استطلاع النبي صلى الله عليه وسلم خبر قريش لما شاع خبر قريش ومسيرهم في الناس ، وأرجفت اليهود والمنافقون ، وقدم عمرو بن سالم الخزاعي في نفر قد فارقوا قريشا من ذي طوى ، فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم الخبر وانصرفوا ، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنسا ومؤنسا ابني فضالة الظفريين - ليلة الخميس ليال مضت من شوال - عينين ، فاعترضا لقريش بالعقيق ، وعادا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه بخبرهم ، وأنهم قد خلوا إبلهم وخيلهم في الزرع الذي بالعريض ، حتى تركوه ليس به خضر ، وترك المشركون ظاهر المدينة بعينين : جبل ببطن السبحة من قناة على شفير الوادي ، مقابل المدينة - يوم الأربعاء ، فرعت إبلهم آثار الحرث والزرع يوم الخميس ويوم الجمعة ، لم يتركوا خضراء ، ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الحباب - بضم المهملة وتخفيف الموحدة - ابن المنذر بن الجموح إليهم أيضا ، فنظر إليهم وعاد وقد حزر عددهم وما معهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تذكر من شأنهم حرفا ، حسبنا الله ونعم الوكيل ، اللهم بك أجول وبك أصول » .

وباتت وجوه الأوس والخزرج ليلة الجمعة عليها السلاح في المسجد بباب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خوفا من بيات المشركين ، وحرست المدينة حتى أصبحوا . [ رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ]

( قال ) فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون قد نزلوا حيث نزلوا ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين : إني قد رأيت والله خيرا ، رأيت بقرا ، ورأيت في ذباب سيفي ثلما ، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة ، فأولتها المدينة

قال ابن هشام : وحدثني بعض أهل العلم ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : رأيت بقرا لي تذبح ؟ قال : فأما البقر فهي ناس من أصحابي يقتلون ، وأما الثلم الذي رأيت في ذباب سيفي ، فهو رجل من أهل بيتي يقتل عن أبي موسى الأشعري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل ، فذهب وهلى إلى أنها اليمامة أو هجر ، فإذا هي المدينة يثرب ، ورأيت في رؤياي هذه أني هززت سيفا فانقطع صدره ، فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد ، ثم هززته أخرى ، فعاد أحسن ما كان ، فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين ، ورأيت فيها أيضا بقرا ، والله خير ، فإذا هم النفر من المؤمنين يوم أحد ، وإذا الخير ما جاء الله به من الخير وثواب الصدق الذي آتانا الله بعد يوم بدر . عن أنس مرفوعا قال : رأيت فيما يرى النائم كأني مردف كبشا ، وكأن ظبة سيفي انكسرت ، فأولت أني أقتل كبش القوم ، وأولت كسر ظبة سيفي قتل رجل من عترتي . فقتل حمزة ، وقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم طلحة وكان صاحب اللواء . مشاورة الرسول القوم في الخروج أو البقاء وكان رجال من المسلمين لم يشهدوا بدرا قد ندموا على ما فاتهم من السابقة ، وتمنوا لقاء العدو ; ليبلوا ما أبلى إخوانهم يوم بدر ، فلما نزل أبو سفيان والمشركون بأصل أحد فرح المسلمون الذين لم يشهدوا بدرا بقدوم العدو عليهم ، وقالوا : قد ساق الله علينا أمنيتنا . ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري ليلة الجمعة رؤيا فأصبح ، فجاءه نفر من أصحابه فقال لهم : رأيت البارحة في منامي بقرا تذبح ، والله خير ، ورأيت سيفي ذا الفقار انقصم من عند ظبته - أو قال : به فلول - فكرهته ، وهما مصيبتان ، ورأيت أني في درع حصينة ، وأني مردف كبشا . فلما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم برؤياه ، قالوا : يا رسول الله ، ماذا أولت رؤياك ؟ قال : أولت البقر الذي رأيت نفرا فينا وفي القوم ، وكرهت ما رأيت بسيفي : ويقول رجال : كان الذي رأى بسيفه ، الذي أصاب وجهه ; فإن العدو أصاب وجهه يومئذ ، وقصموا رباعيته وخرقوا شفته ، يزعمون أن الذي رماه عتبة بن أبي وقاص ، وكان البقر من قتل من المسلمين يومئذ . وقال : أولت الكبش أنه كبش كتيبة العدو يقتله الله ، وأولت الدرع الحصينة المدينة ، فامكثوا واجعلوا الذراري في الآطام ، فإن دخل علينا القوم في الأزقة ، قاتلناهم ورموا من فوق البيوت ، وكانوا قد سكوا أزقة المدينة بالبنيان حتى صارت كالحصن . فقال الذين لم يشهدوا بدرا : كنا نتمنى هذا اليوم وندعو الله ، فقد ساقه الله إلينا وقرب المسير . وقال رجال من الأنصار : متى نقاتلهم يا رسول الله إذا لم نقاتلهم عند شعبنا ؟ وقال رجال : ماذا نمنع إذا لم تمنع الحرث يزرع ؟ وقال رجال : قولا صدقوا به ومضوا عليه ، منهم حمزة بن عبد المطلب ، قال : والذي أنزل عليك الكتاب لنجالدنهم . وقال نعمان بن مالك بن ثعلبة ، وهو أحد بني سالم : يا نبي الله ، لا تحرمنا الجنة ، فوالذي نفسي بيده لأدخلنها . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : بم ؟ . قال : بأني أحب الله ورسوله ، ولا أفر يوم الزحف . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : صدقت . واستشهد يومئذ . وأبى كثير من الناس إلا الخروج إلى العدو ، ولم يتناهوا إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيه ، ولو رضوا بالذي أمرهم كان ذلك ، ولكن غلب القضاء والقدر ، وعامة من أشار عليه بالخروج رجال لم يشهدوا بدرا ، قد علموا الذي سبق لأصحاب بدر من الفضيلة ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة ، وعظ الناس وذكرهم وأمرهم بالجد والجهاد ، ثم انصرف من خطبته وصلاته ، فدعا بلأمته فلبسها ، ثم أذن في الناس بالخروج ، فلما رأى ذلك رجال من ذوي الرأي ، قالوا : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نمكث بالمدينة وهو أعلم بالله وما يريد ، ويأتيه الوحي من السماء ، فقالوا : يا رسول الله ، امكث كما أمرتنا . فقال : ما ينبغي لنبي إذا أخذ لأمة الحرب وأذن بالخروج إلى العدو ، أن يرجع حتى يقاتل ، وقد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم إلا الخروج ، فعليكم بتقوى الله والصبر عند البأس إذا لقيتم العدو ، وانظروا ماذا آمركم به فافعلوه . فائدة قال ابن القيم رحمه الله تعالى: أن الجهاد يلزم بالشروع فيه ، حتى إن من لبس لأمته وشرع في أسبابه ، وتأهب للخروج ، ليس له أن يرجع عن الخروج حتى يقاتل عدوه .

ومنها : أنه لا يجب على المسلمين إذا طرقهم عدوهم في ديارهم الخروج إليه ، بل يجوز لهم أن يلزموا ديارهم ، ويقاتلوهم فيها إذا كان ذلك أنصر لهم على عدوهم ، كما أشار به رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم يوم أحد .

التالي السابق


الخدمات العلمية