[ بدء قتال المشركين ]



فلما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، وأيده الله بنصره بعباده المؤمنين الأنصار ، وألف بين قلوبهم بعد العداوة والإحن التي كانت بينهم ، فمنعته أنصار الله وكتيبة الإسلام من الأسود والأحمر ، وبذلوا نفوسهم دونه ، وقدموا محبته على محبة الآباء والأبناء والأزواج ، وكان أولى بهم من أنفسهم ، رمتهم العرب واليهود عن قوس واحدة ، وشمروا لهم عن ساق العداوة والمحاربة ، وصاحوا بهم من كل جانب ، والله سبحانه يأمرهم بالصبر والعفو والصفح حتى قويت الشوكة ، واشتد الجناح ، فأذن لهم حينئذ في القتال ، ولم يفرضه عليهم ، فقال تعالى : ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ) [ الحج : 39 ] .

وقد قالت طائفة : إن هذا الإذن كان بمكة ، والسورة مكية ، وهذا غلط لوجوه :

أحدها : أن الله لم يأذن بمكة لهم في القتال ، ولا كان لهم شوكة يتمكنون بها من القتال بمكة .

الثاني : أن سياق الآية يدل على أن الإذن بعد الهجرة وإخراجهم من ديارهم فإنه قال : ( الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ) [ الحج : 40 ] وهؤلاء هم المهاجرون .

الثالث : قوله تعالى : ( هذان خصمان اختصموا في ربهم ) [ الحج : 19 ] نزلت في الذين تبارزوا يوم بدر من الفريقين .

الرابع : أنه قد خاطبهم في آخرها بقوله : ( ياأيها الذين آمنوا ) والخطاب بذلك كله مدني ، فأما الخطاب ( ياأيها الناس ) فمشترك .

الخامس : أنه أمر فيها بالجهاد الذي يعم الجهاد باليد وغيره ، ولا ريب أن الأمر بالجهاد المطلق إنما كان بعد الهجرة ، فأما جهاد الحجة فأمر به في مكة بقوله : ( فلا تطع الكافرين وجاهدهم به ) أي : بالقرآن ( جهادا كبيرا ) [ الفرقان : 52 ] فهذه سورة مكية ، والجهاد فيها هو التبليغ ، وجهاد الحجة ، وأما الجهاد المأمور به في ( سورة الحج فيدخل فيه الجهاد بالسيف .

السادس : أن الحاكم روى في " مستدركه " من حديث الأعمش عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر : أخرجوا نبيهم ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، ليهلكن فأنزل الله عز وجل : ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ) [ الحج : 39 ] وهي أول آية نزلت في القتال . وإسناده على شرط " الصحيحين " وسياق السورة يدل على أن فيها المكي والمدني ، فإن قصة إلقاء الشيطان في أمنية الرسول مكية ، والله أعلم .

وقال ابن إسحاق : ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تهيأ لحربه ، قام فيما أمره الله به من جهاد عدوه ، وقتال من أمره الله به ممن يليه من المشركين ، مشركي العرب ، وذلك بعد أن بعثه الله تعالى بثلاث عشرة سنة .

تاريخ الهجرة

وبالإسناد المتقدم عن عبد الملك بن هشام ، قال : حدثنا زياد بن عبد الله البكائي ، عن محمد بن إسحاق المطلبي ، قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الاثنين ، حين اشتد الضحاء ، وكادت الشمس تعتدل ، لثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول ، وهو التاريخ ، ( فيما ) قال ابن هشام . قال ابن إسحاق : ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ابن ثلاث وخمسين سنة ، وذلك بعد أن بعثه الله عز وجل بثلاث عشرة سنة ، فأقام بها بقية شهر ربيع الأول ، وشهر ربيع الآخر ، وجماديين ، ورجبا ، وشعبان ، وشهر رمضان ، وشوالا ، وذا القعدة ، وذا الحجة - وولي تلك الحجة المشركون - والمحرم ، ثم خرج غازيا في صفر على رأس اثني عشر شهرا من مقدمه المدينة .

قال ابن هشام : واستعمل على المدينة سعد بن عبادة . اختلاف الناس في عدد المغازي التي غزا فيها النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه الكريمة ، وفي كم قاتل فيها قال ابن إسحاق أول ما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأبواء ، ثم بواط ، ثم العشيرة . ثم روى عن زيد بن أرقم ، أنه سئل : كم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : تسع عشرة . شهد منها سبع عشرة ، أولهن العسيرة أو العشيرة وقال الحسين بن واقد ، عن ابن بريدة ، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا سبع عشرة غزوة ، وقاتل في ثمان ، يوم بدر ، وأحد والأحزاب ، والمريسيع ، وقديد ، وخيبر ، ومكة ، وحنين ، وبعث أربعا وعشرين سرية . وقد روى الطبراني عن الدبري ، عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري قال : غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعا وعشرين غزوة . وقال عبد بن حميد في " مسنده " : حدثنا سعيد بن سلام ، ثنا زكريا بن إسحاق ، حدثنا أبو الزبير ، عن جابر ، قال : غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى وعشرين غزوة .

وقد روى الحاكم من طريق هشام ، عن قتادة أن مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه كانت ثلاثا وأربعين . ثم قال الحاكم : لعله أراد السرايا دون الغزوات ، فقد ذكرت في " الإكليل " ، على الترتيب ، بعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه زيادة على المائة . قال : وأخبرني الثقة من أصحابنا ببخارى أنه قرأ في كتاب أبي عبد الله محمد بن نصر السرايا والبعوث دون الحروب نيفا وسبعين . وهذا الذي ذكره الحاكم غريب جدا وحمله كلام قتادة على ما قال ، فيه نظر .

وقد روى الإمام أحمد ، عن أزهر بن القاسم الراسبي ، عن هشام الدستوائي ، عن قتادة أن مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه ثلاث وأربعون ، أربع وعشرون بعثا وتسع عشرة غزوة خرج في ثمان منها بنفسه ، بدر ، وأحد ، والأحزاب ، والمريسيع ، وقديد ، وخيبر ، وفتح مكة ، وحنين .

وقال موسى بن عقبة ، عن الزهري : هذه مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم التي قاتل فيها ، يوم بدر في رمضان سنة ثنتين ثم قاتل يوم أحد في شوال سنة ثلاث ، ثم قاتل يوم الخندق - وهو يوم الأحزاب وبني قريظة - في شوال من سنة أربع ، ثم قاتل بني المصطلق وبني لحيان في شعبان من سنة خمس ثم قاتل يوم خيبر سنة ست ، ثم قاتل يوم الفتح في رمضان سنة ثمان ، ثم قاتل يوم حنين ، وحاصر أهل الطائف في شوال سنة ثمان ، ثم حج أبو بكر سنة تسع ، ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع سنة عشر ، وغزا ثنتي عشرة غزوة ولم يكن فيها قتال ، وكانت أول غزوة غزاها الأبواء .

سرد أسماء الغزوات ، وهي غزوة الأبواء ، ويقال لها : ودان ، ثم غزوة بواط ، ثم غزوة سفوان ، وهي بدر الأولى لطلب كرز بن جابر ، ثم غزوة العشيرة ، ثم غزوة بدر الكبرى ، ثم غزوة بني سليم بالكدر ، ويقال لها : قرقرة الكدر ، ثم غزوة السويق ، ثم غزوة غطفان ، وهي غزوة ذي أمر ثم غزوة الفرع ، من بحران بالحجاز ، ثم غزوة بني قينقاع ، ثم غزوة أحد ، ثم غزوة حمراء الأسد ، ثم غزوة بني النضير ، ثم غزوة بدر الأخيرة ، وهي غزوة بدر الموعد ، ثم غزوة دومة الجندل ، ثم غزوة بني المصطلق وهي المريسيع ، ثم غزوة الخندق ، ثم غزوة بني قريظة ، ثم غزوة بني لحيان ، ثم غزوة الحديبية ، ثم غزوة ذي قرد ، ثم غزوة خيبر ، ثم غزوة ذات الرقاع وهي غزوة محارب وبني ثعلبة ، ثم غزوة عمرة القضاء ، ثم غزوة فتح مكة ، ثم غزوة حنين ، ثم غزوة الطائف ، ثم غزوة تبوك ، . ذكر جملة السرايا والبعوث

وكانت بعوثه صلى الله عليه وسلم وسراياه ثمانيا وثلاثين ، من بين بعث وسرية : غزوة عبيدة بن الحارث أسفل من ثنية ذي المروة ، ثم غزوة حمزة بن عبد المطلب ساحل البحر ، من ناحية العيص ؛ وبعض الناس يقدم غزوة حمزة قبل غزوة عبيدة ؛ وغزوة سعد بن أبي وقاص الخرار ، وغزوة عبد الله بن جحش نخلة ، وغزوة زيد بن حارثة القردة وغزوة محمد بن مسلمة كعب بن الأشرف ، وغزوة مرثد بن أبي مرثد الغنوي الرجيع ، وغزوة المنذر بن عمرو بئر معونة ، وغزوة أبي عبيدة بن الجراح ذا القصة ، من طريق العراق ، وغزوة عمر بن الخطاب تربة من أرض بني عامر ، وغزوة علي بن أبي طالب اليمن ، وغزوة غالب بن عبد الله الكلبي ، كلب ليث ، الكديد ، فأصاب بني الملوح .

التالي السابق


الخدمات العلمية