وتكلمنا عليه ; فإنه من غرائب الأحاديث ، وفي إسناده ضعف ، وكذا في سياق حديث أم هانئ ; فإن الثابت في " الصحيحين " ، من رواية شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أنس أن الإسراء كان من المسجد من عند الحجر . وفي سياقه غرابة أيضا من وجوه ، قد تكلمنا عليها هناك ، ومنها قوله : وذلك قبل أن يوحى إليه . والجواب أن مجيئهم أول مرة كان قبل أن يوحى إليه ، فكانت تلك الليلة ولم يكن فيها شيء ، ثم جاءه الملائكة ليلة أخرى ولم يقل في ذلك : وذلك قبل أن يوحى إليه . بل جاءه بعد ما أوحي إليه ، فكان الإسراء قطعا بعد الإيحاء ; إما بقليل كما زعمه طائفة ، أو بكثير نحو من عشر سنين ، كما زعمه آخرون ، وهو الأظهر ، وغسل صدره تلك الليلة قبل الإسراء غسلا ثانيا ، أو ثالثا ، على قول ; لأنه مطلوب إلى الملأ الأعلى والحضرة الإلهية . ثم ركب البراق رفعة له وتعظيما وتكريما ، فلما جاء بيت المقدس ربطه بالحلقة التي كانت تربط بها الأنبياء ، ثم دخل بيت المقدس فصلى في قبلته تحية المسجد . وأنكر حذيفة رضي الله عنه دخوله إلى بيت المقدس وربطه الدابة وصلاته فيه . وهذا غريب ، والنص المثبت مقدم على النافي . ثم اختلفوا في اجتماعه بالأنبياء وصلاته بهم ; أكان قبل عروجه إلى السماء كما دل عليه ما تقدم ، أو بعد نزوله منها . كما دل عليه بعض السياقات ، وهو أنسب ، كما سنذكره على قولين . فالله أعلم . وقيل : إن صلاته بالأنبياء كانت في السماء . وهكذا تخيره من الآنية اللبن والخمر والماء ; هل كانت ببيت المقدس ، كما تقدم ، أو في السماء ، كما ثبت في الحديث الصحيح .

والمقصود أنه - صلى الله عليه وسلم - لما فرغ من أمر بيت المقدس نصب له المعراج ، وهو السلم ، فصعد فيه إلى السماء ، ولم يكن الصعود على البراق ، كما قد يتوهمه بعض الناس ، بل كان البراق مربوطا على باب مسجد بيت المقدس ; ليرجع عليه إلى مكة ، فصعد من سماء إلى سماء في المعراج حتى جاوز السابعة ، وكلما جاء سماء ، تلقته منها مقربوها ، ومن فيها من أكابر الملائكة والأنبياء ، وذكر أعيان من رآه من المرسلين ; كآدم في سماء الدنيا ، ويحيى وعيسى في الثانية ، وإدريس في الرابعة ، وموسى في السادسة ، على الصحيح ، وإبراهيم في السابعة مسندا ظهره إلى البيت المعمور الذي يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة ، يتعبدون فيه صلاة وطوافا ، ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة ، ثم جاوز مراتبهم كلهم ، حتى ظهر لمستوى يسمع فيه صريف الأقلام ، ورفعت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سدرة المنتهى ، وإذا ورقها كآذان الفيلة ، ونبقها كقلال هجر ، وغشيها عند ذلك أمور عظيمة ; ألوان متعددة باهرة ، وركبتها الملائكة مثل الغربان على الشجر كثرة ، وفراش من ذهب ، وغشيها من نور الرب جل جلاله ، ورأى هناك جبريل ، عليه السلام ، له ستمائة جناح ما بين كل جناحين كما بين السماء والأرض ، وهو الذي يقول الله تعالى : ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى [ النجم : 13 - 17 ] أي : ما زاغ يمينا ولا شمالا ، ولا ارتفع عن المكان الذي حد له النظر إليه ، وهذا هو الثبات العظيم ، والأدب الكريم ، وهذه الرؤيا الثانية لجبريل عليه السلام ، على الصفة التي خلقه الله تعالى عليها ، كما نقله ابن مسعود وأبو هريرة وأبو ذر وعائشة ، رضي الله عنهم أجمعين . والأولى هي قوله تعالى : علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى [ النجم : 5 - 10 ] وكان ذلك بالأبطح تدلى جبريل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض ، حتى كان بينه وبينه قاب قوسين أو أدنى ، هذا هو الصحيح في " التفسير " كما دل عليه كلام أكابر الصحابة المتقدم ذكرهم رضي الله عنهم . فأما قول شريك عن أنس في حديث الإسراء : ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى . فقد يكون من فهم الراوي فأقحمه في الحديث . والله أعلم . وإن كان محفوظا ، فليس بتفسير للآية الكريمة ، بل هو شيء آخر غير ما دلت عليه الآية الكريمة . والله أعلم .

وفرض الله سبحانه وتعالى ، على عبده محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى أمته الصلوات ليلتئذ ، خمسين صلاة في كل يوم وليلة ، ثم لم يزل يختلف بين موسى وبين ربه عز وجل . حتى وضعها الرب جل جلاله ، وله الحمد والمنة ، إلى خمس . وقال : " هي خمس وهي خمسون : الحسنة بعشر أمثالها " . فحصل له التكليم من الرب عز وجل ليلتئذ ، وأئمة السنة كالمطبقين على هذا ، واختلفوا في الرؤية ; فقال بعضهم : رآه بفؤاده مرتين . قاله ابن عباس وطائفة ، وأطلق ابن عباس وغيره الرؤية ، وهو محمول على التقييد . وممن أطلق الرؤية أبو هريرة وأحمد بن حنبل رضي الله عنهما ، وصرح بعضهم بالرؤية بالعينين ، واختاره ابن جرير وبالغ فيه ، وتبعه على ذلك آخرون من المتأخرين . وممن نص على الرؤية بعيني رأسه : الشيخ أبو الحسن الأشعري فيما نقله السهيلي عنه ، واختاره الشيخ أبو زكريا النووي في " فتاويه " . وقالت طائفة : لم يقع ذلك ; لحديث أبي ذر في " صحيح مسلم " ، قلت : يا رسول الله ، هل رأيت ربك ؟ فقال : " نور أنى أراه " وفي رواية : " رأيت نورا " . قالوا : ولم يمكن رؤية الباقي بالعين الفانية ، ولهذا قال الله تعالى لموسى فيما روي في بعض الكتب الإلهية : يا موسى ، إنه لا يراني حي إلا مات ، ولا يابس إلا تدهده . والخلاف في هذه المسألة مشهور بين السلف والخلف . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية