ذكر قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه عمرو بن عبد ود العامري

روى البيهقي عن ابن إسحاق ، ومحمد بن عمر عن شيوخه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام مرابطا والمشركون يحاصرونه . قال ابن إسحاق : بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر ، ولم يكن بينهم قتال لأجل ما حال من الخندق ، إلا الرمي بالسهام والحجارة ، ثم إن رؤساء المشركين وسادتهم أجمعوا على أن يغدوا جميعا لقتال المسلمين فغدا أبو سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل ، وضرار بن الخطاب ، وخالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص ونوفل بن معاوية الديلمي- وأسلموا بعد ذلك- ونوفل بن عبد الله المخزومي ، وعمرو بن عبد ود ، في عدة ومعهم رؤساء غطفان : عيينة بن حصن ، والحارث بن عوف ، ومسعود بن رخيل- بالخاء المعجمة والتصغير- وأسلم الثلاثة بعد ذلك . ومن بني أسد رؤوسهم ، وتركوا الرجال خلوفا فجعلوا يطوفون بالخندق يطلبون مضيقا ، يريدون أن يقحموا خيلهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فتيمموا مكانا من الخندق ضيقا قد أغفله المسلمون ، فجعلوا يكرهون خيلهم ويضربونها حتى اقتحمت ، فعبر عكرمة ، ونوفل بن عبد الله ، وضرار بن الخطاب ، وهبيرة بن أبي وهب ، وعمرو بن عبد ود ، وأقام سائر المشركين من وراء الخندق ، ولم يعبروا ، فقيل لأبي سفيان : ألا تعبر قال : قد عبرتم ، فإن احتجتم لنا عبرنا ، فجالت بالذين دخلوا خيلهم في السبخة بين الخندق وسلع ، وخرج نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي أقحموا منها خيلهم ، وأقبلت الفرسان تعنق نحوهم ، وكان عمرو بن عبد ود قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة ، وارتث فلم يشهد أحدا ، فحرم الدهن حتى يثأر من محمد وأصحابه ، وهو يومئذ كبير . قال ابن سعد : إنه بلغ تسعين سنة ، وكان من شجعان المشركين وأبطالهم المسمين ،

فلما كان يوم الخندق خرج ثائر الرأس معلما ليرى مكانه ، فلما وقف هو وخيله دعا إلى البراز ، فقام علي بن أبي طالب ، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأعطاه سيفه وعممه ، وقال :

«اللهم أعنه عليه» ، فمشى إليه وهو يقول :


لا تعجلن فقد أتا ك مجيب صوتك غير عاجز     ذو نية وبصيرة
والصدق من خير الغرائز     إني لأرجو أن أقي
م عليك نائحة الجنائز     من ضربة نجلاء يب
قى ذكرها عند الهزاهز

ثم قال له : يا عمرو إنك كنت تقول في الجاهلية : لا يدعوني أحد إلى واحدة من ثلاث إلا قبلتها ، قال : أجل ، فقال علي : فإني أدعوك إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وتسلم لرب العالمين ، قال : يا ابن أخي أخر عني هذه ، قال : وأخرى ترجع إلى بلادك ، فإن يك محمد صادقا كنت أسعد الناس به ، وإن يك كاذبا كان الذي تريد . قال : هذا ما لا تحدث به نساء قريش أبدا ، وقد نذرت ما نذرت ، وحرمت الدهن ، قال : فالثالثة ؟ قال :

البراز . فضحك عمرو وقال : إن هذه لخصلة ما كنت أظن أن أحدا من العرب يرومني عليها ، فمن أنت ؟ قال : أنا علي بن أبي طالب . قال : يا ابن أخي من أعمامك من هو أسن منك ، فإني أكره أن أهريق دمك ، فقال علي رضي الله عنه : لكني والله لا أكره أن أهريق دمك .

فغضب عمرو ، فنزل عن فرسه وعقرها ، وسل سيفه كأنه شعلة نار ، ثم أقبل نحو علي مغضبا ، واستقبله علي بدرقته ، ودنا أحدهما من الآخر وثارت بينهما غبرة ، فضربه عمرو فاتقى علي الضربة بالدرقة فقدها ، وأثبت فيها السيف ، وأصاب رأسه فشجه .

قال البلاذري : ويقال : إن عليا لم يجرح قط وضربه علي على حبل عاتقه فسقط وثار العجاج ، وقيل : طعنه في ترقوته حتى أخرجها من مراقه ، فسقط . وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم التكبير فعرف أن عليا قد قتله .

فثم علي رضي الله عنه يقول :


نصر الحجارة من سفاهة رأيه     ونصرت رب محمد بصوابي
فصدرت حين تركته متجدلا     كالجذع بين دكادك ورواب .
وعففت عن أثوابه ولو أنني     كنت المقطر بزني أثوابي
لا تحسبن الله خاذل دينه     ونبيه يا معشر الأحزاب

قال ابن هشام : وأكثر أهل العلم بالشعر يشك فيها لعلي رضي الله عنه .

ثم أقبل علي رضي الله عنه نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووجهه يتهلل ، ولم يكن للعرب درع خير من درعه ، ولم يستلبه لأنه اتقاه بسوءته ، فاستحياه ، وخرجت خيولهم منهزمة حتى اقتحمت الخندق . قال ابن هشام : وألقى عكرمة بن أبي جهل رمحه يومئذ وهو منهزم عن عمرو . فقال حسان بن ثابت في ذلك :


فر وألقى لنا رمحه     لعلك عكرم لم تفعل
ووليت تعدو كعدو الظليم     ما إن تجور عن المعدل
ولم تلق ظهرك مستأنسا     كأن قفاك قفا فرعل

ورجع المشركون هاربين ، وخرج في آثارهم الزبير بن العوام وعمر بن الخطاب فناوشوهم ساعة ، وحمل الزبير بن العوام على نوفل بن عبد الله بالسيف حتى شقه باثنين ، وقطع أبدوج سرجه ، حتى خلص إلى كاهل الفرس ، فقيل : يا أبا عبد الله ما رأينا مثل سيفك ، فقال : والله ما هو السيف ، ولكنها الساعد .

وحمل الزبير أيضا على هبيرة بن أبي وهب فضرب ثفر فرسه ، فقطع ثفره ، وسقطت درع كان محقبها الفرس ، فأخذها الزبير ، فلما رجعوا إلى أبي سفيان قالوا : هذا يوم لم يكن لنا فيه شيء فارجعوا .

قال الحاكم : سمعت الأصم ، قال : سمعت العطاردي ، وقال : سمعت الحافظ يحيى بن آدم يقول : ما شبهت قتل علي عمرا إلا بقوله تعالى : فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت [البقرة 251] .

قال ابن إسحاق ، كما رواه البيهقي عنه : وبعث المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يشترون جيفة عمرو بن عبد ود بعشرة آلاف ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هو لكم لا نأكل ثمن الموتى» .

وروى الإمام أحمد والترمذي والبيهقي عن ابن عباس قال : قتل المسلمون يوم الخندق رجلا من المشركين ، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن ابعث إلينا بجسده ، ونعطيكم اثني عشر ألفا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا خير في جيفته ولا في ثمنه ، ادفعوه إليهم فإنه خبيث الجيفة ، خبيث الدية» ، فلم يقبل منهم شيئا .

وروى أبو نعيم : إن رجلا من آل المغيرة قال : لأقتلن محمدا ، فأوثب فرسه في الخندق ، فوقع ، فاندقت عنقه ، فقالوا : يا محمد ادفعه إلينا نواريه ، وندفع إليك ديته ، فقال : «خذوه فإنه خبيث الدية» .

وذكر ابن عقبة : أن المشركين لما بعثوا يطلبون جسد نوفل بن عبد الله المخزومي حين قتل ، وعرضوا عليه الدية ، فقال : إنه خبيث الدية ، فلعنه الله ولعن ديته ، فلا أرب لنا في ديته ، ولسنا نمنعكم أن تدفنوه .

وذكر أبو جعفر بن جرير : أن نوفلا لما تورط في الخندق رماه الناس بالحجارة ، فجعل يقول : قتلة أحسن من هذه يا معشر العرب ، فنزل إليه علي فقتله ، وطلب المشركون رمته ، فمكنهم من أخذه . وهذا غريب .

قال ابن سعد : ولم يكن لهم بعد ذلك قتال جميعا حتى انصرفوا ، إلا أنهم لا يدعون الطلائع بالليل يطمعون في الغارة .

التالي السابق


الخدمات العلمية