دخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيت وصلاته فيه

قال ابن هشام : وحدثني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة ومعه بلال ، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخلف بلال ، فدخل عبد الله بن عمر على بلال ، فسأله : أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ولم يسأله كم صلى ، فكان ابن عمر إذا دخل البيت مشى قبل وجهه ، وجعل الباب قبل ظهره ، حتى يكون بينه وبين الجدار قدر ثلاث أذرع ، ثم يصلي ، يتوخى بذلك الموضع الذي قال له بلال .

وعند محمد بن عمر عن شيوخه : فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالكعبة فأغلقت . ولفظ الإمام مالك : فأغلقاها عليه ، وفي رواية ابن عوف : فأجاف عليهم عثمان الباب . زاد حسان بن عطية : من داخل .

وفي حديث صفية بنت شيبة عند ابن إسحاق ، فوجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في البيت حمامة من عيدان ، فكسرها بيده ، ثم طرحها .

وعند ابن أبي شيبة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، ويحيى بن عبد الرحمن ابن حاطب - رحمهما الله تعالى - قالا : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما دخل الكعبة كبر في زواياها وأرجائها ، وحمد الله تعالى ، ثم صلى ركعتين بين أسطوانتين ، قال يونس : فمكث نهارا طويلا ، ولفظ فليح : زمانا طويلا ، ولفظ جويرية : فأطال ، ولفظ ابن عوف : فمكث فيها مليا ، ولفظ أيوب : فمكث فيها ساعة . وفي رواية ابن أبي مليكة عن نافع : فوجدت شيئا فذهبت ثم جئت سريعا فوجدت النبي - صلى الله عليه وسلم - خارجا ، ولفظ سالم : فلما فتحوا الباب وكنت أول والج ، وفي رواية فليح : فتبادر الناس الدخول فسبقتهم . وفي رواية أيوب : وكنت رجلا شابا قويا فبادرت الناس فبدرتهم ، وفي رواية ابن عوف : فرقيت الدرجة فدخلت البيت ، وفي رواية مجاهد ، وابن أبي مليكة عن ابن عمر : وأجد بلالا قائما بين البابين . وفي رواية سالم : فلقيت بلالا فسألته :

زاد مالك فقلت : ما صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي رواية سالم . هل صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه ؟ قال : نعم . وفي رواية مجاهد ، وابن أبي مليكة : فقلت هل صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، في الكعبة ؟ قال : نعم ، وفي رواية العلاء بن عبد الرحمن عن ابن عمر : أنه سأل بلالا ، وأسامة وفي رواية أبي الشعثاء عن ابن عمر قال : أخبرني أسامة بن زيد أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى فيه ههنا . وفي رواية خالد بن الحرث عن ابن عوف عن مسلم ، والنسائي عن ابن عمر : فرقيت الدرجة فدخلت البيت ، فقلت أين صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قالوا : ههنا . وفي رواية جويرية .

ويونس ، وجمهور أصحاب نافع : فسألت بلالا : أين - صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : بين العمودين اليمانيين - ولفظ جويرية : المقدمين - وفي رواية مالك : جعل عمودا عن يمينه ، وعمودا عن يساره . وفي رواية : عمودا عن يمينه وعمودين عن يساره ، وجعل ثلاثة أعمدة وراءه ، وفي رواية عنه : عمودا عن يساره ، وعمودين عن يمينه . قال البيهقي : وهو الصحيح ، وفي رواية فليح : صلى بين ذينك العمودين المقدمين من السطر وكان البيت على ستة أعمدة سطرين .

صلى بين العمودين من السطر المقدم ، وجعل باب البيت خلف ظهره ، وعند المكان الذي صلى فيه مرمرة حمراء ، وفي رواية موسى بن عقبة عند البخاري ، ومالك في رواية ابن قاسم عن النسائي عن نافع : أن بين موقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين الجدار نحو ثلاثة أذرع . وفي رواية ابن مهدي عند أبي داود ، وابن وهب عند الدارقطني في الغزوات - كلاهما عن مالك ، وهشام ، وابن سعد عن أبي عوانة عن نافع : صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبينه وبين الجدار ثلاثة أذرع .

قال الحافظ أبو الفضل العراقي - رحمه الله تعالى - ملخصا من طرق الأحاديث - : أن مصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من البيت أن الداخل من الباب يسير تلقاء وجهه حين يدخل إلى أن يجعل بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع أو ذراعين أو ما بينهما لاختلاف الطرق . قال : ولا ينبغي أن يجعل بينه وبين الجدار أقل من ثلاثة أذرع ، فإن كان الواقع أنه ثلاثة أذرع فقد صادف مصلاه ، وإن كان ذراعين فقد وقع وجه المصلي وذراعاه في مكان قدمي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا أولى من المتقدم . قال الحافظ : لا يعارض إثبات أسامة في رواية ابن عمر عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في البيت ما رواه ابن عباس عن أسامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل في البيت لإمكان الجمع بينهما ، لأن أسامة حين أثبتها اعتمد في ذلك على غيره ، وحيث نفاها أراد ما في علمه بكونه لم يره - صلى الله عليه وسلم - حين صلى ، وقال الحافظ في موضع آخر : تعارضت الرواية عن أسامة في ذلك فتترجح رواية بلال من جهة أنه مثبت وغيره ناف ، ومن جهة أنه لم يختلف عليه في الإثبات ، واختلف على من نفى .

وقال الإمام النووي وغيره : يجمع بين إثبات بلال ، ونفي أسامة بأنهم لما دخلوا الكعبة اشتغلوا بالدعاء ، فرأى أسامة النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو ، فاشتغل أسامة بالدعاء في ناحية ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - في ناحية ، ثم صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرآه بلال لقربه منه ولم يره أسامة لبعده منه واشتغاله بالدعاء ، ولأن بإغلاق الباب تكون ظلمة مع احتمال أن يحجبه بعض الأعمدة ، فنفاها عملا بظنه .

وقال الإمام المحب الطبري : يحتمل أن يكون أسامة غاب عنه بعد دخوله لحاجة فلم يشهد صلاته - انتهى . ويشهد له ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده بإسناد جيد رجاله ثقات عن ابن أبي ذؤيب عن عبد الرحمن بن مهران عن عمير مولى ابن عباس عن أسامة قال :

«دخلت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة فرأى صورا ، فدعا بدلو من ماء ، فأتيته به ، فضرب به الصور” ، قال القرطبي فلعله [استصحب النفي] بسرعة عوده انتهى قلت : هو مفرع على أن هذه

القصة وقعت عام الفتح ، فإن لم يكن فقد روى عمر بن شبة في كتاب مكة من طريق علي بن بذيمة بالموحدة ، وزن عظيمة التابعي ، قال : «دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكعبة . ودخل معه بلال ، وجلس أسامة على الباب ، فلما خرج وجد أسامة قد احتبى ، فأخذ بحبوته فحلها” .

الحديث فلعله احتبى فاستراح فنعس ، فلم يشاهد صلاته ، فلما سئل عنها نفاها مستصحبا للنفي ، لقصر زمن احتبائه ، وفي كل ذلك إنما نفى رؤيته ، لا ما في نفس الأمر . وبعض العلماء حمل الصلاة المثبتة على اللغوية ، والمنفية على الشرعية ، ويرد هذا الحمل ما تقدم في بعض طرقه الصحيحة : أنه صلى ركعتين ، فظهر أن المراد الشرعية لا مجرد الدعاء . وقال المهلب شارح البخاري : يحتمل أن يكون دخول البيت وقع مرتين . صلى في إحداهما ولم يصل في الأخرى ، وقال ابن حبان : الأشبه عندي في الجمع ، أن يجعل الخبران في وقعتين ، فيقال ، لما دخل الكعبة في الفتح صلى فيها على ما رواه ابن عمر عن بلال ، ويجعل نفي ابن عباس الصلاة في الكعبة في حجته التي حج فيها ، لأن ابن عباس نفاها وأسند ذلك إلى أسامة وأخيه الفضل ، وابن عمر أثبتها ، وأسند ذلك إلى أسامة ، وإلى بلال وأسامة أيضا ، فإذا حمل الخبر على ما وصفنا بطل التعارض . قال الحافظ : وهو جمع حسن لكن تعقبه النووي بأنه لا خلاف أنه - صلى الله عليه وسلم - دخل يوم الفتح لا في حجة الوداع ، ويشهد له ما رواه الأزرقي عن سفيان بن عيينة عن غير واحد من أهل العلم : أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما دخل الكعبة مرة واحدة عام الفتح ، ثم حج فلم يدخلها ، وإذا كان الأمر كذلك فلا يمتنع أن يكون دخلها عام الفتح مرتين ويكون المراد بالواحدة التي في خبر ابن عيينة واحدة السفر لا الدخول ، وقد وقع عند الدارقطني من طريق ضعيفة ما يشهد لهذا الجمع . قلت : قال الدارقطني في سننه : واعتمد القاضي عز الدين بن جماعة ذلك . واستدل له أيضا بأن الإمام أحمد قال في مسنده : حدثنا هشيم قال : أخبرنا عبد الملك عن عطاء ، قال : قال أسامة بن زيد : دخلت مع النبي - صلى الله عليه وسلم البيت فجلس فحمد الله تعالى وأثنى عليه وهلله وكبره ، وخرج ولم يصل ، ثم دخلت معه في اليوم الثاني ، فقام ، ودعا ثم صلى ركعتين ، ثم خرج فصلى ركعتين خارج البيت مستقبل وجه الكعبة ، ثم انصرف ، فقال : «هذه القبلة” ورواه أحمد بن منيع . قلت : لم أقف على هذا الحديث في مجمع الزوائد للهيثمي ، ولا في إتحاف المهرة للأبوصيري ، لا في كتاب الصلاة ، ولا في كتاب الحج فالله أعلم . والذي

في مجمع الزوائد عن ابن عباس قال : دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - الكعبة ، فصلى بين الساريتين ركعتين ، ثم خرج وصلى بين الباب وبين الحجر ركعتين ، ثم قال : «هذه القبلة” ثم دخل مرة أخرى ، فقام يدعو ولم يصل . رواه الطبراني في الكبير ،

قال الهيثمي : فيه أبو مريم ، روى عن صغار التابعين ، ولم أعرفه ، وبقية رجاله موثقون ، وفي بعضهم كلام .

وروى الأزرقي عن عبد المجيد بن عبد العزيز عن أبيه قال : بلغني أن الفضل ابن عباس دخل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ - أي يوم الفتح - فقال : لم أره صلى فيها ، قال أبي : وذلك فيما بلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعانه في حاجة فجاء وقد صلى ولم يره .قال عبد المجيد : قال أبي ، وذلك أنه بعثه فجاء بذنوب من ماء زمزم يطمس به الصور التي في الكعبة ، فلذلك لم يره صلى . قلت : وأيضا أنه - صلى الله عليه وسلم - أرسله وأسامة في ذلك - كما تقدم في أسامة - واعتمد الإمام تقي الدين الفاسي في تاريخه من هذه الأجوبة ما رواه أبو داود الطيالسي عن أسامة ، وتعقب ما سواه بكلام نفيس جدا فراجعه فإنك لا تجده في غير كتابه ، وذكره هنا ليس من غرضنا . وقد تقدم أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى في الكعبة ، وأنه جعل عمودين عن يساره وعمودا عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه ، وفي رواية جعل عمودا عن يساره وعمودين عن يمينه وفي أخرى عمودا عن يساره وعمودا عن يمينه وفي رواية بين العمودين اليمانيين ، وفي أخرى بين العمودين تلقاء وجهه ، وبين العمودين المقدمين ، قال المحب الطبري في الأحكام الكبرى : وهذا يؤيد رواية من روى أنه جعل عمودين عن يمينه وعمودا عن يساره لأن الباب قريب من الحجر الأسود ، جانح إلى جهة اليمين ، ويفتح في جهة المشرق فإذا دخل منه وصلى تلقاء وجهه بين العمودين المقدمين اليمانيين والبيت يومئذ على ستة أعمدة فقد جعل عمودين عن يمينه وعمودا عن يساره ، وثلاثة أعمدة وراءه ، وصلى إلى جهة المغرب ، وقوله اليمانيين قد يشكل فإنها ثلاثة صف وجعل اثنين منها يمانيين ليس بأولى من جعلهما شاميين ، والجواب : أنه إنما جعل اثنين منهما يمانيين لأن مقر الثلاثة بصفة يماني وبصفة شامي ، فمن وقف بين المتمحض يمانيا وبين المشترك بين اليمن والشام جاز أن يقال فيه : وقف بين اليمانيين باعتبار ما نسب منه إلى اليمن تجوزا ومن وقف بين المتمحض شاميا وبين المشترك جاز أن يقال فيه : وقف بين الشاميين لما ذكرناه ، أو تقول لما وقف بينهما كان هو إلى جهة اليمن أقرب ، فأطلق عليهما يمانيين اعتبارا به ، والأول أظهر ، ولا تضاد بين هذا وبين قوله عمودا عن يمينه وعمودا عن يساره ، فإن من ضرورة جعل عمودين عن يمينه أن يكون عمودا عن يمينه والآخر مسكوتا عنه ، وليس في اللفظ ما ينفيه ، وقال الحافظ : ليس بين رواية : جعل عمودا عن يمينه وعمودا عن يساره مخالفة ، لكن قوله في رواية مالك : وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة مشكل ، لأنه يشعر بكون ما عن يمينه أو يساره كان اثنين ، ويمكن الجمع بين الروايتين بأنه حيث ثنى أشار إلى ما كان عليه البيت في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وحيث أفرد أشار إلى ما صار إليه بعد ذلك ، ويرشد إلى ذلك .

قوله : وكان البيت يومئذ ، لأن فيه إشعارا بأنه تغير عن هيئته الأولى . قال الكرماني : لفظ العمود جنس يشمل الواحد والاثنين فهو مجمل بينته رواية «وعمودين” ويحتمل أن يقال : لم تكن الأعمدة الثلاثة على سمت واحد ، بل اثنان على سمت ، والثالث على غير سمتهما ، ولفظ المقدمين في الحديث السابق مشعر به قال الحافظ : ويؤيده رواية مجاهد عن ابن عمر عند البخاري في باب «واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى” ، «فإن فيها بين الساريتين اللتين عن يسار الداخل” وهو صريح في أنه كان هناك عمودان على اليسار ، وأنه صلى بينهما ، فيحتمل أنه كان ثم عمود آخر عن اليمين ، لكنه بعيد أو على غير سمت العمودين فيصح قول من قال :

جعل عن يمينه عمودين ، وقول من قال : جعل عمودا عن يمينه ، وجوز الكرماني احتمالا آخر ، وهو أن يكون هناك ثلاثة أعمدة مصطفة ، فصلى إلى جنب الأوسط فمن قال : جعل عمودا عن يمينه وعمودا عن يساره لم يعتبر الذي صلى إلى جنبه ، ومن قال : عمودين اعتبره وجمع بعض المتأخرين باحتمال تعدد الواقعة ، وهو بعيد لاتحاد مخرج الحديث ، وقد جزم البيهقي بترجيح رواية أنه جعل عمودين عن يمينه وعمودا عن يساره . وقال المحب الطبري في صفوة القرى إنه الأظهر .

و: لا خلاف في دخوله - صلى الله عليه وسلم - الكعبة يوم الفتح ، وقيل أنه دخل في ثاني الفتح ، وذكر بعضهم أنه دخلها في عمرة القضية ، والصحيح خلافه ، فقد قال البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - إنه لم يدخلها ، وذكر بعضهم أنه دخلها في عمرة القضية وحجة الوداع ، وسيأتي هناك تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية