قال نافع : كانت سنة ست في ذي القعدة ، وهذا هو الصحيح ، وهو قول الزهري وقتادة وموسى بن عقبة ومحمد بن إسحاق وغيرهم .

وقال هشام بن عروة عن أبيه : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية في رمضان ، وكانت في شوال ، وهذا وهم ، وإنما كانت غزاة الفتح في رمضان ، وقد قال أبو الأسود عن عروة : إنها كانت في ذي القعدة ، على الصواب .

وفي " الصحيحين " عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( اعتمر أربع عمر كلهن في ذي القعدة ) . فذكر منها عمرة الحديبية . وقال ابن إسحاق : ثم أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة شهر رمضان وشوالا ، وخرج في ذي القعدة معتمرا ، لا يريد حربا . [ نميلة على المدينة ]

قال ابن هشام : واستعمل على المدينة نميلة بن عبد الله الليثي . [ استنفار الرسول الناس ]

قال ابن إسحاق : واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه ، وهو يخشى من قريش الذي صنعوا ، أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت ، فأبطأ عليه كثير من الأعراب ، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق به من العرب ، وساق معه الهدي ، وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه ، وليعلم الناس أنه إنما خرج زائرا لهذا البيت ومعظما له . [ عدة الرجال ]

قال ابن إسحاق : عن مسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أنهما حدثاه قالا : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية يريد زيارة البيت ، لا يريد قتالا ، وساق معه الهدي سبعين بدنة ، وكان الناس سبع مئة رجل ، فكانت كل بدنة عن عشرة نفر .

وكان جابر بن عبد الله ، فيما بلغني ، يقول : كنا أصحاب الحديبية أربع عشرة مئة . والمقصود أن هذه الروايات كلها مخالفة لما ذهب إليه ابن إسحاق ؛ من أن أصحاب الحديبية كانوا سبعمائة ، وهو ، والله أعلم ، إنما قال ذلك تفقها من تلقاء نفسه ؛ من حيث إن البدن كن سبعين بدنة ، وكل منها عن عشرة ، على اختياره ، فيكون المهلون سبعمائة ، ولا يلزم أن يهدي كلهم ، ولا أن يحرم كلهم أيضا ؛ فقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث طائفة منهم ، فيهم أبو قتادة ، ولم يحرم أبو قتادة حتى قتل ذلك الحمار الوحشي ، فأكل منه هو وأصحابه ، وحملوا منه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثناء الطريق ، فقال : أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها ، أو أشار إليها ؟ قالوا : لا . قال : فكلوا ما بقي من لحمها .

وعن عبد الله بن أبي قتادة ، أن أباه حدثه قال : انطلقنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية ، فأحرم أصحابه ولم أحرم .

وقيل : في هذه السنة خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معتمرا في ذي القعدة ، لا يريد حربا ، ومعه جماعة من المهاجرين والأنصار ، ومن تبعه من الأعراب ألف وأربعمائة ، وقيل : ألف وخمسمائة ، وقيل : ثلاثمائة [ الرسول وبشر بن سفيان ]

قال الزهري : وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي - قال ابن هشام : ويقال بسر - فقال : يا رسول الله هذه قريش ، قد سمعت بمسيرك ، فخرجوا معهم العوذ المطافيل ، قد لبسوا جلود النمور ، وقد نزلوا بذي طوى ، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا ، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموها إلى كراع الغميم .

قال : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب ، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب ، فإن هم أصابوني كان الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ، فما تظن قريش ، فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة ، ثم قال : من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها ؟
[ تجنب الرسول لقاء قريش ]

قال ابن إسحاق : فحدثني عبد الله بن أبي بكر : أن رجلا من أسلم قال : أنا يا رسول الله ، قال : فسلك بهم طريقا وعرا أجرل بين شعاب ، فلما خرجوا منه ، وقد شق ذلك على المسلمين وأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للناس : قولوا نستغفر الله ونتوب إليه فقالوا ذلك ، فقال : والله إنها للحطة التي عرضت على بني إسرائيل . فلم يقولوها .

قال ابن شهاب : فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس فقال : اسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمش ، في طريق ( تخرجه ) على ثنية المرار مهبط الحديبية من أسفل مكة قال : فسلك الجيش ذلك الطريق ، فلما رأت خيل قريش قترة الجيش قد خالفوا عن طريقهم ، رجعوا راكضين إلى قريش ، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا سلك ، في ثنية المرار بركت ناقته ، فقالت الناس : خلأت الناقة ، قال : ما خلأت وما هو لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة . لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها

ثم قال للناس : انزلوا ؛ قيل له : يا رسول الله : ما بالوادي ماء ننزل عليه ، فأخرج سهما من كنانته . فأعطاه رجلا من أصحابه ، فنزل به في قليب من تلك القلب . فغرزه في جوفه ، فجاش بالرواء حتى ضرب الناس عنه بعطن
. [ الذي نزل بسهم الرسول في طلب الماء ]

قال ابن إسحاق : فحدثني بعض أهل العلم عن رجال من أسلم : أن الذي نزل في القليب بسهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناجية بن جندب بن عمير بن يعمر بن دارم بن عمرو بن وائلة بن سهم بن مازن بن سلامان بن أسلم بن أفصى بن أبي حارثة ، وهو سائق بدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

قال ابن هشام : أفصى بن حارثة . قال ابن إسحاق : وقد زعم لي بعض أهل العلم : أن البراء بن عازب كان يقول : أنا الذي نزلت بسهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالله أعلم أي ذلك كان . [ شعر لناجية يثبت أنه حامل سهم الرسول ]

وقد أنشدت أسلم أبياتا من شعر قالها ناجية ، قد ظننا أنه هو الذي نزل بالسهم ، فزعمت أسلم أن جارية من الأنصار أقبلت بدلوها ، وناجية في القليب يميح على الناس ، فقالت :


يا أيها المائح دلوى دونكا إني رأيت الناس يحمدونكا




يثنون خيرا ويمجدونكا



قال ابن هشام : ويروى :


إني رأيت الناس يمدحونكا



قال ابن إسحاق : فقال ناجية ، وهو في القليب يميح على الناس :


قد علمت جارية يمانيه     أني أنا المائح واسمي ناجيه
وطعنة ذات رشاش واهيه     طعنتها عند صدور العاديه

[ بديل ورجال خزاعة بين الرسول وقريش ]

قال الزهري في حديثه : فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه بديل بن ورقاء الخزاعي ، في رجال من خزاعة ، فكلموه وسألوه : ما الذي جاء به ؟ فأخبرهم أنه لم يأت يريد حربا ، وإنما جاء زائرا للبيت ، ومعظما لحرمته ، ثم قال لهم نحوا مما قال لبشر بن سفيان ، فرجعوا إلى قريش فقالوا : يا معشر قريش ، إنكم تعجلون على محمد ، إن محمدا لم يأت لقتال ، وإنما جاء زائرا هذا البيت ، فاتهموهم وجبهوهم وقالوا : وإن كان جاء ولا يريد قتالا ، فو الله لا يدخلها علينا عنوة أبدا ، ولا تحدث بذلك عنا العرب . قال الزهري : وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مسلمها ومشركها ، لا يخفون عنه شيئا كان بمكة . [ مكرز رسول قريش إلى الرسول ]

قال : ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص بن الأخيف ، أخا بني عامر بن لؤي ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا قال : هذا رجل غادر فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه ، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوا مما قال لبديل وأصحابه ؛ فرجع إلى قريش فأخبرهم بما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم . [ الحليس رسول من قريش إلى الرسول ]

ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة أو ابن زبان ، وكان يومئذ سيد الأحابيش ، وهو أحد بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة ؛ فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن هذا من قوم يتألهون فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه ، فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده ، وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله ، رجع إلى قريش ، ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظاما لما رأى ، فقال لهم ذلك . قال : فقالوا له : اجلس ، فإنما أنت أعرابي لا علم لك .

قال ابن إسحاق : فحدثني عبد الله بن أبي بكر : أن الحليس غضب عند ذلك وقال : يا معشر قريش ، والله ما على هذا حالفناكم ، ولا على هذا عاقدناكم . أيصد عن بيت الله من جاء معظما له والذي نفس الحليس بيده ، لتخلن بين محمد وبين ما جاء له ، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد . قال : فقالوا له : مه ، كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به [ عروة بن مسعود رسول من قريش إلى الرسول ]

قال الزهري في حديثه : ثم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عروة بن مسعود الثقفي ، فقال : يا معشر قريش ، إني قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد إذ جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ ، وقد عرفتم أنكم والد وإني ولد - وكان عروة لسبيعة بنت عبد شمس - وقد سمعت بالذي نابكم ، فجمعت من أطاعني من قومي ، ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسي ؛ قالوا : صدقت ، ما أنت عندنا بمتهم . فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجلس بين يديه ، ثم قال : يا محمد ، أجمعت أوشاب الناس ، ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم ، إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل . قد لبسوا جلود النمور ، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبدا . وايم الله ، لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا . قال : وأبو بكر الصديق خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد ؛ فقال : امصص بظر اللاتي ، أنحن ننكشف عنه ؟ قال : من هذا يا محمد ؟ قال : هذا ابن أبي قحافة ، قال : أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها ، ولكن هذه بها قال : ثم جعل يتناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكلمه . قال : والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديد . قال : فجعل يقرع يده إذا تناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقول : اكفف يدك عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن لا تصل إليك ؛ قال : فيقول عروة : ويحك ما أفظك وأغلظك قال : فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقال له عروة : من هذا يا محمد ؟ قال : هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة ؛ قال : أي غدر ، وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس .

- قال ابن هشام : أراد عروة بقوله هذا أن المغيرة بن شعبة قبل إسلامه قتل ثلاثة عشر رجلا من بني مالك . من ثقيف . فتهايج الحيان من ثقيف : بنو مالك رهط المقتولين ، والأحلاف رهط المغيرة ، فودى عروة المقتولين ثلاث عشرة دية ، وأصلح ذلك الأمر .

قال ابن إسحاق : قال الزهري : فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو مما كلم به أصحابه ، وأخبره أنه لم يأت يريد حربا .

فقام من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رأى ما يصنع به أصحابه ، لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه ، ولا يبصق بصاقا إلا ابتدروه . ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه . فرجع إلى قريش ، فقال : يا معشر قريش ، إني قد جئت كسرى في ملكه ، وقيصر في ملكه . والنجاشي في ملكه . وإني والله ما رأيت ملكا في قوم قط مثل محمد في أصحابه ، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا ، فروا رأيكم
. [ خراش رسول الرسول إلى قريش ]

قال ابن إسحاق : وحدثني بعض أهل العلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا خراش بن أمية الخزاعي ، فبعثه إلى قريش بمكة ، وحمله على بعير له يقال له الثعلب ، ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له ، فعقروا به جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأرادوا قتله ، فمنعته الأحابيش ، فخلوا سبيله ، حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم . [ النفر القرشيون الذين أرسلتهم قريش للعدوان ثم عفا عنهم الرسول ]

قال ابن إسحاق : وقد حدثني بعض من لا أتهم عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس : أن قريشا كانوا بعثوا أربعين رجلا منهم أو خمسين رجلا ، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليصيبوا لهم من أصحابه أحدا ، فأخذوا أخذا ، فأتي بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعفا عنهم ، وخلى سبيلهم ، و قد كانوا رموا في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة والنبل . ولما كان يوم « الحديبية » إذ خرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح فثاروا إلى وجوهنا ، فدعا عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذ الله بأسماعهم - ولفظ الحاكم بأبصارهم - فقمنا إليهم فأخذناهم ،

فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «هل جئتم في عهد أحد وهل جعل لكم أحد أمانا» ؟

فقالوا : لا . فخلى سبيلهم فأنزل الله تعالى :
وهو الذي كف أيديهم عنكم [سورة الفتح 24] .


وعن أنس قال :

لما كان يوم « الحديبية » هبط على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ثمانون رجلا من أهل مكة في السلاح من قبل جبل التنعيم يريدون غرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا عليهم ، فأخذوا فعفا عنهم .

وروى عبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة قال : ذكر لنا أن رجلا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقال له ابن زنيم اطلع الثنية «يوم الحديبية » فرماه المشركون فقتلوه ، فبعث نبي الله - صلى الله عليه وسلم - خيلا ، فأتوا باثني عشر فارسا ، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «هل لكم عهد أو ذمة» ؟ قالوا : لا . فأرسلهم . عثمان رضي الله عنه رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قريش

وعن عروة قال : لما نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديبية فزعت قريش لنزوله إليهم ، فأحب أن يبعث إليهم رجلا من أصحابه ، فدعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى قريش ، فقال : يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي وقد عرفت قريش عداوتي لها ، وليس بها من بني عدي من يمنعني ، وإن أحببت يا رسول الله دخلت عليهم . فلم يقل له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا ، فقال عمر : يا رسول الله ولكني أدلك على رجل أعز بمكة مني ، وأكثر عشيرة وأمنع ، وأنه يبلغ لك ما أردت ، عثمان بن عفان .

فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عثمان فقال : «اذهب إلى قريش وأخبرهم أنا لم نأت لقتال وإنما جئنا عمارا ، وادعهم إلى الإسلام» .

وأمره أن يأتي رجالا بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات فيدخل عليهم ويبشرهم بالفتح ، ويخبرهم أن الله تعالى - وشيكا أن يظهر دينه بمكة حتى لا يستخفى فيها بالإيمان . فانطلق عثمان إلى قريش فمر عليهم ببلدح فقالوا : أين تريد ؟ فقال : بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليكم لأدعوكم إلى الإسلام ، وإلى الله جل ثناؤه ، وتدخلون في الدين كافة ، فإن الله - تعالى - مظهر دينه ومعز نبيه ، وأخرى : تكفون ويكون الذي يلي هذا الأمر منه غيركم ، فإن ظفر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذلك ما أردتم ، وإن ظفر كنتم بالخيار بين أن تدخلوا فيما دخل فيه الناس ، أو تقاتلوا وأنتم وافرون جامون . إن الحرب قد نهكتكم وأذهبت الأماثل منكم . وأخرى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبركم إنه لم يأت لقتال أحد ، إنما جاء معتمرا ، معه الهدي ، عليه القلائد ينحره وينصرف .

فقالوا : قد سمعنا ما تقول ، ولا كان هذا أبدا ، ولا دخلها علينا عنوة ، فارجع إلى صاحبك فأخبره أنه لا يصل إلينا .

ولقيه أبان بن سعيد - وأسلم بعد ذلك ، فرحب به أبان وأجاره ، وقال : لا تقصر عن حاجتك ، ثم نزل عن فرس كان عليه فحمل عثمان على السرج وردف وراءه وقال :


أقبل وأدبر لا تخف أحدا     بنو سعيد أعزة الحرم

فدخل به مكة ، فأتى عثمان أشراف قريش - رجلا رجلا - فجعلوا يردون عليه : إن محمدا لا يدخلها علينا أبدا ، ودخل على قوم مؤمنين من رجال ونساء مستضعفين بمكة فقال :

إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : قد أظلكم حتى لا يستخفى بمكة اليوم بالإيمان ،

ففرحوا بذلك ، وقالوا : اقرأ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السلام .

ولما فرغ عثمان من رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قريش قالوا له : إن شئت أن تطوف بالبيت فطف ، فقال : ما كنت لأفعل حتى يطوف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقام عثمان بمكة ثلاثا يدعو قريشا .

وقال المسلمون - وهم بالحديبية ، قبل أن يرجع عثمان - : خلص عثمان من بيننا إلى البيت فطاف به ،

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ما أظنه طاف بالبيت ونحن محصورون» ،

وقالوا :

وما يمنعه يا رسول الله وقد خلص إليه قال : «ذلك ظني به ألا يطوف بالكعبة حتى نطوف» ، وعند ابن جرير وابن أبي حاتم عن سلمة بن الأكوع - مرفوعا - «لو مكث كذا كذا سنة ما طاف حتى أطوف» فلما رجع عثمان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال المسلمون له : اشتفيت من البيت يا أبا عبد الله!! فقال عثمان : بئس ما ظننتم بي! فو الذي نفسي بيده لو مكثت مقيما بها سنة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقيم بالحديبية ما طفت حتى يطوف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولقد دعتني قريش إلى أن أطوف بالبيت فأبيت . فقالوا : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلمنا وأحسننا ظنا .

وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر أصحابه بالحراسة بالليل ، فكانوا ثلاثة يتناوبون الحراسة :

أوس بن خولي - بفتح الخاء المعجمة والواو - وعباد بن بشر ، ومحمد بن مسلمة - رضي الله عنهم - وكان محمد بن مسلمة على حرس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة من الليالي ، وعثمان بن عفان بمكة . وقد كانت قريش بعثت ليلا خمسين رجلا ، عليهم مكرز بن حفص ، وأمروهم أن يطوفوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - رجاء أن يصيبوا منهم أحدا ، أو يصيبوا منهم غرة ، فأخذهم محمد بن مسلمة ، فجاء بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأفلت مكرز فخبر أصحابه وظهر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم أنه رجل غادر ، وكان رجال من المسلمين قد دخلوا مكة بإذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم : كرز بن جابر الفهري ، وعبد الله بن سهيل بن عمرو بن عبد شمس ، وعبد الله بن حذافة السهمي ، وأبو الروم بن عمير العبدري ، وعياش بن أبي ربيعة ، وهشام بن العاص بن وائل ، وأبو حاطب بن عمرو من عبد شمس وعمير بن وهب الجمحي وحاطب بن أبي بلتعة ، وعبد الله بن أبي أمية . قد دخلوا مكة في أمان عثمان ، وقيل : سرا ، فعلم بهم فأخذوا ، وبلغ قريشا حبس أصحابهم الذين مسكهم محمد بن مسلمة ، فجاء جمع من قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حتى تراموا بالنبل والحجارة ، وأسر المسلمون من المشركين - أيضا - اثني عشر فارسا ، وقتل من المسلمين ابن زنيم - وقد أطلع الثنية من الحديبية - فرماه المشركون فقتلوه ، وبعثت قريش سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى - وأسلما بعد ذلك ، ومكرز بن حفص ،

فلما جاء سهيل ورآه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه : سهل أمركم

فقال سهيل : يا محمد إن الذي كان من حبس أصحابك وما كان من قتال من قاتلك لم يكن من رأي ذوي رأينا بل كنا له كارهين حين بلغنا ، ولم نعلم به ، وكان من سفهائنا ، فابعث إلينا بأصحابنا الذين أسرت أول مرة ، والذين أسرت آخر مرة .

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إني غير مرسلهم حتى ترسلوا أصحابي» ،

فقالوا : أنصفتنا ، فبعث سهيل ومن معه إلى قريش بالشييم - بشين معجمة مصغر - بن عبد مناف التيمي ، فبعثوا بمن كان عندهم : وهم عثمان والعشرة السابق ذكرهم - رضي الله عنهم - وأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابهم الذين أسرهم ، وقبل وصول عثمان ومن معه بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن عثمان ومن معه قد قتلوا ، فكان ذلك حين دعا إلى البيعة . [إشاعة مقتل عثمان ]

قال ابن إسحاق : فخرج عثمان إلى مكة ، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة ، أو قبل أن يدخلها ، فحمله بين يديه ، ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش ، فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به ؛ فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم : إن شئت أن تطوف بالبيت فطف ؛ فقال : ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم . واحتبسته قريش عندها ، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن عثمان بن عفان قد قتل .

التالي السابق


الخدمات العلمية