الإشارة إلى بعض الحكم التي تضمنتها هذه الهدنة

وهي أكبر وأجل من أن يحيط بها إلا الله الذي أحكم أسبابها ، فوقعت الغاية على الوجه الذي اقتضته حكمته وحمده .

فمنها : أنها كانت مقدمة بين يدي الفتح الأعظم الذي أعز الله به رسوله وجنده ، ودخل الناس به في دين الله أفواجا ، فكانت هذه الهدنة بابا له ومفتاحا ومؤذنا بين يديه ، وهذه عادة الله سبحانه في الأمور العظام التي يقضيها قدرا وشرعا أن يوطئ لها بين يديها مقدمات وتوطئات تؤذن بها وتدل عليها .

ومنها : أن هذه الهدنة كانت من أعظم الفتوح ؛ فإن الناس أمن بعضهم بعضا ، واختلط المسلمون بالكفار ، وبادءوهم بالدعوة وأسمعوهم القرآن ، وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين ، وظهر من كان مختفيا بالإسلام ، ودخل فيه في مدة الهدنة من شاء الله أن يدخل ، ولهذا سماه الله فتحا مبينا .

قال ابن قتيبة : قضينا لك قضاء عظيما . وقال مجاهد : هو ما قضى الله له بالحديبية .

وحقيقة الأمر أن الفتح - في اللغة - فتح المغلق ، والصلح الذي حصل مع المشركين بالحديبية كان مسدودا مغلقا حتى فتحه الله ، وكان من أسباب فتحه صد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت ، وكان في الصورة الظاهرة ضيما وهضما للمسلمين ، وفي الباطن عزا وفتحا ونصرا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى ما وراءه من الفتح العظيم والعز والنصر من وراء ستر رقيق ، وكان يعطي المشركين كل ما سألوه من الشروط التي لم يحتملها أكثر أصحابه ورءوسهم ، وهو صلى الله عليه وسلم يعلم ما في ضمن هذا المكروه من محبوب ( وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ) [ البقرة 216 ] .


وربما كان مكروه النفوس إلى محبوبها سببا ما مثله سبب

فكان يدخل على تلك الشروط دخول واثق بنصر الله له وتأييده ، وأن العاقبة له ، وأن تلك الشروط واحتمالها هو عين النصرة ، وهو من أكبر الجند الذي أقامه المشترطون ونصبوه لحربهم وهم لا يشعرون ، فذلوا من حيث طلبوا العز ، وقهروا من حيث أظهروا القدرة والفخر والغلبة ، وعز رسول الله صلى الله عليه وسلم وعساكر الإسلام من حيث انكسروا لله واحتملوا الضيم له وفيه ، فدار الدور وانعكس الأمر وانقلب العز بالباطل ذلا بحق ، وانقلبت الكسرة لله عزا بالله ، وظهرت حكمة الله وآياته وتصديق وعده ونصرة رسوله على أتم الوجوه وأكملها التي لا اقتراح للعقول وراءها .

ومنها : ما سببه سبحانه للمؤمنين من زيادة الإيمان والإذعان والانقياد على ما أحبوا وكرهوا ، وما حصل لهم في ذلك من الرضى بقضاء الله وتصديق موعوده ، وانتظار ما وعدوا به ، وشهود منة الله ونعمته عليهم بالسكينة التي أنزلها في قلوبهم أحوج ما كانوا إليها في تلك الحال التي تزعزع لها الجبال ، فأنزل الله عليهم من سكينته ما اطمأنت به قلوبهم وقويت به نفوسهم وازدادوا به إيمانا .

ومنها : أنه سبحانه جعل هذا الحكم الذي حكم به لرسوله وللمؤمنين سببا لما ذكره من المغفرة لرسوله ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، ولإتمام نعمته عليه ، ولهدايته الصراط المستقيم ، ونصره النصر العزيز ، ورضاه به ، ودخوله تحته ، وانشراح صدره به ، مع ما فيه من الضيم وإعطاء ما سألوه ، كان من الأسباب التي نال بها الرسول وأصحابه ذلك ، ولهذا ذكره الله سبحانه جزاء وغاية ، وإنما يكون ذلك على فعل قام بالرسول والمؤمنين عند حكمه تعالى وفتحه .

وتأمل كيف وصف - سبحانه - النصر بأنه عزيز في هذا الموطن ثم ذكر إنزال السكينة في قلوب المؤمنين في هذا الموطن الذي اضطربت فيه القلوب وقلقت أشد القلق ، فهي أحوج ما كانت إلى السكينة ، فازدادوا بها إيمانا إلى إيمانهم ، ثم ذكر سبحانه بيعتهم لرسوله وأكدها بكونها بيعة له سبحانه ، وأن يده تعالى كانت فوق أيديهم إذ كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك ، وهو رسوله ونبيه ، فالعقد معه عقد مع مرسله ، وبيعته بيعته ، فمن بايعه فكأنما بايع الله ، ويد الله فوق يده ، وإذا كان ( الحجر الأسود يمين الله في الأرض ، فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه ) فيد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بهذا من الحجر الأسود . ثم أخبر أن ناكث هذه البيعة إنما يعود نكثه على نفسه ، وأن للموفي بها أجرا عظيما ، فكل مؤمن قد بايع الله على لسان رسوله بيعة على الإسلام وحقوقه ، فناكث وموف .

ثم ذكر حال من تخلف عنه من الأعراب ، وظنهم أسوأ الظن بالله أنه يخذل رسوله وأولياءه وجنده ويظفر بهم عدوهم فلن ينقلبوا إلى أهليهم ، وذلك من جهلهم بالله وأسمائه وصفاته وما يليق به ، وجهلهم برسوله وما هو أهل أن يعامله به ربه ومولاه .

ثم أخبر سبحانه عن رضاه عن المؤمنين بدخولهم تحت البيعة لرسوله وأنه سبحانه علم ما في قلوبهم حينئذ من الصدق والوفاء وكمال الانقياد والطاعة ، وإيثار الله ورسوله على ما سواه ، فأنزل الله السكينة والطمأنينة والرضى في قلوبهم ، وأثابهم على الرضى بحكمه والصبر لأمره فتحا قريبا ومغانم كثيرة يأخذونها ، وكان أول الفتح والمغانم فتح خيبر ومغانمها ، ثم استمرت الفتوح والمغانم إلى انقضاء الدهر .

ووعدهم سبحانه مغانم كثيرة يأخذونها ، وأخبرهم أنه عجل لهم هذه الغنيمة ، وفيها قولان : أحدهما : أنه الصلح الذي جرى بينهم وبين عدوهم ، والثاني : أنها فتح خيبر وغنائمها . ثم قال ( وكف أيدي الناس عنكم ) [ الفتح : 20 ] فقيل : أيدي أهل مكة أن يقاتلوهم ، وقيل : أيدي اليهود حين هموا بأن يغتالوا من بالمدينة بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من الصحابة منها . وقيل : هم أهل خيبر وحلفاؤهم الذين أرادوا نصرهم من أسد وغطفان . والصحيح تناول الآية للجميع .

وقوله : ( ولتكون آية للمؤمنين ) قيل : هذه الفعلة التي فعلها بكم وهي كف أيدي أعدائكم عنكم مع كثرتهم ، فإنهم حينئذ كان أهل مكة ومن حولها وأهل خيبر ومن حولها وأسد وغطفان ، وجمهور قبائل العرب أعداء لهم ، وهم بينهم كالشامة ، فلم يصلوا إليهم بسوء ، فمن آيات الله سبحانه كف أيدي أعدائهم عنهم ، فلم يصلوا إليهم بسوء مع كثرتهم وشدة عداوتهم ، وتولي حراستهم وحفظهم في مشهدهم ومغيبهم ، وقيل : هي فتح خيبر ، جعلها آية لعباده المؤمنين وعلامة على ما بعدها من الفتوح ، فإن الله سبحانه وعدهم مغانم كثيرة وفتوحا عظيمة ، فعجل لهم فتح خيبر وجعلها آية لما بعدها وجزاء لصبرهم ورضاهم يوم الحديبية وشكرانا ، ولهذا خص بها وبغنائمها من شهد الحديبية . ثم قال : ( ويهديكم صراطا مستقيما ) ، فجمع لهم إلى النصر والظفر والغنائم الهداية ، فجعلهم مهديين منصورين غانمين ، ثم وعدهم مغانم كثيرة وفتوحا أخرى لم يكونوا ذلك الوقت قادرين عليها ، فقيل : هي مكة ، وقيل : هي فارس والروم ، وقيل : الفتوح التي بعد خيبر من مشارق الأرض ومغاربها . ثم أخبر سبحانه أن الكفار لو قاتلوا أولياءه ، لولى الكفار الأدبار غير منصورين ، وأن هذه سنته في عباده قبلهم ، ولا تبديل لسنته .

فإن قيل : فقد قاتلوهم يوم أحد وانتصروا عليهم ولم يولوا الأدبار ؟ قيل : هذا وعد معلق بشرط مذكور في غير هذا الموضع ، وهو الصبر والتقوى ، وفات هذا الشرط يوم أحد بفشلهم المنافي للصبر ، وتنازعهم وعصيانهم المنافي للتقوى ، فصرفهم عن عدوهم ، ولم يحصل الوعد لانتفاء شرطه .

