[ طمع الرسول في إسلام أبي طالب ، وحديث ذلك ]

فقال أبو طالب لرسول الله صلى الله عليه وسلم : والله يا ابن أخي ، ما رأيتك سألتهم شططا ، قال : فلما قالها أبو طالب طمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في إسلامه ، فجعل يقول له : أي عم ، فأنت فقلها أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة . قال : فلما رأى حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه ، قال : يا ابن أخي ، والله لولا مخافة السبة عليك وعلى بني أبيك من بعدي ، وأن تظن قريش أني إنما قلتها جزعا من الموت لقلتها لا أقولها إلا لأسرك بها . قال : فلما تقارب من أبي طالب الموت قال : نظر العباس إليه يحرك شفتيه ، قال : فأصغى إليه بأذنه ، قال : فقال يا ابن أخي . والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم أسمع فصل

قد تقدم ذكر موت أبي طالب ، عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه كان ناصرا له ، وقائما في صفه ، ومدافعا عنه بكل ما يقدر عليه; من نفس ، ومال ، وفعال ، فلما مات ، اجترأ سفهاء قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونالوا منه ما لم يكونوا يصلون إليه ، ولا يقدرون عليه .

كما قد رواه البيهقي ، عن الحاكم ، عن الأصم ، حدثنا محمد بن إسحاق الصغاني ، حدثنا يوسف بن بهلول ، حدثنا عبد الله بن إدريس ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عمن حدثه ، عن عروة بن الزبير ، عن عبد الله بن جعفر ، قال : لما مات أبو طالب ، عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم سفيه من سفهاء قريش ، فألقى عليه ترابا ، فرجع إلى بيته ، فأتت امرأة من بناته تمسح عن وجهه التراب وتبكي ، فجعل يقول : " أي بنية ، لا تبكين فإن الله مانع أباك " . ويقول ما بين ذلك : " ما نالت قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب " . وقد رواه زياد البكائي ، عن محمد بن إسحاق ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه مرسلا . فالله أعلم .

وروى البيهقي أيضا ، عن الحاكم وغيره ، عن الأصم ، عن أحمد بن عبد الجبار ، عن يونس بن بكير ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " ما زالت قريش كاعين عني حتى مات أبو طالب " . ثم رواه عن الحاكم ، عن الأصم ، عن عباس الدوري ، عن يحيى بن معين ، حدثنا عقبة المجدر ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " ما زالت قريش كاعة حتى توفي أبو طالب " .

وقد روى الحافظ أبو الفرج بن الجوزي بسنده ، عن ثعلبة بن صعير وحكيم بن حزام ، أنهما قالا : لما توفي أبو طالب وخديجة - وكان بينهما شهر وخمسة أيام - اجتمعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيبتان ، فلزم بيته ، وأقل الخروج ، ونالت منه قريش ما لم تكن تنال ولا تطمع فيه ، فبلغ ذلك أبا لهب ، فجاءه فقال : يا محمد ، امض لما أردت ، وما كنت صانعا إذ كان أبو طالب حيا فاصنعه ، لا واللات ، لا يوصل إليك حتى أموت . وسب ابن الغيطلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبل إليه أبو لهب فنال منه ، فولى يصيح : يا معشر قريش ، صبأ أبو عتبة . فأقبلت قريش حتى وقفوا على أبي لهب ، فقال : ما فارقت دين عبد المطلب ، ولكني أمنع ابن أخي أن يضام حتى يمضي لما يريد . فقالوا : قد أحسنت ، وأجملت ، ووصلت الرحم . فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك أياما يأتي ويذهب ، لا يعرض له أحد من قريش ، وهابوا أبا لهب إلى أن جاء عقبة بن أبي معيط وأبو جهل إلى أبي لهب ، فقالا له : أخبرك ابن أخيك أين مدخل أبيك ؟ فقال له أبو لهب : يا محمد ، أين مدخل عبد المطلب ؟ قال : " مع قومه " . فخرج إليهما ، فقال : قد سألته ، فقال : مع قومه . فقالا : يزعم أنه في النار . فقال : يا محمد ، أيدخل عبد المطلب النار ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ومن مات على ما مات عليه عبد المطلب دخل النار " . فقال أبو لهب : - لعنه الله - والله لا برحت لك إلا عدوا أبدا ، وأنت تزعم أن عبد المطلب في النار . واشتد عند ذلك أبو لهب وسائر قريش عليه

قال ابن إسحاق : وكان النفر الذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته; أبو لهب ، والحكم بن أبي العاص بن أمية ، وعقبة بن أبي معيط ، وعدي بن الحمراء ، وابن الأصداء الهذلي ، وكانوا جيرانه ، لم يسلم منهم أحد إلا الحكم بن أبي العاص ، وكان أحدهم - فيما ذكر لي - يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلي ، وكان أحدهم يطرحها في برمته إذا نصبت له ، حتى اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرا يستتر به منهم إذا صلى ، فكان إذا طرحوا شيئا من ذلك ، يحمله على عود ثم يقف به على بابه ، ثم يقول : " يا بني عبد مناف ، أي جوار هذا ؟ " . ثم يلقيه في الطريق .

قلت : وعندي أن غالب ما روي مما تقدم - من طرحهم سلى الجزور بين كتفيه وهو يصلي كما رواه ابن مسعود ، وفيه أن فاطمة جاءت فطرحته عنه ، وأقبلت عليهم فشتمتهم ، ثم لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على سبعة منهم كما تقدم ، وكذلك ما أخبر به عبد الله بن عمرو بن العاص من خنقهم له ، عليه السلام ، خنقا شديدا حتى حال دونه أبو بكر الصديق ، قائلا : أتقتلون رجلا أن يقول : ربي الله . وكذلك عزم أبي جهل ، لعنه الله ، على أن يطأ على عنقه وهو يصلي ، فحيل بينه وبين ذلك ، وما أشبه ذلك - كان بعد وفاة أبي طالب ، والله أعلم ، فذكرها هاهنا أنسب وأشبه.

التالي السابق


الخدمات العلمية