الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه ورسوله ، وجنده وحزبه الأمين ، واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدى للعالمين من أيدي الكفار والمشركين ، وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء ، وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء ، ودخل الناس به في دين الله أفواجا ، وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجا ، خرج له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكتائب الإسلام ، وكانت صلح الحديبية مقدمة وتوطئة بين يدي هذا الفتح العظيم ، أمن الناس به وكلم بعضهم بعضا وناظره في الإسلام وتمكن من اختفى من المسلمين بمكة من إظهار دينه ، والدعوة إليه ، والمناظرة عليه ، ودخل بسببه بشر كثير في الإسلام ، ولهذا سماه الله فتحا في قوله : ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ) [ الفتح : 1 ] ، نزلت في شأن الحديبية ، فقال عمر : يا رسول الله أوفتح هو ؟ قال : " نعم " . وأعاد سبحانه وتعالى ذكر كونه فتحا ، فقال : ( لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق ) إلى قوله : ( فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا ) [ الفتح : 27 ] وهذا شأنه - سبحانه - أن يقدم بين يدي الأمور العظيمة مقدمات تكون كالمدخل إليها ، المنبهة عليها ، كما قدم بين يدي قصة المسيح ، وخلقه من غير أب ، قصة زكريا وخلق الولد له مع كونه كبيرا لا يولد لمثله ، وكما قدم بين يدي نسخ القبلة قصة البيت وبنائه وتعظيمه ، والتنويه به وذكر بانيه وتعظيمه ومدحه ، ووطأ قبل ذلك كله بذكر النسخ وحكمته المقتضية له ، وقدرته الشاملة له ، وهكذا ما قدم بين يدي مبعث رسوله - صلى الله عليه وسلم - من قصة الفيل ، وبشارات الكهان به ، وغير ذلك ، وكذلك الرؤيا الصالحة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت مقدمة بين يدي الوحي في اليقظة ، وكذلك الهجرة كانت مقدمة بين يدي الأمر بالجهاد ، ومن تأمل أسرار الشرع والقدر ، رأى من ذلك ما تبهر حكمته الألباب . وقد ذكرها الله تعالى في القرآن في غير موضع ، فقال تعالى : لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى الآية ( الحديد : 10 ) . وقال تعالى : إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ( النصر ) قال ابن عباس - رضي الله عنهما - غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوة الفتح في رمضان .

قال الزهري : وسمعت سعيد بن المسيب يقول مثل ذلك ، رواه البخاري . تنبيه

لا خلاف أن هذه الغزوة كانت في رمضان ، كما في الصحيح ، وغيره ، وعن ابن عباس قال : ابن شهاب كما عند البيهقي من طريق عقيل : لا أدري أخرج في شعبان فاستقبل رمضان ، أو خرج في رمضان بعد ما دخل ؟ ورواه البيهقي من طريق ابن أبي حفصة عن الزهري بإسناد صحيح . قال : صبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة لثلاث عشرة خلت من رمضان .

وروى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال : خرجنا مع

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح لليلتين خلتا من شهر رمضان ،
وهذا يدفع التردد الماضي ، ويعين يوم الخروج ، وقول الزهري يعين يوم الدخول ، ويعطي أنه أقام في الطريق اثني عشر يوما .

قال الحافظ : وأما ما قاله الواقدي أنه خرج لعشر خلون من رمضان فليس بقوي لمخالفته ما هو أصح منه ، قلت : قد وافق الواقدي على ذلك ابن إسحاق وغيره ، ورواه إسحاق بن راهويه بسند صحيح عن ابن عباس ، وعند مسلم أنه دخل لست عشرة ، ولأحمد لثماني عشرة ، وفي أخرى لثنتي عشرة ، والجمع بين هاتين بحمل إحداهما على ما مضى والأخرى على ما بقي ، والذي في المغازي : دخل لتسع عشرة مضت وهو محمول على الاختلاف في أول الشهر .

ووقع في أخرى : بالشك في تسع عشرة أو سبع عشرة وروى يعقوب بن سفيان من طريق الحسن عن جماعة من مشايخه : أن الفتح كان في عشرين من رمضان ، فإن ثبت حمل على أن مراده أنه وقع في العشر الأوسط قبل أن يدخل الأخير .

التالي السابق


الخدمات العلمية