ثم ذكر - سبحانه - أنه هو الذي كف أيدي بعضهم عن بعض من بعد أن أظفر المؤمنين بهم ؛ لما له في ذلك من الحكم البالغة التي منها : أنه كان فيهم رجال ونساء قد آمنوا وهم يكتمون إيمانهم ، لم يعلم بهم المسلمون ، فلو سلطكم عليهم لأصبتم أولئك بمعرة الجيش ، وكان يصيبكم منهم معرة العدوان والإيقاع بمن لا يستحق الإيقاع به . وذكر سبحانه حصول المعرة بهم من هؤلاء المستضعفين المستخفين بهم ؛ لأنها موجب المعرة الواقعة منهم بهم ، وأخبر سبحانه أنهم لو زايلوهم وتميزوا منهم لعذب أعداءه عذابا أليما في الدنيا ؛ إما بالقتل والأسر وإما بغيره ، ولكن دفع عنهم هذا العذاب لوجود هؤلاء المؤمنين بين أظهرهم كما كان يدفع عنهم عذاب الاستئصال ورسوله بين أظهرهم .

ثم أخبر سبحانه عما جعله الكفار في قلوبهم من حمية الجاهلية التي مصدرها الجهل والظلم التي لأجلها صدوا رسوله وعباده عن بيته ، ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم ، ولم يقروا لمحمد بأنه رسول الله مع تحققهم صدقه وتيقنهم صحة رسالته بالبراهين التي شاهدوها وسمعوا بها في مدة عشرين سنة ، وأضاف هذا الجعل إليهم وإن كان بقضائه وقدره كما يضاف إليهم سائر أفعالهم التي هي بقدرتهم وإرادتهم .

ثم أخبر - سبحانه - أنه أنزل في قلب رسوله وأوليائه من السكينة ما هو مقابل لما في قلوب أعدائه من حمية الجاهلية ، فكانت السكينة حظ رسوله وحزبه ، وحمية الجاهلية حظ المشركين وجندهم ، ثم ألزم عباده المؤمنين كلمة التقوى ، وهي جنس يعم كل كلمة يتقى الله بها ، وأعلى نوعها كلمة الإخلاص ، وقد فسرت ببسم الله الرحمن الرحيم ، وهي الكلمة التي أبت قريش أن تلتزمها ، فألزمها الله أولياءه وحزبه ، وإنما حرمها أعداءه صيانة لها عن غير كفئها ، وألزمها من هو أحق بها وأهلها ، فوضعها في موضعها ولم يضيعها بوضعها في غير أهلها ، وهو العليم بمحال تخصيصه ومواضعه .

ثم أخبر سبحانه أنه صدق رسوله رؤياه في دخولهم المسجد آمنين ، وأنه سيكون ولا بد ، ولكن لم يكن قد آن وقت ذلك في هذا العام ، والله سبحانه علم من مصلحة تأخيره إلى وقته ما لم تعلموا أنتم ، فأنتم أحببتم استعجال ذلك ، والرب تعالى يعلم من مصلحة التأخير وحكمته ما لم تعلموه ، فقدم بين يدي ذلك فتحا قريبا توطئة له وتمهيدا .

ثم أخبرهم بأنه هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، فقد تكفل الله لهذا الأمر بالتمام والإظهار على جميع أديان أهل الأرض ، ففي هذا تقوية لقلوبهم وبشارة لهم وتثبيت ، وأن يكونوا على ثقة من هذا الوعد الذي لا بد أن ينجزه ، فلا تظنوا أن ما وقع من الإغماض والقهر يوم الحديبية نصرة لعدوه ، ولا تخليا عن رسوله ودينه ، كيف وقد أرسله بدينه الحق ووعده أن يظهره على كل دين سواه .

ثم ذكر - سبحانه - رسوله وحزبه الذين اختارهم له ، ومدحهم بأحسن المدح ، وذكر صفاتهم في التوراة والإنجيل ، فكان في هذا أعظم البراهين على صدق من جاء بالتوراة والإنجيل والقرآن ، وأن هؤلاء هم المذكورون في الكتب المتقدمة بهذه الصفات المشهورة فيهم ، لا كما يقول الكفار عنهم : إنهم متغلبون طالبو ملك ودنيا ، ولهذا لما رآهم نصارى الشام وشاهدوا هديهم وسيرتهم وعدلهم وعلمهم ورحمتهم وزهدهم في الدنيا ورغبتهم في الآخرة ، قالوا : ما الذين صحبوا المسيح بأفضل من هؤلاء . وكان هؤلاء النصارى أعرف بالصحابة وفضلهم من الرافضة أعدائهم ، والرافضة تصفهم بضد ما وصفهم الله به في هذه الآية وغيرها ، و : ( من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ) [ الكهف : 17 ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية