فيما أصاب المهاجرين من حمى المدينة رضي الله عنهم أجمعين وقد سلم الرسول صلى الله عليه وسلم بحول الله وقوته ، ودعا الله فأزاحها عن المدينة

[ مرض أبي بكر وعامر وبلال وحديث عائشة عنهم ] قال زياد ، عن محمد بن إسحاق ، حدثني هشام بن عروة وعمر بن عبد الله ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة ، قالت : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، قدمها وهي أوبأ أرض الله ، من الحمى ، فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم ، وصرف الله ذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم . قالت : فكان أبو بكر ، وعامر بن فهيرة ، وبلال; موليا أبى بكر في بيت واحد ، فأصابتهم الحمى ، فدخلت عليهم أعودهم ، وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب ، وبهم ما لا يعلمه إلا الله من شدة الوعك ، فدنوت من أبي بكر ، فقلت : كيف تجدك يا أبه ؟ فقال :


كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله

قالت : والله ما يدري أبى ما يقول . قالت : ثم دنوت إلى عامر بن فهيرة فقلت : كيف تجدك يا عامر ؟ قال :


لقد وجدت الموت قبل ذوقه     إن الجبان حتفه من فوقه
كل امرئ مجاهد بطوقه     كالثور يحمي جلده بروقه

قالت : فقلت : والله ما يدري عامر ما يقول . قالت : وكان بلال إذا أدركته الحمى اضطجع بفناء البيت ، ثم رفع عقيرته فقال :


ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة     بفخ وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة     وهل يبدون لي شامة وطفيل

قالت عائشة : فذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعت منهم ، وقلت : إنهم ليهذون ، وما يعقلون من شدة الحمى . فقال : " اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة أو أشد ، وبارك لنا في مدها ، وصاعها ، وانقل وباءها إلى مهيعة " .
ومهيعة هي الجحفة . وفي رواية البخاري له عن أبي أسامة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، فذكره . وزاد بعد شعر بلال ، ثم يقول : اللهم العن عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأمية بن خلف ، كما أخرجونا إلى أرض الوباء . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد ، اللهم بارك لنا في صاعها ، وفي مدها ، وصححها لنا ، وانقل حماها إلى الجحفة " . وقال زياد ، عن ابن إسحاق ، وذكر ابن شهاب الزهري ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة هو وأصحابه ، أصابتهم حمى المدينة ، حتى جهدوا مرضا ، وصرف الله ذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم ، حتى كانوا ما يصلون إلا وهم قعود . قال : فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يصلون كذلك ، فقال لهم : " اعلموا أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم " . فتجشم المسلمون القيام ، على ما بهم من الضعف والسقم; التماس الفضل . وقال البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو ، قالا : ثنا أبو العباس الأصم ، حدثنا أحمد بن عبد الجبار ، ثنا يونس بن بكير ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، وهي أوبأ أرض الله ، وواديها بطحان نجل . قال هشام : وكان وباؤها معروفا في الجاهلية ، وكان إذا كان الوادي وبيئا ، فأشرف عليه الإنسان ، قيل له أن ينهق نهيق الحمار; فإذا فعل ذلك لم يضره وباء ذلك الوادي ، وقد قال الشاعر حين أشرف على المدينة :


لعمري لئن عشرت من خيفة الردى     نهيق الحمار إنني لجزوع

وروى البخاري ، من حديث موسى بن عقبة ، عن سالم ، عن أبيه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " رأيت كأن امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى قامت بمهيعة - وهي الجحفة - فأولت أن وباء المدينة نقل إليها : . وروي أيضا عن موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن أبيه قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أصحابه ، وقدم رجل فتزوج امرأة كانت مهاجرة ، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال : يا أيها الناس "إنما الأعمال بالنيات" - ثلاثا- "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يطلبها أو امرأة يخطبها فإنما هجرته إلى ما هاجر إليه" ، ثم رفع يديه وقال : "اللهم انقل عنا الوباء" - ثلاثا- فلما أصبح قال : أتيت الليلة بالحمى ، فإذا عجوز سوداء ملببة في يدي الذي جاء بها فقال : هذه الحمى فما ترى فيها؟ فقلت : "اجعلوها بخم" . قال هشام : فكان المولود يولد بالجحفة ، فلا يبلغ الحلم حتى تصرعه الحمى . رواه البيهقي في " دلائل النبوة " وقد ثبت في " الصحيحين " عن ابن عباس ، قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه - صبيحة رابعة يعني مكة - عام عمرة القضاء ، فقال المشركون : إنه يقدم عليكم وفد قد وهنهم حمى يثرب . فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ، وأن يمشوا ما بين الركنين . ولم يمنعه أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم .

قلت : وعمرة القضاء كانت في سنة سبع في ذي القعدة ، فإما أن يكون تأخر دعاؤه عليه الصلاة والسلام بنقل الوباء إلى قريب من ذلك ، أو أنه رفع وبقي آثار منه قليل ، أو أنهم بقوا في خمار ما كان أصابهم من ذلك إلى تلك المدة . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية