ذكر نزول بني قريظة على حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورده الأمر إلى سعد بن معاذ - رضي الله عنه -

فلما جهدهم الحصار ، نزلوا على حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم بأسراهم فكتفوا رباطا ، وجعل على كتافهم محمد بن مسلمة ، ونحوا ناحية ، وأخرجوا النساء والذرية من الحصون فكانوا ناحية واستعمل عليهم عبد الله بن سلام ، وجمعت أمتعتهم وما وجد في حصونهم من الحلقة والأثاث والثياب ، ووجدوا فيها ألفا وخمسمائة سيف وثلاثمائة درع ، وألفي رمح ، وألفا وخمسمائة ترس وحجفة وأثاثا كثيرا ، وآنية كثيرة ، وخمرا ، وجرارا ، وسكرا فهريق ذلك كله . ولم يخمسه ووجد من الجمال النواضح عدة ، ومن الماشية شيئا كثيرا ، فجمع هذا كله .

وتنحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجلس وتواثبت الأوس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا رسول الله حلفاؤنا دون الخزرج ، وقد رأيت ما صنعت ببني قينقاع بالأمس حلفاء ابن أبي وهبت له ثلاثمائة حاسر ، وأربعمائة دارع . وقد ندم حلفاؤنا على ما كان من نقضهم العهد فهبهم لنا ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساكت لا يتكلم حتى أكثروا عليه وألحوا ونطقت الأوس كلها ،

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : «أما ترضون أن يكون الحكم فيهم إلى رجل منكم» ؟ قالوا :

بلى . قال : «فذلك إلى سعد بن معاذ »
.

وقال ابن عقبة : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : «اختاروا من شئتم من أصحابي»

فاختاروا سعد بن معاذ ، فرضي بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- وسعد يومئذ في المسجد بالمدينة ، في خيمة كعيبة بنت سعيد - بالتصغير فيهما - الأسلمية ، وكانت تداوي الجرحى وتلم الشعث ، وتقوم على الضائع الذي لا أحد له ، وكان لها خيمة في المسجد ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل سعد بن معاذ فيها ليعوده من قريب فلما جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحكم إلى سعد خرجت الأوس حتى جاءوه فحملوه على حمار بأعرابي بشندة من ليف وعلى الحمار قطيفة فوق الشندة ، وخطامه من ليف ، وكان رجلا جسيما ، فخرجوا حوله يقولون : يا أبا عمرو ، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ولاك أمر مواليك لتحسن فيهم ، فأحسن فقد رأيت ابن أبي وما صنع في حلفائه ، وأكثروا من هذا وشبهه ، وهو لا يتكلم ، حتى إذا أكثروا عليه قال سعد : قد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم ، فقال الضحاك بن خليفة بن ثعلبة بن عدي بن كعب بن عبد الأشهل الأنصاري : وا قوماه! وقال غيره منهم نحو ذلك ثم رجع الضحاك إلى الأوس فنعى لهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد ، عن كلمته التي سمع منه ، وأقبل سعد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم والناس حول رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوس ، فلما طلع سعد بن معاذ -

وفي الصحيحين - فلما دنا من المسجد : أي الذي كان فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعده ببني قريظة أيام حصارهم - للصلاة ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : «قوموا إلى سيدكم»
وفي لفظ «خيركم»

فأما المهاجرون من قريش فإنما يقولون : إنما أراد الأنصار ، وأما الأنصار فيقولون : قد عمم بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين ، وعند الإمام أحمد «قوموا إلى سيدكم» فأنزلوه ، وكان رجال من بني عبد الأشهل يقولون : قمنا له على أرجلنا صفين ، يحييه كل رجل منا حتى انتهى إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم .

وفي حديث جابر - رضي الله عنه : عند ابن عائذ ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : - احكم فيهم يا سعد ، فقال : الله ورسوله أحق بالحكم . قال : «قد أمرك الله أن تحكم فيهم» .

وقالت الأوس الذين بقوا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم : يا أبا عمرو : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ولاك الحكم في أمر مواليك فأحسن فيهم ، واذكر بلاءهم عندك ، فقال سعد : أترضون حكمي لبني قريظة ؟ قالوا :

نعم ، قد رضينا بحكمك ، وأنت غائب عنا ، اختيارا منا لك ، ورجاء أن تمن علينا كما فعل غيرك بحلفائه بني قينقاع ، وأثرنا عندك أثرنا ، وأحوج ما كنا اليوم إلى مجازاتك . فقال سعد : ما آلوكم جهدا ، فقالوا : ما يعني بقوله هذا ؟ ثم قال سعد : عليكم عهد الله وميثاقه ، أن الحكم فيهم ما حكمت ؟ قالوا : نعم ،

ثم قال سعد للناحية التي فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو معرض عنها إجلالا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى من ها هنا مثل ذلك ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه :

«نعم»

قال سعد : فإني أحكم فيهم أن يقتل كل من جرت عليه الموسى ، وتسبى النساء والذرية ، وتقسم الأموال وتكون الديار للمهاجرين دون الأنصار . فقالت الأنصار . إخواننا كنا معهم ، فقال : أحببت أن يستغنوا عنكم»

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لقد حكمت فيهم بحكم الله الذي حكم به من فوق سبع سماوات
.

وذكر ابن إسحاق في غير رواية البكائي : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في حكم سعد : «بذلك طرقني الملك سحرا» ،

وكان سعد بن معاذ في الليلة التي في صبيحتها نزلت بنو قريظة على حكم

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد دعا فقال : اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها فإنه لا قوم أحب إلي أن أقاتلهم من قوم كذبوا رسولك آذوه وأخرجوه ، وإن كانت الحرب قد وضعت أوزارها عنا وعنهم فاجعلها لي شهادة ، ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة ، فأقر الله تعالى عينه منهم . فائدة في حكم من نقض العهد وأقر به الباقون فصل

وكان هديه صلى الله عليه وسلم أنه إذا صالح قوما فنقض بعضهم عهده ، وصلحه ، وأقرهم الباقون ، ورضوا به ، غزا الجميع ، وجعلهم كلهم ناقضين ، كما فعل بقريظة ، والنضير ، وبني قينقاع ، وكما فعل في أهل مكة ، فهذه سنته في أهل العهد ، وعلى هذا ينبغي أن يجري الحكم في أهل الذمة كما صرح به الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم ، وخالفهم أصحاب الشافعي ، فخصوا نقض العهد بمن نقضه خاصة دون من رضي به وأقر عليه ، وفرقوا بينهما بأن عقد الذمة أقوى وآكد ، ولهذا كان موضوعا على التأبيد ، بخلاف عقد الهدنة والصلح .

والأولون يقولون : لا فرق بينهما ، وعقد الذمة لم يوضع للتأبيد ، بل بشرط استمرارهم ودوامهم على التزام ما فيه ، فهو كعقد الصلح الذي وضع للهدنة بشرط التزامهم أحكام ما وقع عليه العقد ، قالوا : والنبي صلى الله عليه وسلم لم يوقت عقد الصلح والهدنة بينه وبين اليهود لما قدم المدينة ، بل أطلقه ما داموا كافين عنه ، غير محاربين له ، فكانت تلك ذمتهم ، غير أن الجزية لم يكن نزل فرضها بعد ، فلما نزل فرضها ، ازداد ذلك إلى الشروط المشترطة في العقد ، ولم يغير حكمه وصار مقتضاها التأبيد ، فإذا نقض بعضهم العهد ، وأقرهم الباقون ، ورضوا بذلك ، ولم يعلموا به المسلمين ، صاروا في ذلك كنقض أهل الصلح ، وأهل العهد والصلح سواء في هذا المعنى ، ولا فرق بينهما فيه ، وإن افترقا من وجه آخر يوضح هذا أن المقر الراضي الساكت إن كان باقيا على عهده وصلحه ، لم يجز قتاله ولا قتله في الموضعين ، وإن كان بذلك خارجا عن عهده وصلحه راجعا إلى حاله الأولى قبل العهد والصلح ، لم يفترق الحال بين عقد الهدنة وعقد الذمة في ذلك ، فكيف يكون عائدا إلى حاله في موضع دون موضع ، هذا أمر غير معقول . توضيحه : أن تجدد أخذ الجزية منه ، لا يوجب له أن يكون موفيا بعهده مع رضاه ، وممالأته ومواطأته لمن نقض ، وعدم الجزية يوجب له أن يكون ناقضا غادرا غير موف بعهده ، هذا بين الامتناع .

فالأقوال ثلاثة : النقض في الصورتين ، وهو الذي دلت عليه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكفار ، وعدم النقض في الصورتين ، وهو أبعد الأقوال عن السنة ، والتفريق بين الصورتين ، والأولى أصوبها ، وبالله التوفيق .

وبهذا القول أفتينا ولي الأمر لما أحرقت النصارى أموال المسلمين بالشام ودورهم ، وراموا إحراق جامعهم الأعظم حتى أحرقوا منارته ، وكاد - لولا دفع الله - أن يحترق كله ، وعلم بذلك من علم من النصارى ، وواطئوا عليه وأقروه ورضوا به ، ولم يعلموا ولي الأمر ، فاستفتى فيهم ولي الأمر من حضره من الفقهاء ، فأفتيناه بانتقاض عهد من فعل ذلك ، وأعان عليه بوجه من الوجوه ، أو رضي به ، وأقر عليه ، وأن حده القتل حتما ، لا تخيير للإمام فيه كالأسير بل صار القتل له حدا ، والإسلام لا يسقط القتل إذا كان حدا ممن هو تحت الذمة ، ملتزما لأحكام الله بخلاف الحربي إذا أسلم ، فإن الإسلام يعصم دمه وماله ، ولا يقتل بما فعله قبل الإسلام ، فهذا له حكم ، والذمي الناقض للعهد إذا أسلم له حكم آخر ، وهذا الذي ذكرناه هو الذي تقتضيه نصوص الإمام أحمد وأصوله ، ونص عليه شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ، وأفتى به في غير موضع .

التالي السابق


الخدمات العلمية