[ مناشدة الرسول ربه النصر ]

قال ابن إسحاق : ثم عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف ، ورجع إلى العريش فدخله ، ومعه فيه أبو بكر الصديق ، ليس معه فيه غيره ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ما وعده من النصر ، ويقول فيما يقول : اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد ، وأبو بكر يقول : يا نبي الله : بعض مناشدتك ربك ، فإن الله منجز لك ما وعدك . وقد خفق رسول الله صلى الله عليه وسلم خفقة وهو في العريش ، ثم انتبه فقال : أبشر يا أبا بكر ، أتاك نصر الله . هذا جبريل آخذ بعنان فرس يقوده ، على ثناياه النقع وروى ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن عبد الله بن رواحة قال : «يا رسول الله إني أريد أن أشير عليك ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم من أن يشار عليه ، وإن الله تبارك وتعالى أجل وأعظم من أن ينشد وعده» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا ابن رواحة لأنشدن الله وعده ، إن الله لا يخلف الميعاد» .

وروى ابن سعد وابن جرير ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : لما كان يوم بدر قاتلت شيئا من قتال ، ثم جئت مسرعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنظر ما فعل ، فإذا هو ساجد يقول : «يا حي يا قيوم» لا يزيد عليهما ، ثم رجعت إلى القتال ، ثم جئت وهو ساجد يقول ذلك ، ثم ذهبت إلى القتال ثم رجعت وهو ساجد يقول ذلك [ففتح الله عليه] .

وروى البيهقي بسند حسن ، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : ما سمعت مناشدا ينشد مقالة أشد مناشدة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لربه يوم بدر ، جعل يقول : «اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك ، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد» ثم التفت كأن وجهه شقة قمر ، فقال : «كأنما أنظر إلى مصارع القوم العشية» .

وروى البيهقي ، عن ابن عباس وحكيم بن حزام ، وإبراهيم التيمي قالوا : لما حضر القتال رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه يسأل الله النصر وما وعده ، ويقول : «اللهم إن ظهروا على هذه العصابة ظهر الشرك ، وما يقوم لك دين» .

وأبو بكر يقول له : «والله لينصرنك الله وليبيضن وجهك» وخفق رسول الله صلى الله عليه وسلم خفقة وهو في العريش ، ثم انتبه فأنزل الله عز وجل ألفا من الملائكة مردفين عند أكناف العدو ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أبشر يا أبا بكر ، هذا جبريل متعمم بعمامة صفراء آخذ بعنان فرسه بين السماء والأرض ، فلما نزل إلى الأرض تغيب عني ساعة ، ثم طلع على ثناياه النقع يقول : أتاك نصر الله إذ دعوته» .


وروى ابن أبي شيبة والإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لما كان في يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف ، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا ، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة ، ثم مد يديه ، فجعل يهتف بربه يقول : «اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم آتني ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض»

فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه ، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه وألقاه على منكبيه ، ثم التزمه من ردائه ، فقال : «يا نبي الله كفاك تناشد ربك؛ فإنه سينجز لك ما وعدك» فأنزل الله تعالى :
إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين [الأنفال : 9] فأمده الله تعالى بالملائكة .


وروى سعيد بن منصور ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال : لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وتكاثرهم وإلى المسلمين فاستقلهم ، فركع ركعتين ، وقام أبو بكر عن يمينه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته : «اللهم لا تودع مني ، اللهم لا تخذلني ، اللهم أنشدك ما وعدتني» .

وروى البخاري والنسائي وابن المنذر ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو في قبة يوم بدر : «اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك ، اللهم إن تشأ لا تعبد بعد اليوم» فأخذ أبو بكر بيده فقال : حسبك يا رسول الله ، لقد ألححت على ربك . فخرج وهو يثب في الدرع وهو يقول : سيهزم الجمع ويولون الدبر بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر [القمر : 45 ، 46] : قال الإمام أبو سليمان الخطابي رحمه الله تعالى ما حاصله : لا يجوز أن يتوهم أحد أن أبا بكر رضي الله عنه كان أوثق بربه من النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحال ، بل الحامل للنبي صلى الله عليه وسلم على ذلك شفقته على أصحابه وتقوية قلوبهم؛ لأنه كان أول مشهد شهده ، فبالغ في التوجه والدعاء والابتهال؛ لتسكن نفوسهم عند ذلك؛ لأنهم كانوا يعلمون أن وسيلته مستجابة ، فلما قال له أبو بكر ما قال كف عن ذلك ، وعلم أنه استجيب له ، لما وجد أبو بكر في نفسه من القوة والطمأنينة؛ فلهذا عقبه بقوله : سيهزم الجمع [القمر : 45] .

وقال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى : كان النبي صلى الله عليه وسلم في مقام الخوف ، وصاحبه في مقام الرجاء ، وكلا المقامين سواء في الفضل . قال تلميذه السهيلي : لا يريد أن النبي صلى الله عليه وسلم والصديق سواء ، ولكن الرجاء والخوف مقامان لا بد للإيمان منهما ، فأبو بكر كان في تلك الساعة في مقام الرجاء لله تعالى ، والنبي صلى الله عليه وسلم كان في مقام الخوف من الله تعالى؛ لأن الله تعالى يفعل ما يشاء ، فخاف ألا يعبد الله تعالى في الأرض بعدها .

وقال قاسم بن ثابت في دلائله : إنما قال الصديق للنبي صلى الله عليه وسلم ما قال معاونة ورقة عليه؛ لما رأى من نصبه في الدعاء والتضرع حتى سقط الرداء عن منكبيه ، فقال له : بعض هذا يا رسول الله ، أي : لم تتعب نفسك هذا التعب والله تعالى قد وعدك بالنصر ؟ ! وكان رقيق القلب ، شديد الإشفاق على النبي صلى الله عليه وسلم ، وزل من لا علم عنده ممن ينسب إلى التصوف في هذا الموضع زللا شديدا ، فلا يلتفت إليه ، ولعل الخطابي أشار إليه . قال في الروض : سبب شدة اجتهاده ونصبه في الدعاء أنه رأى الملائكة تنصب في القتال وجبريل على ثناياه الغبار ، وأنصار الله تعالى يخوضون غمرات الموت .

والجهاد على ضربين : جهاد بالسيف ، وجهاد بالدعاء ، ومن سنة الإمام أن يكون من وراء الجند لا يقاتل معهم ، فكأن الكل في جهاد وجد ، ولم يكن ليريح نفسه من أحد الجدين والجهادين وأنصار الله وملائكته يجتهدون ، ولا يؤثر الدعة وحزب الله تعالى مع أعدائه يجتلدون .

التالي السابق


الخدمات العلمية