ذكر ثبات رسول الله صلى الله عليه وسلم

روى البيهقي عن المقداد بن عمرو رضي الله عنه فذكر حديثا في يوم أحد وقال : فأوجعوا والله قتلا ذريعا ، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نالوا ، ألا والذي بعثه بالحق إن زال رسول الله صلى الله عليه وسلم شبرا واحدا ، وإنه لفي وجه العدو ويفيء إليه طائفة من أصحابه مرة ، وتفترق مرة عنه ، فربما رأيته قائما يرمي عن قوسه ، ويرمي بالحجر حتى تحاجزوا ، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصابة ثبتت معه . [ ما لقيه الرسول يوم أحد ]

قال ابن إسحاق : وانكشف المسلمون ، فأصاب فيهم العدو ، وكان يوم بلاء وتمحيص ، أكرم الله فيه من أكرم من المسلمين بالشهادة ، حتى خلص العدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فدث بالحجارة حتى وقع لشقه ، فأصيبت رباعيته ، وشج في وجهه ، وكلمت شفته ، وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص .

قال ابن إسحاق : فحدثني حميد الطويل ، عن أنس بن مالك ، قال : كسرت رباعية النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وشج في وجهه ، فجعل الدم يسيل على وجهه ، وجعل يمسح الدم وهو يقول : كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم ، وهو يدعوهم إلى ربهم فأنزل الله عز وجل في ذلك : ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون .



قال ابن هشام : وذكر ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه ، عن أبي سعيد الخدري : أن عتبة بن أبي وقاص رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ، فكسر رباعيته اليمنى السفلى ، وجرح شفته السفلى ، وأن عبد الله بن شهاب الزهري شجه في جبهته ، وأن ابن قمئة جرح وجنته فدخلت حلقتان من حلق المغفر وجنته ، ووقع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرة من الحفر التي عمل أبو عامر ليقع فيها المسلمون ، وهم لا يعلمون ، فأخذ علي بن أبي طالب بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورفعه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائما ، ومص مالك بن سنان ، أبو أبي سعيد الخدري الدم : عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ازدرده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من مس دمي دمه لم تصبه النار .

قال ابن هشام : وذكر عبد العزيز بن محمد الدراوردي : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله

. وعن أم المؤمنين عائشة قالت : كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد بكى ثم قال : ذاك يوم كله لطلحة . ثم أنشأ يحدث . قال : كنت أول من فاء يوم أحد فرأيت رجلا يقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم دونه . وأراه قال : يحميه . قال : فقلت : كن طلحة . حيث فاتني ما فاتني ، فقلت : يكون رجلا من قومي أحب إلي ، وبيني وبين المشرق رجل لا أعرفه ، وأنا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ، وهو يخطف المشي خطفا لا أخطفه ، فإذا هو أبو عبيدة بن الجراح فانتهينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كسرت رباعيته ، وشج في وجهه ، وقد دخل في وجنتيه حلقتان من حلق المغفر . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عليكما صاحبكما يريد طلحة وقد نزف فلم نلتفت إلى قوله ، قال : وذهبت لأنزع ذاك من وجهه ، فقال أبو عبيدة : أقسمت عليك بحقي لما تركتني فتركته ، فكره أن يتناولها بيده ، فيؤذى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأزم عليهما بفيه ، فاستخرج إحدى الحلقتين ، ووقعت ثنيته مع الحلقة ، وذهبت لأصنع ما صنع ، فقال : أقسمت عليك بحقي لما تركتني . قال : ففعل مثل ما فعل في المرة الأولى ، فوقعت ثنيته الأخرى مع الحلقة ، فكان أبو عبيدة رضي الله عنه ، من أحسن الناس هتما ، فأصلحنا من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أتينا طلحة في بعض تلك الجفار ، فإذا به بضع وسبعون من بين طعنة ورمية وضربة ، وإذا قد قطعت أصبعه ، فأصلحنا من شأنه وعن أبي حازم أنه سمع سهل بن سعد وهو يسأل عن جرح النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : أما والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن كان يسكب الماء ، وبما دووي . قال : كانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسله ، وعلي يسكب الماء بالمجن ، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير ، فأحرقتها وألصقتها ، فاستمسك الدم ، وكسرت رباعيته يومئذ وجرح وجهه ، وكسرت البيضة على رأسه . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اشتد غضب الله على قوم فعلوا بنبيه - يشير إلى رباعيته - اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله . وتفرق عن النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ، ودخل بعضهم المدينة وانطلق طائفة فوق الجبل إلى الصخرة ، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس : إلي عباد الله ، إلي عباد الله . فاجتمع إليه ثلاثون رجلا ، فجعلوا يسيرون بين يديه ، فلم يقف أحد إلا طلحة ، وسهل بن حنيف فحماه طلحة فرمي بسهم في يده فيبست يده وفشا في الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل ، فقال : بعض أصحاب الصخرة : ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أمنة من أبي سفيان ، يا قوم ، إن محمدا قد قتل ، فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم . [ أول من عرف الرسول بعد الهزيمة ]

قال ابن إسحاق : وكان أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة ، وقول الناس : قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما ذكر لي ابن شهاب الزهري كعب بن مالك ، قال : عرفت عينيه تزهران من تحت المغفر ، فناديت بأعلى صوتي : يا معشر المسلمين ، أبشروا ، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأشار إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن أنصت .

قال ابن إسحاق : فلما عرف المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم نهضوا به ، ونهض معهم نحو الشعب ، معه أبو بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وطلحة بن عبيد الله ، والزبير بن العوام ، رضوان الله عليهم ، والحارث بن الصمة ، ورهط من المسلمين . وروى أبو يعلى بسند حسن ، عن علي رضي الله عنه قال : لما انجلى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد نظرت في القتلى ، فلم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : والله ما كان ليفر وما أراه في القتلى ، ولكن أرى الله تعالى غضب علينا بما صنعنا ، فرفع نبيه صلى الله عليه وسلم ، فما لي خير من أن أقاتل حتى أقتل ، فكسرت جفن سيفي ، ثم حملت على القوم فأفرجوا لي ، فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم ، أي يقاتلهم صلى الله عليه وسلم . وروى ابن المنذر عن كليب بن شهاب قال : خطبنا عمر فكان يقرأ على المنبر آل عمران ويقول : إنها أحدية فلما انتهى إلى قوله تعالى : إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان [آل عمران 155 ] قال : لما كان يوم أحد هزمنا ونفرت ، حتى صعدت في الجبل ، فلقد رأيتني أنزو كأنني أروي ، فسمعت يهوديا يقول : قتل محمد ، فقلت : لا أسمع أحدا يقول : قتل محمد إلا ضربت عنقه ، فنظرت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يتراجعون إليه .

قال ابن إسحاق : وكان أول من أقبل من المسلمين بعد التولية قيس بن محرث ، ويقال : قيس بن الحارث بن عدي بن جشم مع طائفة من الأنصار ، فصادفوا المشركين فدخلوا حومتهم ، فما أفلت منهم رجل حتى قتل ، ولقد ضاربهم قيس حتى قتل نفرا ، فما قتلوه إلا بالرماح ، نظموه ، ووجد به أربع عشرة طعنة ، قد جافته ، وعشر ضربات في بدنه .

ونادى الحباب بن المنذر : يا آل سلمة ، فأقبلوا عليه عنقا واحدا : لبيك داعي الله .

وكان عباس بن عبادة بن نضلة - بالنون والضاد المعجمة - وخارجة بن زيد ، وأوس بن أرقم ، يرفعون أصواتهم ، فيقول عباس : يا معشر المسلمين : الله ونبيكم ، هذا الذي أصابكم بمعصية نبيكم ، فوعدكم النصر ما صبرتم ، ثم نزع مغفره وخلع درعه ، وقال لخارجة بن زيد : هل لك فيها ؟ قال : لا ، أنا أريد الذي تريد ، فخالطوا القوم جميعا ، وعباس يقول : ما عذرنا عند ربنا إن أصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومنا عين تطرف ؟ فيقول خارجة : لا عذر لنا عند ربنا ولا حجة . فقتل سفيان بن عبد شمس عباسا ، وأخذت خارجة بن زيد الرماح فجرح بضعة عشر جرحا ، وأجهز عليه صفوان بن أمية - وأسلم صفوان بعد ذلك - وقتل أوس بن أرقم رضي الله عنه . [ شعر حسان في عتبة وما أصاب به الرسول ]

قال ابن إسحاق : وقال حسان بن ثابت لعتبة بن أبي وقاص :


إذا الله جازى معشرا بفعالهم وضرهم الرحمن رب المشارق     فأخزاك ربي يا عتيب بن مالك
ولقاك قبل الموت إحدى الصواعق     بسطت يمينا للنبي تعمدا
فأدميت فاه ، قطعت بالبوارق     فهلا ذكرت الله والمنزل الذي
تصير إليه عند إحدى البوائق



قال ابن هشام : تركنا منها بيتين أقذع فيهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية