خطبته - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح

روى الإمام أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجة عن عبد الله بن عمر بن الخطاب والبخاري في صحيحه عن مجاهد . وابن أبي شيبة وابن إسحاق عن صفية بنت شيبة ، والبيهقي عن عبد الله بن عمر ، وابن أبي شيبة عن عبد الله بن عبيدة قالوا : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما خرج من البيت استكف له الناس ، وأشرف على الناس وقد ليط بهم حول الكعبة - وهم جلوس - قام على بابه فقال : «لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، صدق وعده” ولفظ الإمام أحمد ، ومحمد بن عمر : «الحمد لله الذي صدق وعده ، ثم اتفقوا «ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، يا معشر قريش ماذا تقولون ؟ ماذا تظنون ؟ ” قالوا : نقول خيرا ونظن خيرا ، نبي كريم ، وأخ كريم ، وابن أخ كريم ، وقد قدرت . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «فإني أقول كما قال أخي يوسف : لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ؟ [يوسف 92] «اذهبوا فأنتم الطلقاء” فخرجوا كأنما نشروا من القبور فدخلوا في الإسلام ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ألا إن كل ربا في الجاهلية أو دم أو مأثرة أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين - وأول دم أضعه دم ربيعة بن الحارث إلا سدانة البيت وسقاية الحاج ، ألا وفي قتيل العصا والسوط والخطأ شبه العمد الدية مغلظة مائة ناقة ، منها أربعون في بطونها أولادها ، ألا وإن الله تعالى - قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتكبرها بآبائها ، كلكم لآدم وآدم من تراب” . ثم تلا هذه الآية : يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير [الحجرات 13] «يا أيها الناس!! الناس رجلان ، فبر تقي كريم وكافر شقي هين على الله ، ألا إن الله - تعالى - حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض ، ووضع هذين الأخشبين ، فهي حرام بحرام الله ، لم تحل لأحد كان قبلي ، ولن تحل لأحد كائن بعدي ، لم تحل لي إلا ساعة من نهار يقصرها - صلى الله عليه وسلم - بيده هكذا - ولا ينفر صيدها ، ولا يعضد عضاهها ، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد ، ولا يختلى خلاها” فقال العباس ، وكان شيخا مجربا : إلا الإذخر يا رسول الله فإنه لا بد لنا منه - للقين وظهور البيوت ، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساعة ثم قال : «إلا الإذخر فإنه حلال ، ولا وصية لوارث ، وإن الولد للفراش وللعاهر الحجر ، ولا يحل لامرأة أن تعطي من مال زوجها إلا بإذن زوجها ، والمسلم أخو المسلم ، والمسلمون إخوة ، والمسلمون يد واحدة على من سواهم ، تتكافأ دماؤهم ، وهم يرد عليهم أقصاهم ، ويعقل عليهم أدناهم ، ومشدهم على مضعفهم ومثريهم على قاعدهم ، ولا يقتل مسلم بكافر ، ولا ذو عهد في عهده ، ولا يتوارث أهل ملتين مختلفتين ، ولا جلب ولا جنب ، ولا تؤخذ صدقات المسلمين إلا في بيوتهم وبأفنيتهم ، ولا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها . والبينة على من ادعى ، واليمين على من أنكر ، ولا تسافر امرأة مسيرة ثلاث إلا مع ذي محرم ، ولا صلاة بعد العصر ، وبعد الصبح ، وأنهاكم عن صيام يومين يوم الأضحى ويوم الفطر ، وعن لبستين ألا يحتبي أحدكم في ثوب واحد يفضي بعورته إلى السماء ، وألا يشتمل الصماء ، فقام رجل فقال : يا رسول الله إني قد عاهرت في الجاهلية ، فقال : من عاهر بامرأة لا يملكها - أو أمة قوم آخرين لا يملكها - ثم ادعى ولده بعد ذلك فإنه لا يجوز له ، ولا يرث ولا يورث - ولا أخالكم إلا قد عرفتموها يا معشر المسلمين كفوا السلاح إلا خزاعة ، عن بني بكر من ضحوة نهار الفتح إلى صلاة العصر منه - فخبطوهم ساعة - وهي الساعة التي أحلت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم تحل لأحد قبله ، ثم قال لهم : «كفوا السلاح فقام أبو شاة فقال : اكتب لي يا رسول الله ، فقال «اكتبوا لأبي شاة ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم” . وبهذا الحديث وأمثاله استدل من ذهب إلى أن مكة فتحت عنوة ، كما ذهب إليه جمهور أهل العلم ، ولا يعرف في ذلك خلاف إلا عن الشافعي وأحمد في أحد قوليه ، وسياق القصة أوضح شاهد لمن تأمله لقول الجمهور ، ولما استهجن أبو حامد الغزالي القول بأنها فتحت صلحا ، حكى قول الشافعي أنها فتحت عنوة في " وسيطه " ، وقال : هذا مذهبه .

قال أصحاب الصلح : لو فتحت عنوة ، لقسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الغانمين كما قسم خيبر ، وكما قسم سائر الغنائم من المنقولات ، فكان يخمسها ويقسمها ، قالوا : ولما استأمن أبو سفيان لأهل مكة لما أسلم فأمنهم كان هذا عقد صلح معهم ، قالوا : ولو فتحت عنوة لملك الغانمون رباعها ودورها ، وكانوا أحق بها من أهلها ، وجاز إخراجهم منها ، فحيث لم يحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها بهذا الحكم بل لم يرد على المهاجرين دورهم التي أخرجوا منها ، وهي بأيدي الذين أخرجوهم وأقرهم على بيع الدور وشرائها وإجارتها وسكناها ، والانتفاع بها ، وهذا مناف لأحكام فتوح العنوة ، وقد صرح بإضافة الدور إلى أهلها ، فقال : ( من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن دخل داره فهو آمن ) .

قال أرباب العنوة : لو كان قد صالحهم لم يكن لأمانه المقيد بدخول كل واحد داره وإغلاقه بابه وإلقائه سلاحه فائدة ، ولم يقاتلهم خالد بن الوليد حتى قتل منهم جماعة ، ولم ينكر عليه ، ولما قتل مقيس بن صبابة وعبد الله بن خطل ومن ذكر معهما ، فإن عقد الصلح لو كان قد وقع لاستثني فيه هؤلاء قطعا ، ولنقل هذا وهذا ، ولو فتحت صلحا ، لم يقاتلهم ، وقد قال : ( فإن أحد ترخص بقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم ) ، ومعلوم أن هذا الإذن المختص برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما هو الإذن في القتال ، لا في الصلح ، فإن الإذن في الصلح عام .

وأيضا فلو كان فتحها صلحا ، لم يقل : إن الله قد أحلها له ساعة من نهار ، فإنها إذا فتحت صلحا ، كانت باقية على حرمتها ، ولم تخرج بالصلح عن الحرمة ، وقد أخبر بأنها في تلك الساعة لم تكن حراما ، وأنها بعد انقضاء ساعة الحرب عادت إلى حرمتها الأولى .

