عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل

[ عرض الرسول نفسه على العرب في مواسمهم ]

قال ابن إسحاق : ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، وقومه أشد ما كانوا عليه من خلافه وفراق دينه ، إلا قليلا مستضعفين ، ممن آمن فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه في المواسم ، إذا كانت ، على قبائل العرب يدعوهم إلى الله ، ويخبرهم أنه نبي مرسل ، ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين ( لهم ) الله ما بعثه به .

قال ابن إسحاق : فحدثني من أصحابنا ، من لا أتهم ، عن زيد بن أسلم عن ربيعة بن عباد الديلي ، أو من حدثه أبو الزناد عنه - قال ابن هشام : ربيعة بن عباد .

قال ابن إسحاق : وحدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس ، قال : سمعت ربيعة بن عباد ، يحدثه أبي ، قال : إني لغلام شاب مع أبي بمنى ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على منازل القبائل من العرب ، فيقول : يا بني فلان ، إني رسول الله إليكم ، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد ، وأن تؤمنوا بي ، وتصدقوا بي ، وتمنعوني ، حتى أبين عن الله ما بعثني به . قال : وخلفه رجل أحول وضيء ، له غديرتان عليه حلة عدنية . فإذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله وما دعا إليه ، قال ذلك الرجل : يا بني فلان ، إن هذا إنما يدعوكم أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم ، وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أقيش ، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة ، فلا تطيعوه ، ولا تسمعوا منه . قال : فقلت لأبي : يا أبت ، من هذا الذي يتبعه ويرد عليه ما يقول ؟ قال : هذا عمه عبد العزى بن عبد المطلب ، أبو لهب قال ابن هشام : قال النابغة :

:


كأنك من جمال بني أقيش يقعقع خلف رجليه بشن

قال ابن إسحاق : حدثنا ابن شهاب الزهري : أنه أتى كندة في منازلهم ، وفيهم سيد لهم يقال له : مليح ، فدعاهم إلى الله عز وجل ، وعرض عليهم نفسه ، فأبوا عليه. وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه بالموقف ، فيقول : ألا رجل يحملني إلى قومه فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي .

رواه أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح .

قال محمد بن عمر الأسلمي : مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين من أول نبوته مستخفيا ثم أعلن في الرابعة فدعا الناس إلى الإسلام عشر سنين ، يوافي الموسم كل عام يتبع الحاج في منازلهم بعكاظ ومجنة وذي المجاز يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه ولهم الجنة ، فلا يجد أحدا ينصره ولا يجيبه حتى إنه سأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة .

ويقول : يا أيها الناس قولوا : لا إله إلا الله تفلحوا وتملكوا العرب وتذل لكم العجم وإذا آمنتم كنتم ملوكا في الجنة . وأبو لهب وراءه يقول : لا تطيعوه فإنه صابئ كاذب ، فيردون عليه أقبح الرد ويؤذونه ويقولون : قومك بك أعلم
. وعن جابر بن عبد الله ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس بالموقف ، فيقول : " هل من رجل يحملني إلى قومه فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي عز وجل ؟ " فأتاه رجل من همدان ، فقال : " ممن أنت ؟ " قال الرجل : من همدان . قال : " فهل عند قومك من منعة ؟ " قال : نعم . ثم إن الرجل خشي أن يحقره قومه ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : آتيهم فأخبرهم ثم آتيك من عام قابل . قال : " نعم " . فانطلق ، وجاء وفد الأنصار في رجب . وقد رواه أهل السنن الأربعة ، من طرق عن إسرائيل به . وقال الترمذي : حسن صحيح . وروى الطبراني عن طارق بن عبد الله قال : إني بسوق ذي المجاز إذ مر رجل بي عليه حلة من برد أحمر وهو يقول : يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا . ورجل خلفه قد أدمى عرقوبيه وساقيه يقول : يا أيها الناس إنه كذاب فلا تطيعوه . فقلت : من هذا؟ قالوا : غلام بني هاشم الذي يزعم أنه رسول الله وهذا عمه عبد العزى . عن مدرك بن منيب- بضم أوله وكسر النون وآخره موحدة- العامري عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية وهو يقول : يا أيها الناس قولوا : لا إله إلا الله تفلحوا . فمنهم من تفل في وجهه ومنهم من حثا عليه التراب ، ومنهم من سبه ، حتى انتصف النهار فأقبلت جارية بعس من ماء فغسل وجهه ويديه وقال : يا بنية لا تخشي على أبيك غلبة ولا ذلة . فقلت : من هذه؟ قالوا : زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهي جارية وضيئة . وروى الإمام أحمد والبيهقي عن الأشعث بن سليم عن رجل من كنانة قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز وهو يقول : يا أيها الناس قولوا : لا إله إلا الله تفلحوا . وإذا رجل خلفه يسفي عليه التراب ، وإذا هو أبو جهل ، وإذا هو يقول : يا أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم فإنما يريد أن تتركوا عبادة اللات والعزى يتبعه حيث ذهب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يفر منه ، وما يلتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه .

قال الحافظ عماد الدين بن كثير : المحفوظ : أبو لهب . وقد يكون أبو جهل وهما ، ويحتمل أن يكون ذا تارة وذا تارة ، وأنهما يتناوبان على أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قلت : وهذا هو الظاهر . [ عرض الرسول نفسه على بني كلب ]

قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حصين : أنه أتى كلبا في منازلهم ، إلى بطن منهم يقال لهم : بنو عبد الله ، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه ، حتى إنه ليقول لهم : يا بني عبد الله ، إن الله عز وجل قد أحسن اسم أبيكم ، فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم . [ عرض الرسول نفسه على بني حنيفة ]

قال ابن إسحاق : وحدثني بعض أصحابنا عن عبد الله بن كعب بن مالك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بني حنيفة في منازلهم ، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه ، فلم يكن أحد من العرب أقبح عليه ردا منهم [ عرض الرسول نفسه على بني عامر ]

قال ابن إسحاق : وحدثني الزهري أنه أتى بني عامر بن صعصعة ، فدعاهم إلى الله عز وجل ، وعرض عليهم نفسه ، فقال له رجل منهم - يقال له : بيحرة بن فراس ، قال ابن هشام : فراس بن عبد الله بن سلمة ( الخير ) بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة - : والله ، لو أني أخذت هذا الفتى من قريش ، لأكلت به العرب ، ثم قال : أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ، ثم أظهرك الله على من خالفك ، أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ قال : الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء ، قال : فقال له : أفتهدف نحورنا للعرب دونك ، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا لا حاجة لنا بأمرك ، فأبوا عليه

فلما صدر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم ، قد كانت أدركته السن ، حتى لا يقدر أن يوافي معهم المواسم ، فكانوا إذا رجعوا إليه حدثوه بما يكون في ذلك الموسم ، فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عما كان في موسمهم ، فقالوا : جاءنا فتى من قريش ، ثم أحد بني عبد المطلب ، يزعم أنه نبي ، يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ، ونخرج به إلى بلادنا قال : فوضع الشيخ يديه على رأسه ثم قال : يا بني عامر ، هل لها من تلاف ، هل لذناباها من مطلب والذي نفس فلان بيده ، ما تقولها إسماعيلي قط ، وإنها لحق ، فأين رأيكم كان عنكم
. [ عرض الرسول نفسه على العرب في المواسم ]

قال ابن إسحاق : فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك من أمره ، كلما اجتمع له الناس بالموسم أتاهم يدعو القبائل إلى الله وإلى الإسلام ، ويعرض عليهم نفسه ، وما جاء به من الله من الهدى والرحمة ، وهو لا يسمع بقادم يقدم مكة من العرب ، له اسم وشرف ، إلا تصدى له ، فدعاه ، إلى الله ، وعرض عليه ما عنده

زاد الواقدي -في ذكر القبائل التي عرض صلى الله عليه وسلم عليها الإسلام- فقال: وعلى بني عبس وغسان وبني محارب وبني فزارة وبني مرة وبني سليم وبني نصر بن هوازن وبني ثعلبة بن عكابة - بضم العين المهملة وفتح الباء الموحدة- وبني الحارث بن كعب وبني عذرة وقيس بن الخطيم . وساق أخبارهم . وروى محمد بن عمر الأسلمي عن عامر بن سلمة الحنفي وكان قد أسلم في آخر عمر النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : نسأل الله أن لا يحرمنا الجنة ، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءنا ثلاثة أعوام بعكاظ ومجنة وبذي المجاز ، يدعونا إلى الله- عز وجل- وأن نمنع له ظهره حتى يبلغ رسالات ربه ، ويشرط لنا الجنة ، فما استجبنا له ولا رددنا عليه ردا جميلا فخشنا عليه وحلم عنا . قال عامر : فرجعت إلى هجر في أول عام فقال لي هودة بن علي : هل كان في موسمكم هذا خبر؟ .

قلت : رجل من قريش يطوف على القبائل يدعوهم إلى الله تعالى وحده وأن يمنعوا ظهره حتى يبلغ رسالة ربه ولهم الجنة . فقال هودة : من أي قريش هو؟ قلت : هو من أوسطهم نسبا من بني عبد المطلب . قال هودة : أهو محمد بن عبد المطلب ؟ قلت : هو هو . قال : أما إن أمره سيظهر على ما ها هنا . فقلت : هنا قط من بين البلدان؟ قال : وغير ما ها هنا . ثم وافيت السنة الثانية هجر فقال : ما فعل الرجل؟ فقلت : والله رأيته على حاله في العام الماضي . قال : ثم وافيت في السنة الثالثة وهي آخر ما رأيته وإذا بأمره قد أمر وإذا ذكره كثر في الناس
. الحديث . وعن ابن عباس ، عن العباس ، قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا أرى لي عندك ولا عند أخيك منعة ، فهل أنت مخرجي إلى السوق غدا ، حتى تعرفني منازل قبائل الناس ؟ " - وكانت مجمع العرب - قال : فقلت : هذه كندة ولفها ، وهي أفضل من يحج البيت من اليمن ، وهذه منازل بكر بن وائل ، وهذه منازل بني عامر بن صعصعة ، فاختر لنفسك . قال : فبدأ بكندة فأتاهم ، فقال : " ممن القوم ؟ " قالوا : من أهل اليمن . قال : " من أي اليمن ؟ " قالوا : من كندة . قال : " من أي كندة ؟ " قالوا : من بني عمرو بن معاوية . قال : " فهل لكم إلى خير ؟ " قالوا : وما هو ؟ قال : " تشهدون أن لا إله إلا الله وتقيمون الصلاة ، وتؤمنون بما جاء من عند الله " . قال عبد الله بن الأجلح : وحدثني أبي عن أشياخ قومه أن كندة قالت له : إن ظفرت تجعل لنا الملك من بعدك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الملك لله يجعله حيث يشاء " . فقالوا : لا حاجة لنا فيما جئتنا به . وقال الكلبي : فقالوا : أجئتنا لتصدنا عن آلهتنا ، وننابذ العرب ، الحق بقومك ، فلا حاجة لنا بك . فانصرف من عندهم فأتى بكر بن وائل ، فقال : " ممن القوم ؟ " قالوا : من بكر بن وائل . فقال : " من أي بكر بن وائل ؟ " قالوا : من بني قيس بن ثعلبة . قال : كيف العدد ؟ قالوا : كثير مثل الثرى . قال : " فكيف المنعة ؟ " قالوا : لا منعة ، جاورنا فارس ، فنحن لا نمتنع منهم ولا نجير عليهم . قال : " فتجعلون لله عليكم إن هو أبقاكم حتى تنزلوا منازلهم ، وتستنكحوا نساءهم ، وتستعبدوا أبناءهم ، أن تسبحوا الله ثلاثا وثلاثين ، وتحمدوه ثلاثا وثلاثين ، وتكبروه أربعا وثلاثين ؟ " قالوا : ومن أنت ؟ قال : " أنا رسول الله " . ثم انطلق ، فلما ولى عنهم - قال الكلبي - : وكان عمه أبو لهب يتبعه ، فيقول للناس : لا تقبلوا قوله . ثم مر أبو لهب فقالوا : هل تعرف هذا الرجل ؟ قال : نعم ، هذا في الذروة منا ، فعن أي شأنه تسألون ؟ فأخبروه بما دعاهم إليه ، وقالوا : زعم أنه رسول الله . قال : ألا لا ترفعوا بقوله رأسا ; فإنه مجنون يهذي أم رأسه . قالوا : قد رأينا ذلك حين ذكر من أمر فارس ما ذكر .

التالي السابق


الخدمات العلمية