وأيضا فإنها لو فتحت صلحا لم يعبئ جيشه : خيالتهم ورجالتهم ميمنة وميسرة ، ومعهم السلاح ، وقال لأبي هريرة : ( اهتف لي بالأنصار " ، فهتف بهم فجاءوا ، فأطافوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال " أترون إلى أوباش قريش وأتباعهم " ، ثم قال بيديه إحداهما على الأخرى : " احصدوهم حصدا حتى توافوني على الصفا " ، حتى قال أبو سفيان : يا رسول الله أبيحت خضراء قريش ، لا قريش بعد اليوم . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من أغلق بابه فهو آمن ) وهذا محال أن يكون مع الصلح ، فإن كان قد تقدم صلح - وكلا - فإنه ينتقض بدون هذا .

وأيضا فكيف يكون صلحا ، وإنما فتحت بإيجاف الخيل والركاب ، ولم يحبس الله خيل رسوله وركابه عنها ، كما حبسها يوم صلح الحديبية ، فإن ذلك اليوم كان يوم الصلح حقا ، فإن القصواء لما بركت به قالوا : خلأت القصواء قال : ( ما خلأت ، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل ) ثم قال : ( والله لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمة من حرمات الله إلا أعطيتهموها ) .

وكذلك جرى عقد الصلح بالكتاب والشهود ، ومحضر ملإ من المسلمين والمشركين ، والمسلمون يومئذ ألف وأربعمائة ، فجرى مثل هذا الصلح في يوم الفتح ولا يكتب ولا يشهد عليه ، ولا يحضره أحد ، ولا ينقل كيفيته والشروط فيه ، هذا من الممتنع البين امتناعه ، وتأمل قوله ( إن الله حبس عن مكة الفيل ، وسلط عليها رسوله والمؤمنين ) كيف يفهم منه أن قهر رسوله وجنده الغالبين لأهلها أعظم من قهر الفيل الذي كان يدخلها عليهم عنوة ، فحبسه عنهم ، وسلط رسوله والمؤمنين عليهم ، حتى فتحوها عنوة بعد القهر وسلطان العنوة ، وإذلال الكفر وأهله ، وكان ذلك أجل قدرا ، وأعظم خطرا ، وأظهر آية وأتم نصرة ، وأعلى كلمة من أن يدخلهم تحت رق الصلح ، واقتراح العدو وشروطهم ، ويمنعهم سلطان العنوة وعزها وظفرها في أعظم فتح فتحه على رسوله ، وأعز به دينه ، وجعله آية للعالمين .

قالوا : وأما قولكم : إنها لو فتحت عنوة لقسمت بين الغانمين ، فهذا مبني على أن الأرض داخلة في الغنائم التي قسمها الله سبحانه بين الغانمين بعد تخميسها ، وجمهور الصحابة والأئمة بعدهم على خلاف ذلك ، وأن الأرض ليست داخلة في الغنائم التي تجب قسمتها ، وهذه كانت سيرة الخلفاء الراشدين ، فإن بلالا وأصحابه لما طلبوا من عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يقسم بينهم الأرض التي افتتحوها عنوة ، وهي الشام وما حولها ، وقالوا له خذ خمسها واقسمها ، فقال عمر : هذا غير المال ، ولكن أحبسه فيئا يجري عليكم وعلى المسلمين ، فقال بلال وأصحابه رضي الله عنهم : اقسمها بيننا ، فقال عمر : ( اللهم اكفني بلالا وذويه ) فما حال الحول ومنهم عين تطرف ، ثم وافق سائر الصحابة - رضي الله عنهم - عمر - رضي الله عنه - على ذلك ، وكذلك جرى في فتوح مصر والعراق ، وأرض فارس ، وسائر البلاد التي فتحت عنوة لم يقسم منها الخلفاء الراشدون قرية واحدة .

ولا يصح أن يقال : إنه استطاب نفوسهم ووقفها برضاهم ، فإنهم قد نازعوه في ذلك ، وهو يأبى عليهم ، ودعا على بلال وأصحابه - رضي الله عنهم - وكان الذي رآه وفعله عين الصواب ومحض التوفيق ، إذ لو قسمت لتوارثها ورثة أولئك وأقاربهم ، فكانت القرية والبلد تصير إلى امرأة واحدة ، أو صبي صغير ، والمقاتلة لا شيء بأيديهم ، فكان في ذلك أعظم الفساد وأكبره ، وهذا هو الذي خاف عمر رضي الله عنه منه ، فوفقه الله سبحانه لترك قسمة الأرض ، وجعلها وقفا على المقاتلة ، تجري عليهم فيئا حتى يغزو منها آخر المسلمين ، وظهرت بركة رأيه ويمنه على الإسلام وأهله ، ووافقه جمهور الأئمة . واختلفوا في كيفية إبقائها بلا قسمة ، فظاهر مذهب الإمام أحمد وأكثر نصوصه على أن الإمام مخير فيها تخيير مصلحة ، لا تخيير شهوة ، فإن كان الأصلح للمسلمين قسمتها قسمها ، وإن كان الأصلح أن يقفها على جماعتهم وقفها ، وإن كان الأصلح قسمة البعض ووقف البعض فعله ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل الأقسام الثلاثة ، فإنه قسم أرض قريظة والنضير ، وترك قسمة مكة ، وقسم بعض خيبر ، وترك بعضها لما ينوبه من مصالح المسلمين .

وعن أحمد رواية ثانية ، أنها تصير وقفا بنفس الظهور والاستيلاء عليها من غير أن ينشئ الإمام وقفها ، وهي مذهب مالك .

وعنه رواية ثالثة : أنه يقسمها بين الغانمين كما يقسم بينهم المنقول ، إلا أن يتركوا حقوقهم منها ، وهي مذهب الشافعي .

وقال أبو حنيفة : الإمام مخير بين القسمة وبين أن يقر أربابها فيها بالخراج ، وبين أن يجليهم عنها وينفذ إليها قوما آخرين يضرب عليهم الخراج .

وليس هذا الذي فعل عمر - رضي الله عنه - بمخالف للقرآن ، فإن الأرض ليست داخلة في الغنائم التي أمر الله بتخميسها وقسمتها ، ولهذا قال عمر : إنها غير المال ، ويدل عليه أن إباحة الغنائم لم تكن لغير هذه الأمة ، بل هو من خصائصها ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق على صحته : ( وأحلت لي الغنائم ، ولم تحل لأحد قبلي ) وقد أحل الله سبحانه الأرض التي كانت بأيدي الكفار لمن قبلنا من أتباع الرسل ، إذا استولوا عليها عنوة ، كما أحلها لقوم موسى ، فلهذا قال موسى لقومه ( ياقوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين ) [ المائدة : 21 ] فموسى وقومه قاتلوا الكفار ، واستولوا على ديارهم وأموالهم ، فجمعوا الغنائم ، ثم نزلت النار من السماء فأكلتها ، وسكنوا الأرض والديار ولم تحرم عليهم ، فعلم أنها ليست من الغنائم ، وأنها لله يورثها من يشاء .

وأما مكة ، فإن فيها شيئا آخر يمنع من قسمتها ، ولو وجبت قسمة ما عداها من القرى ، وهي أنها لا تملك ، فإنها دار النسك ، ومتعبد الخلق ، وحرم الرب تعالى ، الذي جعله للناس سواء العاكف فيه والباد ، فهي وقف من الله على العالمين ، وهم فيها سواء ( ومنى مناخ من سبق ) قال تعالى : ( إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والبادي ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) [ الحج : 25 ] ، والمسجد الحرام هنا ، المراد به الحرم كله كقوله تعالى : ( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) [ التوبة : 28 ] ، فهذا المراد به الحرم كله ، وقوله سبحانه : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ) [ الإسراء : 1 ] ، وفي الصحيح : إنه ( أسري به من بيت أم هانئ ) وقال تعالى : ( ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ) [ البقرة : 196 ] ، وليس المراد به حضور نفس موضع الصلاة اتفاقا ، وإنما هو حضور الحرم والقرب منه ، وسياق آية الحج تدل على ذلك فإنه قال : ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) وهذا لا يختص بمقام الصلاة قطعا ، بل المراد به الحرم كله ، فالذي جعله للناس سواء العاكف فيه والباد هو الذي توعد من صد عنه ، ومن أراد الإلحاد بالظلم فيه ، فالحرم ومشاعره كالصفا والمروة ، والمسعى ومنى ، وعرفة ، ومزدلفة ، لا يختص بها أحد دون أحد ، بل هي مشتركة بين الناس ، إذ هي محل نسكهم ومتعبدهم فهي مسجد من الله ، وقفه ووضعه لخلقه ، ولهذا امتنع النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبنى له بيت بمنى ، يظله من الحر ، وقال : ( منى مناخ من سبق ) .

ولهذا ذهب جمهور الأئمة من السلف والخلف إلى أنه لا يجوز بيع أراضي مكة ، ولا إجارة بيوتها ، هذا مذهب مجاهد وعطاء في أهل مكة ، ومالك في أهل المدينة ، وأبي حنيفة في أهل العراق ، وسفيان الثوري ، والإمام أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه .

وروى الإمام أحمد رحمه الله ، عن علقمة بن نضلة ، قال : ( كانت رباع مكة تدعى السوائب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر ، من احتاج سكن ، ومن استغنى أسكن ) .

وروي أيضا عن عبد الله بن عمر : ( من أكل أجور بيوت مكة ، فإنما يأكل في بطنه نار جهنم ، رواه الدارقطني مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه ( إن الله حرم مكة ، فحرام بيع رباعها وأكل ثمنها .

وقال الإمام أحمد : حدثنا معمر ، عن ليث ، عن عطاء وطاوس ومجاهد ، أنهم قالوا : يكره أن تباع رباع مكة أو تكرى بيوتها .

وذكر الإمام أحمد عن القاسم بن عبد الرحمن ، قال : ( من أكل من كراء بيوت مكة ، فإنما يأكل في بطنه نارا ) .

وقال أحمد : حدثنا هشيم ، حدثنا حجاج عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمر ، قال نهي عن إجارة بيوت مكة وعن بيع رباعها .

وذكر عن عطاء ، قال : نهي عن إجارة بيوت مكة .

وقال أحمد : حدثنا إسحاق بن يوسف ، قال : حدثنا عبد الملك قال : كتب عمر بن عبد العزيز إلى أمير أهل مكة ينهاهم عن إجارة بيوت مكة ، وقال إنه حرام .

وحكى أحمد عن عمر أنه نهى أن يتخذ أهل مكة للدور أبوابا ، لينزل البادي حيث شاء ، وحكى عن عبد الله بن عمر ، عن أبيه أنه نهى أن تغلق أبواب دور مكة ، فنهى من لا باب لداره أن يتخذ لها بابا ، ومن لداره باب أن يغلقه ، وهذا في أيام الموسم .

قال المجوزون للبيع والإجارة : الدليل على جواز ذلك كتاب الله وسنة رسوله ، وعمل أصحابه وخلفائه الراشدين . قال الله تعالى : ( للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم ) [ الحشر : 8 ] ، وقال ( فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم ) [ آل عمران : 195 ] ، وقال ( إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم ) [ الممتحنة : 9 ] فأضاف الدور إليهم وهذه إضافة تمليك ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد قيل له : أين تنزل غدا بدارك بمكة ؟ فقال : ( وهل ترك لنا عقيل من رباع ) ولم يقل : إنه لا دار لي ، بل أقرهم على الإضافة وأخبر أن عقيلا استولى عليها ، ولم ينزعها من يده ، وإضافة دورهم إليهم في الأحاديث أكثر من أن تذكر كدار أم هانئ ، ودار خديجة ، ودار أبي أحمد بن جحش

وغيرها ، وكانوا يتوارثونها كما يتوارثون المنقول ؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( وهل ترك لنا عقيل من منزل ) وكان عقيل هو ورث دور أبي طالب ، فإنه كان كافرا ، ولم يرثه علي رضي الله عنه لاختلاف الدين بينهما ، فاستولى عقيل على الدور . ولم يزالوا قبل الهجرة وبعدها ، بل قبل المبعث وبعده ، من مات ورثته داره إلى الآن ، وقد باع صفوان بن أمية دارا لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بأربعة آلاف درهم فاتخذها سجنا ، وإذا جاز البيع والميراث فالإجارة أجوز وأجوز ، فهذا موقف أقدام الفريقين كما ترى ، وحججهم في القوة والظهور لا تدفع ، وحجج الله وبيناته لا يبطل بعضها بعضا ؛ بل يصدق بعضها بعضا ، ويجب العمل بموجبها كلها ، والواجب اتباع الحق أين كان .

فالصواب القول بموجب الأدلة من الجانبين ، وأن الدور تملك ، وتوهب ، وتورث وتباع ، ويكون نقل الملك في البناء لا في الأرض والعرصة ، فلو زال بناؤه لم يكن له أن يبيع الأرض ، وله أن يبنيها ويعيدها كما كانت ، وهو أحق بها يسكنها ، ويسكن فيها من شاء ، وليس له أن يعاوض على منفعة السكنى بعقد الإجارة ، فإن هذه المنفعة إنما يستحق أن يقدم فيها على غيره ويختص بها لسبقه وحاجته ، فإذا استغنى عنها لم يكن له أن يعاوض عليها ، كالجلوس في الرحاب والطرق الواسعة ، والإقامة على المعادن وغيرها من المنافع والأعيان المشتركة التي من سبق إليها فهو أحق بها ما دام ينتفع ، فإذا استغنى لم يكن له أن يعاوض ، وقد صرح أرباب هذا القول بأن البيع ونقل الملك في رباعها إنما يقع على البناء لا على الأرض ، ذكره أصحاب أبي حنيفة .

فإن قيل : فقد منعتم الإجارة ، وجوزتم البيع ، فهل لهذا نظير في الشريعة ، والمعهود في الشريعة أن الإجارة أوسع من البيع ، فقد يمتنع البيع ، وتجوز الإجارة ، كالوقف والحر ، فأما العكس فلا عهد لنا به ؟ قيل : كل واحد من البيع والإجارة عقد مستقل غير مستلزم للآخر في جوازه وامتناعه ، وموردهما مختلف ، وأحكامهما مختلفة ، وإنما جاز البيع ؛ لأنه وارد على المحل الذي كان البائع أخص به من غيره ، وهو البناء ، وأما الإجارة فإنما ترد على المنفعة ، وهي مشتركة ، وللسابق إليها حق التقدم دون المعاوضة ، فلهذا أجزنا البيع دون الإجارة ، فإن أبيتم إلا النظير ، قيل هذا المكاتب يجوز لسيده بيعه ، ويصير مكاتبا عند مشتريه ، ولا يجوز له إجارته إذ فيها إبطال منافعه وأكسابه التي ملكها بعقد الكتابة ، والله أعلم .

على أنه لا يمنع البيع ، وإن كانت منافع أرضها ورباعها مشتركة بين المسلمين ، فإنها تكون عند المشتري كذلك مشتركة المنفعة إن احتاج سكن وإن استغنى أسكن ، كما كانت عند البائع ، فليس في بيعها إبطال اشتراك المسلمين في هذه المنفعة ، كما أنه ليس في بيع المكاتب إبطال ملكه لمنافعه التي ملكها بعقد المكاتبة ، ونظير هذا جواز بيع أرض الخراج التي وقفها عمر رضي الله عنه على الصحيح الذي استقر الحال عليه من عمل الأمة قديما وحديثا ، فإنها تنتقل إلى المشتري خراجية كما كانت عند البائع ، وحق المقاتلة إنما هو في خراجها ، وهو لا يبطل بالبيع ، وقد اتفقت الأمة على أنها تورث ، فإن كان بطلان بيعها لكونها وقفا ، فكذلك ينبغي أن تكون وقفيتها مبطلة لميراثها ، وقد نص أحمد على جواز جعلها صداقا في النكاح ، فإذا جاز نقل الملك فيها بالصداق والميراث والهبة جاز البيع فيها قياسا وعملا وفقها . والله أعلم .

فإذا كانت مكة قد فتحت عنوة ، فهل يضرب الخراج على مزارعها كسائر أرض العنوة ، وهل يجوز لكم أن تفعلوا ذلك أم لا ؟ قيل في هذه المسألة قولان لأصحاب العنوة :

أحدهما : المنصوص المنصور الذي لا يجوز القول بغيره ، أنه لا خراج على مزارعها وإن فتحت عنوة ، فإنها أجل وأعظم من أن يضرب عليها الخراج ، لا سيما والخراج هو جزية الأرض ، وهو على الأرض كالجزية على الرءوس ، وحرم الرب أجل قدرا وأكبر من أن تضرب عليه جزية ، ومكة بفتحها عادت إلى ما وضعها الله عليه من كونها حرما آمنا يشترك فيه أهل الإسلام ، إذ هو موضع مناسكهم ومتعبدهم وقبلة أهل الأرض .

والثاني - وهو قول بعض أصحاب أحمد - أن على مزارعها الخراج ، كما هو على مزارع غيرها من أرض العنوة ، وهذا فاسد مخالف لنص أحمد رحمه الله ومذهبه ، ولفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين من بعده رضي الله عنهم ، فلا التفات إليه ، والله أعلم .

وقد بنى بعض الأصحاب تحريم بيع رباع مكة على كونها فتحت عنوة ، وهذا بناء غير صحيح ، فإن مساكن أرض العنوة تباع قولا واحدا ، فظهر بطلان هذا البناء والله أعلم .

وفيها : تعيين قتل الساب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأن قتله حد لا بد من استيفائه ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يؤمن مقيس بن صبابة ، وابن خطل ، والجاريتين اللتين كانتا تغنيان بهجائه ، مع أن نساء أهل الحرب لا يقتلن كما لا تقتل الذرية ، وقد أمر بقتل هاتين الجاريتين ( وأهدر دم أم ولد الأعمى لما قتلها سيدها لأجل سبها النبي - صلى الله عليه وسلم - ) وقتل كعب بن الأشرف اليهودي ، وقال : ( من لكعب فإنه قد آذى الله ورسوله " ) وكان يسبه ، وهذا إجماع من الخلفاء الراشدين ، ولا يعلم لهم في الصحابة مخالف ، فإن الصديق - رضي الله عنه - قال لأبي برزة الأسلمي وقد هم بقتل من سبه : ( لم يكن هذا لأحد غير رسول الله ) - صلى الله عليه وسلم - ، ومر عمر - رضي الله عنه - براهب فقيل له : هذا يسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فقال : ( لو سمعته لقتلته ، إنا لم نعطهم الذمة على أن يسبوا نبينا - صلى الله عليه وسلم - ) .

ولا ريب أن المحاربة بسب نبينا أعظم أذية ونكاية لنا من المحاربة باليد ، ومنع دينار جزية في السنة ، فكيف ينقض عهده ويقتل بذلك دون السب ، وأي نسبة لمفسدة منعه دينارا في السنة إلى مفسدة منع مجاهرته بسب نبينا أقبح سب على رءوس الأشهاد ، بل لا نسبة لمفسدة محاربته باليد إلى مفسدة محاربته بالسب ، فأولى ما انتقض به عهده وأمانه سب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا ينتقض عهده بشيء أعظم منه إلا سبه الخالق سبحانه ، فهذا محض القياس ، ومقتضى النصوص ، وإجماع الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - وعلى هذه المسألة أكثر من أربعين دليلا .

فإن قيل : فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقتل عبد الله بن أبي ، وقد قال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، ولم يقتل ذا الخويصرة التميمي ، وقد قال له : اعدل فإنك لم تعدل ، ولم يقتل من قال له : يقولون إنك تنهى عن الغي ، وتستخلي به ، ولم يقتل القائل له : إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله ، ولم يقتل من قال له لما حكم للزبير بتقديمه في السقي : أن كان ابن عمتك ، وغير هؤلاء ممن كان يبلغه عنهم أذى له وتنقص .

قيل : الحق كان له فله أن يستوفيه ، وله أن يسقطه ، وليس لمن بعده أن يسقط حقه ، كما أن الرب تعالى له أن يستوفي حقه ، وله أن يسقط ، وليس لأحد أن يسقط حقه تعالى بعد وجوبه ، كيف وقد كان في ترك قتل من ذكرتم وغيرهم مصالح عظيمة في حياته ، زالت بعد موته ، من تأليف الناس ، وعدم تنفيرهم عنه ، فإنه لو بلغهم أنه يقتل أصحابه لنفروا ، وقد أشار إلى هذا بعينه ، وقال لعمر لما أشار عليه بقتل عبد الله بن أبي : ( لا يبلغ الناس أن محمدا يقتل أصحابه ) .

ولا ريب أن مصلحة هذا التأليف ، وجمع القلوب عليه ، كانت أعظم عنده وأحب إليه من المصلحة الحاصلة بقتل من سبه وآذاه ، ولهذا لما ظهرت مصلحة القتل ، وترجحت جدا قتل الساب كما فعل بكعب بن الأشرف ، فإنه جاهر بالعداوة والسب ، فكان قتله أرجح من إبقائه ، وكذلك قتل ابن خطل ، ومقيس والجاريتين وأم ولد الأعمى ، فقتل للمصلحة الراجحة وكف للمصلحة الراجحة ، فإذا صار الأمر إلى نوابه وخلفائه لم يكن لهم أن يسقطوا حقه . قال الزهري - فيما رواه عبد الرزاق ، والطبراني : ثم نزل - ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه المفتاح ، فتنحى ناحية من المسجد ، فجلس عند السقاية .

قال شيوخ محمد بن عمر : وكان - صلى الله عليه وسلم - قد قبض مفتاح السقاية من العباس ، ومفتاح البيت من عثمان .

وروى ابن أبي شيبة عن عبد الله بن عبيدة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد خطبته عدل إلى جانب المسجد فأتي بدلو من ماء زمزم ، فغسل منها وجهه ما يقع منه قطرة إلا في يد إنسان إن كانت قدر ما يحسوها حساها وإلا مسح جلده . والمشركون ينظرون فقالوا : ما رأينا ملكا قط أعظم من اليوم . ولا قوما أحمق من القوم .

ما في خطبته العظيمة ثاني يوم الفتح من أنواع العلم

فمنها قوله ( إن مكة حرمها الله ، ولم يحرمها الناس ) فهذا تحريم شرعي قدري سبق به قدره يوم خلق هذا العالم ، ثم ظهر به على لسان خليله إبراهيم ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما ، كما في " الصحيح " عنه ، أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : ( اللهم إن إبراهيم خليلك حرم مكة ، وإني أحرم المدينة ) فهذا إخبار عن ظهور التحريم السابق يوم خلق السماوات والأرض على لسان إبراهيم ، ولهذا لم ينازع أحد من أهل الإسلام في تحريمها ، وإن تنازعوا في تحريم المدينة ، والصواب المقطوع به تحريمها ، إذ قد صح فيه بضعة وعشرون حديثا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا مطعن فيها بوجه .

ومنها : قوله ( فلا يحل لأحد أن يسفك بها دما ) هذا التحريم لسفك الدم المختص بها ، وهو الذي يباح في غيرها ، ويحرم فيها لكونها حرما ، كما أن تحريم عضد الشجر بها ، واختلاء خلائها ، والتقاط لقطتها ، هو أمر مختص بها ، وهو مباح في غيرها ، إذ الجميع في كلام واحد ، ونظام واحد ، وإلا بطلت فائدة التخصيص ، وهذا أنواع :

أحدها_ وهو الذي ساقه أبو شريح العدوي لأجله - : أن الطائفة الممتنعة بها من مبايعة الإمام لا تقاتل ، لا سيما إن كان لها تأويل ، كما امتنع أهل مكة من مبايعة يزيد ، وبايعوا ابن الزبير ، فلم يكن قتالهم ونصب المنجنيق عليهما ، وإحلال حرم الله جائزا بالنص والإجماع ، وإنما خالف في ذلك عمرو بن سعيد الفاسق وشيعته ، وعارض نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برأيه وهواه ، فقال : إن الحرم لا يعيذ عاصيا ، فيقال له : هو لا يعيذ عاصيا من عذاب الله ولو لم يعذه من سفك دمه لم يكن حرما بالنسبة إلى الآدميين ، وكان حرما بالنسبة إلى الطير والحيوان البهيم ، وهو لم يزل يعيذ العصاة من عهد إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه ، وقام الإسلام على ذلك ، وإنما لم يعذ مقيس بن صبابة ، وابن خطل ، ومن سمي معهما ، لأنه في تلك الساعة لم يكن حرما ، بل حلا ، فلما انقضت ساعة الحرب عاد إلى ما وضع عليه يوم خلق الله السماوات والأرض . وكانت العرب في جاهليتها يرى الرجل قاتل أبيه ، أو ابنه في الحرم ، فلا يهيجه ، وكان ذلك بينهم خاصية الحرم التي صار بها حرما ، ثم جاء الإسلام ، فأكد ذلك وقواه ، وعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من الأمة من يتأسى به في إحلاله بالقتال والقتل ، فقطع الإلحاق ، وقال لأصحابه : ( فإن أحد ترخص لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا : " إن الله أذن لرسوله ، ولم يأذن لك ) وعلى هذا فمن أتى حدا أو قصاصا خارج الحرم يوجب القتل ، ثم لجأ إليه ، لم يجز إقامته عليه فيه . وذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : ( لو وجدت فيه قاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه ) .

وذكر عن عبد الله بن عمر أنه قال : ( لو لقيت فيه قاتل عمر ما ندهته ) وعن ابن عباس ، أنه قال : ( لو لقيت قاتل أبي في الحرم ما هجته حتى يخرج منه ) وهذا قول جمهور التابعين ومن بعدهم ، بل لا يحفظ عن تابعي ولا صحابي خلافه ، وإليه ذهب أبو حنيفة ومن وافقه من أهل العراق ، والإمام أحمد ومن وافقه من أهل الحديث .

وذهب مالك والشافعي إلى أنه يستوفى منه في الحرم ، كما يستوفى منه في الحل ، وهو اختيار ابن المنذر ، واحتج لهذا القول بعموم النصوص الدالة على استيفاء الحدود والقصاص في كل مكان وزمان ، ( وبأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل ابن خطل ، وهو متعلق بأستار الكعبة ) .

وبما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا بخربة ) وبأنه لو كان الحدود والقصاص فيما دون النفس ، لم يعذه الحرم ، ولم يمنعه من إقامته عليه ، وبأنه لو أتى فيه بما يوجب حدا أو قصاصا ، لم يعذه الحرم ، ولم يمنع من إقامته عليه ، فكذلك إذا أتاه خارجه ، ثم لجأ إليه ، إذ كونه حرما بالنسبة إلى عصمته ، لا يختلف بين الأمرين وبأنه حيوان أبيح قتله لفساده ، فلم يفترق الحال بين قتله لاجئا إلى الحرم ، وبين كونه قد أوجب ما أبيح قتله فيه كالحية والحدأة والكلب العقور ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم ) فنبه بقتلهن في الحل والحرم على العلة وهي فسقهن ، ولم يجعل التجاءهن إلى الحرم مانعا من قتلهن ، وكذلك فاسق بني آدم الذي قد استوجب القتل .

قال الأولون : ليس في هذا ما يعارض ما ذكرنا من الأدلة ، ولا سيما قوله تعالى : ( ومن دخله كان آمنا ) [ آل عمران : 97 ] ، وهذا إما خبر بمعنى الأمر لاستحالة الخلف في خبره تعالى ، وإما خبر عن شرعه ودينه الذي شرعه في حرمه ، وإما إخبار عن الأمر المعهود المستمر في حرمه في الجاهلية والإسلام ، كما قال تعالى : ( أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم ) [ العنكبوت : 67 ] ، وقوله تعالى : ( وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء ) [ القصص : 57 ] وما عدا هذا من الأقوال الباطلة فلا يلتفت إليه كقول بعضهم : ( ومن دخله كان آمنا ) من النار ، وقول بعضهم : كان آمنا من الموت على غير الإسلام ونحو ذلك ، فكم ممن دخله وهو في قعر الجحيم . وأما العمومات الدالة على استيفاء الحدود والقصاص في كل زمان ومكان فيقال أولا : لا تعرض في تلك العمومات لزمان الاستيفاء ولا مكانه ، كما لا تعرض فيها لشروطه وعدم موانعه ، فإن اللفظ لا يدل عليها بوضعه ولا بتضمنه ، فهو مطلق بالنسبة إليها ، ولهذا إذا كان للحكم شرط أو مانع ، لم يقل : إن توقف الحكم عليه تخصيص لذلك العام فلا يقول محصل : إن قوله تعالى : ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) [ النساء : 24 ] مخصوص بالمنكوحة في عدتها ، أو بغير إذن وليها ، أو بغير شهود ، فهكذا النصوص العامة في استيفاء الحدود والقصاص ، لا تعرض فيها لزمنه ولا مكانه ولا شرطه ولا مانعه ، ولو قدر تناول اللفظ لذلك ، لوجب تخصيصه بالأدلة الدالة على المنع ، لئلا يبطل موجبها ، ووجب حمل اللفظ العام على ما عداها كسائر نظائره ، وإذا خصصتم تلك العمومات بالحامل والمرضع والمريض الذي يرجى برؤه والحال المحرمة للاستيفاء كشدة المرض أو البرد أو الحر فما المانع من تخصيصها بهذه الأدلة ؟ وإن قلتم ليس ذلك تخصيصا ، بل تقييدا لمطلقها ، كلنا لكم بهذا الصاع سواء بسواء .

وأما قتل ابن خطل ، فقد تقدم أنه كان في وقت الحل ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قطع الإلحاق ، ونص على أن ذلك من خصائصه ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وإنما أحلت لي ساعة من نهار ) صريح في أنه إنما أحل له سفك دم حلال في غير الحرم في تلك الساعة خاصة ، إذ لو كان حلالا في كل وقت لم يختص بتلك الساعة ، وهذا صريح في أن الدم الحلال في غيرها حرام فيها ، فيما عدا تلك الساعة ، وأما قوله ( الحرم لا يعيذ عاصيا ) فهو من كلام الفاسق عمرو بن سعيد الأشدق ، يرد به حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين روى له أبو شريح الكعبي هذا الحديث كما جاء مبينا في " الصحيح " ، فكيف يقدم على قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وأما قولكم : لو كان الحد والقصاص فيما دون النفس ، لم يعذه الحرم منه ، فهذه المسألة فيها قولان للعلماء ، وهما روايتان منصوصتان عن الإمام أحمد ، فمن منع الاستيفاء نظر إلى عموم الأدلة العاصمة بالنسبة إلى النفس وما دونها ، ومن فرق قال : سفك الدم إنما ينصرف إلى القتل ، ولا يلزم من تحريمه في الحرم تحريم ما دونه ؛ لأن حرمة النفس أعظم والانتهاك بالقتل أشد ، قالوا : ولأن الحد بالجلد أو القطع يجري مجرى التأديب ، فلم يمنع منه ، كتأديب السيد عبده ، وظاهر هذا المذهب أنه لا فرق بين النفس وما دونها في ذلك ، قال أبو بكر : هذه مسألة وجدتها لحنبل عن عمه ، أن الحدود كلها تقام في الحرم إلا القتل ، قال : والعمل على أن كل جان دخل الحرم لم يقم عليه الحد حتى يخرج منه ، قالوا : وحينئذ فنجيبكم بالجواب المركب ، وهو أنه إن كان بين النفس وما دونها في ذلك فرق مؤثر بطل الإلزام ، وإن لم يكن بينهما فرق مؤثر ، سوينا بينهما في الحكم ، وبطل الاعتراض ، فتحقق بطلانه على التقديرين .

قالوا : وأما قولكم : إن الحرم لا يعيذ من انتهك فيه الحرمة ، إذ أتى فيه ما يوجب الحد ، فكذلك اللاجئ إليه ، فهو جمع بين ما فرق الله ورسوله والصحابة بينهما ، فروى الإمام أحمد ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : ( من سرق أو قتل في الحل ثم دخل الحرم ، فإنه لا يجالس ولا يكلم ولا يؤوى ، ولكنه يناشد حتى يخرج فيؤخذ فيقام عليه الحد ، وإن سرق أو قتل في الحرم ، أقيم عليه في الحرم ) وذكر الأثرم ، عن ابن عباس أيضا : ( من أحدث حدثا في الحرم ، أقيم عليه ما أحدث فيه من شيء ) .

وقد أمر الله سبحانه بقتل من قاتل في الحرم ، فقال : ( ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم ) [ البقرة : 191 ] .

والفرق بين اللاجئ والمنتهك فيه من وجوه :

أحدها : أن الجاني فيه هاتك لحرمته بإقدامه على الجناية فيه ، بخلاف من جنى خارجه ثم لجأ إليه ، فإنه معظم لحرمته مستشعر بها بالتجائه إليه ، فقياس أحدهما على الآخر باطل .

الثاني : أن الجاني فيه بمنزلة المفسد الجاني على بساط الملك في داره وحرمه ، ومن جنى خارجه ثم لجأ إليه فإنه بمنزلة من جنى خارج بساط السلطان وحرمه ، ثم دخل إلى حرمه مستجيرا .

الثالث : أن الجاني في الحرم قد انتهك حرمة الله سبحانه وحرمة بيته وحرمه ، فهو هاتك لحرمتين بخلاف غيره .

الرابع : أنه لو لم يقم الحد على الجناة في الحرم لعم الفساد ، وعظم الشر في حرم الله ، فإن أهل الحرم كغيرهم في الحاجة إلى صيانة نفوسهم وأموالهم وأعراضهم ، ولو لم يشرع الحد في حق من ارتكب الجرائم في الحرم ، لتعطلت حدود الله وعم الضرر للحرم وأهله .

والخامس : أن اللاجئ إلى الحرم بمنزلة التائب المتنصل ، اللاجئ إلى بيت الرب تعالى ، المتعلق بأستاره ، فلا يناسب حاله ولا حال بيته وحرمه أن يهاج ، بخلاف المقدم على انتهاك حرمته ، فظهر سر الفرق ، وتبين أن ما قاله ابن عباس هو محض الفقه .

وأما قولكم : إنه حيوان مفسد ، فأبيح قتله في الحل والحرم كالكلب العقور ، فلا يصح القياس ، فإن الكلب العقور طبعه الأذى ، فلم يحرمه الحرم ليدفع أذاه عن أهله ، وأما الآدمي فالأصل فيه الحرمة ، وحرمته عظيمة ، وإنما أبيح لعارض ، فأشبه الصائل من الحيوانات المباحة من المأكولات ، فإن الحرم يعصمها .

وأيضا فإن حاجة أهل الحرم إلى قتل الكلب العقور والحية والحدأة كحاجة أهل الحل سواء ، فلو أعاذها الحرم لعظم عليهم الضرر بها .

ومنها : قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ولا يعضد بها شجر ) ، وفي اللفظ الآخر : ( ولا يعضد شوكها ) ، وفي لفظ في " صحيح مسلم " : ( ولا يخبط شوكها ) لا خلاف بينهم أن الشجر البري الذي لم ينبته الآدمي على اختلاف أنواعه مراد من هذا اللفظ ، واختلفوا فيما أنبته الآدمي من الشجر في الحرم على ثلاثة أقوال ، وهي في مذهب أحمد :

أحدها : أن له قلعه ، ولا ضمان عليه ، وهذا اختيار ابن عقيل ، وأبي الخطاب ، وغيرهما .

والثاني : أنه ليس له قلعه ، وإن فعل ففيه الجزاء بكل حال ، وهو قول الشافعي ، وهو الذي ذكره ابن البناء في " خصاله " .

الثالث : الفرق بين ما أنبته في الحل ثم غرسه في الحرم ، وبين ما أنبته في الحرم أولا ، فالأول : لا جزاء فيه ، والثاني : لا يقلع وفيه الجزاء بكل حال ، وهذا قول القاضي .

وفيه قول رابع : وهو الفرق بين ما ينبت الآدمي جنسه كاللوز والجوز والنخل ونحوه ، وما لا ينبت الآدمي جنسه كالدوح والسلم ونحوه ، فالأول يجوز قلعه ، ولا جزاء فيه ، والثاني : لا يجوز ، وفيه الجزاء .

قال صاحب " المغني " : والأولى الأخذ بعموم الحديث في تحريم الشجر كله ، إلا ما أنبت الآدمي من جنس شجرهم بالقياس على ما أنبتوه من الزرع والأهلي من الحيوان ، فإننا إنما أخرجنا من الصيد ما كان أصله إنسيا دون ما تأنس من الوحشي ، كذا هاهنا ، وهذا تصريح منه باختيار هذا القول الرابع ، فصار في مذهب أحمد أربعة أقوال .

والحديث ظاهر جدا في تحريم قطع الشوك والعوسج ، وقال الشافعي : لا يحرم قطعه ؛ لأنه يؤذي الناس بطبعه ، فأشبه السباع ، وهذا اختيار أبي الخطاب وابن عقيل ، وهو مروي عن عطاء ومجاهد وغيرهما . وقوله - صلى الله عليه وسلم - ( لا يعضد شوكها ) وفي اللفظ الآخر : ( لا يختلى شوكها ) صريح في المنع ، ولا يصح قياسه على السباع العادية ، فإن تلك تقصد بطبعها الأذى ، وهذا لا يؤذي من لم يدن منه .

والحديث لم يفرق بين الأخضر واليابس ، ولكن قد جوزوا قطع اليابس ، قالوا : لأنه بمنزلة الميت ، ولا يعرف فيه خلاف ، وعلى هذا فسياق الحديث يدل على أنه إنما أراد الأخضر ، فإنه جعله بمنزلة تنفير الصيد ، وليس في أخذ اليابس انتهاك حرمة الشجرة الخضراء التي تسبح بحمد ربها ، ولهذا غرس النبي - صلى الله عليه وسلم - على القبرين غصنين أخضرين ، وقال : ( لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا ) .

وفي الحديث دليل على أنه إذا انقلعت الشجرة بنفسها ، أو انكسر الغصن جاز الانتفاع به ؛ لأنه لم يعضده هو ، وهذا لا نزاع فيه .

فإن قيل : فما تقولون فيما إذا قلعها قالع ثم تركها ، فهل يجوز له أو لغيره أن ينتفع بها ؟ قيل : قد سئل الإمام أحمد عن هذه المسألة فقال : من شبهه بالصيد لم ينتفع بحطبها ، وقال لم أسمع إذا قطعه ينتفع به .

وفيه وجه آخر ، أنه يجوز لغير القاطع الانتفاع به ؛ لأنه قطع بغير فعله فأبيح له الانتفاع به ، كما لو قلعته الريح ، وهذا بخلاف الصيد إذا قتله محرم ، حيث يحرم على غيره ، فإن قتل المحرم له جعله ميتة .

وقوله في اللفظ الآخر : ( ولا يخبط شوكها ) صريح أو كالصريح في تحريم قطع الورق ، وهذا مذهب أحمد - رحمه الله - وقال الشافعي : له أخذه ، ويروى عن عطاء ، والأول أصح لظاهر النص والقياس ، فإن منزلته من الشجرة منزلة ريش الطائر منه ، وأيضا فإن أخذ الورق ذريعة إلى يبس الأغصان ، فإنه لباسها ووقايتها .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ولا يختلى خلاها ) لا خلاف أن المراد من ذلك ما ينبت بنفسه دون ما أنبته الآدميون ، ولا يدخل اليابس في الحديث ، بل هو للرطب خاصة ، فإن الخلا بالقصر الحشيش الرطب ما دام رطبا ، فإذا يبس فهو حشيش ، وأخلت الأرض كثر خلاها ، واختلاء الخلى : قطعه ، ومنه الحديث ( كان ابن عمر يختلي لفرسه ) أي يقطع لها الخلى ، ومنه سميت المخلاة ، وهي وعاء الخلى ، والإذخر مستثنى بالنص ، وفي تخصيصه بالاستثناء دليل على إرادة العموم فيما سواه .

فإن قيل : فهل يتناول الحديث الرعي أم لا ؟ قيل : هذا فيه قولان .

أحدهما : لا يتناوله فيجوز الرعي ، وهذا قول الشافعي .

والثاني : يتناوله بمعناه وإن لم يتناوله بلفظه ، فلا يجوز الرعي ، وهو مذهب أبي حنيفة ، والقولان لأصحاب أحمد .

قال المحرمون : وأي فرق بين اختلائه وتقديمه للدابة وبين إرسال الدابة عليه ترعاه ؟

قال المبيحون : لما كانت عادة الهدايا أن تدخل الحرم ، وتكثر فيه ، ولم ينقل قط أنها كانت تسد أفواهها ، دل على جواز الرعي .

قال المحرمون : الفرق بين أن يرسلها ترعى ويسلطها على ذلك ، وبين أن ترعى بطبعها من غير أن يسلطها صاحبها ، وهو لا يجب عليه أن يسد أفواهها ، كما لا يجب عليه أن يسد أنفه في الإحرام عن شم الطيب ، وإن لم يجز له أن يتعمد شمه ، وكذلك لا يجب عليه أن يمتنع من السير ؛ خشية أن يوطئ صيدا في طريقه ، وإن لم يجز له أن يقصد ذلك ، وكذلك نظائره .

فإن قيل : فهل يدخل في الحديث أخذ الكمأة والفقع ، وما كان مغيبا في الأرض ؟ قيل : لا يدخل فيه لأنه بمنزلة الثمرة ، وقد قال أحمد : يؤكل من شجر الحرم الضغابيس والعشرق .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ولا ينفر صيدها ) صريح في تحريم التسبب إلى قتل الصيد واصطياده بكل سبب ، حتى إنه لا ينفره عن مكانه ، لأنه حيوان محترم في هذا المكان ، قد سبق إلى مكان ، فهو أحق به ، ففي هذا أن الحيوان المحترم إذا سبق إلى مكان ، لم يزعج عنه .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ولا يلتقط ساقطتها إلا من عرفها ) . وفي لفظ : ( ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد ) ، فيه دليل على أن لقطة الحرم لا تملك بحال ، وأنها لا تلتقط إلا للتعريف لا للتمليك ، وإلا لم يكن لتخصيص مكة بذلك فائدة أصلا ، وقد اختلف في ذلك ، فقال مالك وأبو حنيفة : لقطة الحل والحرم سواء ، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد ، وأحد قولي الشافعي ، ويروى عن ابن عمر ، وابن عباس ، وعائشة رضي الله عنهم ، وقال أحمد في الرواية الأخرى ، والشافعي في القول الآخر : لا يجوز التقاطها للتمليك ، وإنما يجوز لحفظها لصاحبها ، فإن التقطها عرفها أبدا حتى يأتي صاحبها ، وهذا قول عبد الرحمن بن مهدي ، وأبي عبيد ، وهذا هو الصحيح ، والحديث صريح فيه ، والمنشد المعرف والناشد الطالب ، ومنه قوله :


إصاخة الناشد للمنشد

وقد روى أبو داود في " سننه " : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ( نهى عن لقطة الحاج ) وقال ابن وهب : يعني يتركها حتى يجدها صاحبها .

قال شيخنا : وهذا من خصائص مكة ، والفرق بينها وبين سائر الآفاق في ذلك : أن الناس يتفرقون عنها إلى الأقطار المختلفة ، فلا يتمكن صاحب الضالة من طلبها والسؤال عنها ، بخلاف غيرها من البلاد .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الخطبة : ( ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين ، إما أن يقتل وإما أن يأخذ الدية ) فيه دليل على أن الواجب بقتل العمد لا يتعين في القصاص ، بل هو أحد شيئين ، إما القصاص وإما الدية .

وفي ذلك ثلاثة أقوال : وهي روايات عن الإمام أحمد .

أحدها : أن الواجب أحد شيئين ، إما القصاص ، وإما الدية ، والخيرة في ذلك إلى الولي بين أربعة أشياء : العفو مجانا ، والعفو إلى الدية ، والقصاص ، ولا خلاف في تخييره بين هذه الثلاثة . والرابع : المصالحة على أكثر من الدية فيه وجهان : أشهرهما مذهبا : جوازه . والثاني : ليس له العفو على مال إلا الدية أو دونها ، وهذا أرجح دليلا ، فإن اختار الدية سقط القود ولم يملك طلبه بعد ، وهذا مذهب الشافعي ، وإحدى الروايتين عن مالك .

والقول الثاني : أن موجبه القود عينا ، وأنه ليس له أن يعفو إلى الدية إلا برضى الجاني ، فإن عدل إلى الدية ولم يرض الجاني فقوده بحاله ، وهذا مذهب مالك في الرواية الأخرى وأبي حنيفة .

والقول الثالث : أن موجبه القود عينا مع التخيير بينه وبين الدية وإن لم يرض الجاني ، فإذا عفا عن القصاص إلى الدية فرضي الجاني فلا إشكال ، وإن لم يرض فله العود إلى القصاص عينا ، فإن عفا عن القود مطلقا ، فإن قلنا : الواجب أحد الشيئين فله الدية ، وإن قلنا : الواجب القصاص عينا ، سقط حقه منها .

فإن قيل : فما تقولون فيما لو مات القاتل ؟ قلنا : في ذلك قولان . أحدهما : تسقط الدية ، وهو مذهب أبي حنيفة ، لأن الواجب عندهم القصاص عينا ، وقد زال محل استيفائه بفعل الله تعالى ، فأشبه ما لو مات العبد الجاني ، فإن أرش الجناية لا ينتقل إلى ذمة السيد ، وهذا بخلاف تلف الرهن وموت الضامن حيث لا يسقط الحق لثبوته في ذمة الراهن والمضمون عنه ، فلم يسقط بتلف الوثيقة .

وقال الشافعي وأحمد : تتعين الدية في تركته ، لأنه تعذر استيفاء القصاص من غير إسقاط ، فوجب الدية لئلا يذهب الورثة من الدم والدية مجانا . فإن قيل : فما تقولون لو اختار القصاص ، ثم اختار بعده العفو إلى الدية هل له ذلك ؟ قلنا : هذا فيه وجهان أحدهما : أن له ذلك ؛ لأن القصاص أعلى ، فكان له الانتقال إلى الأدنى . والثاني : ليس له ذلك ؛ لأنه لما اختار القصاص فقد أسقط الدية باختياره له ، فليس له أن يعود إليها بعد إسقاطها .

فإن قيل : فكيف تجمعون بين هذا الحديث وبين قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( من قتل عمدا ، فهو قود ) .

قيل : لا تعارض بينهما بوجه ، فإن هذا يدل على وجوب القود بقتل العمد ، وقوله : " فهو بخير النظرين " ، يدل على تخييره بين استيفاء هذا الواجب له ، وبين أخذ بدله وهو الدية ، فأي تعارض ؟ وهذا الحديث نظير قوله تعالى : ( كتب عليكم القصاص ) [ البقرة : 178 ] ، وهذا لا ينفي تخيير المستحق له بين ما كتب له ، وبين بدله . والله أعلم . فصل

وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الخطبة " إلا الإذخر " ، بعد قول العباس له : إلا الإذخر . يدل على مسألتين :

إحداهما : إباحة قطع الإذخر .

والثانية : أنه لا يشترط في الاستثناء أن ينويه من أول الكلام ، ولا قبل فراغه ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لو كان ناويا لاستثناء الإذخر من أول كلامه ، أو قبل تمامه ، لم يتوقف استثناؤه له على سؤال العباس له ذلك ، وإعلامه أنهم لا بد لهم منه لقينهم وبيوتهم ، ونظير هذا استثناؤه - صلى الله عليه وسلم - لسهيل بن بيضاء من أسارى بدر ، بعد أن ذكره به ابن مسعود ، فقال : ( لا ينفلتن أحد منهم إلا بفداء أو ضربة عنق ) فقال ابن مسعود : إلا سهيل بن بيضاء ، فإني سمعته يذكر الإسلام فقال : " إلا سهيل بن بيضاء " ومن المعلوم أنه لم يكن قد نوى الاستثناء في الصورتين من أول كلامه .

ونظيره أيضا قول الملك لسليمان لما قال : ( لأطوفن الليلة على مائة امرأة ، تلد كل امرأة غلاما يقاتل في سبيل الله ، فقال له الملك : قل إن شاء الله تعالى ، فلم يقل ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لو قال إن شاء الله تعالى ، لقاتلوا في سبيل الله أجمعون ، وفي لفظ لكان دركا لحاجته ) فأخبر أن هذا الاستثناء لو وقع منه في هذه الحالة لنفعه ، ومن يشترط النية يقول لا ينفعه .

ونظير هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( والله لأغزون قريشا ، والله لأغزون قريشا ، ثلاثا ، ثم سكت ، ثم قال : إن شاء الله ) فهذا استثناء بعد سكوت ، وهو يتضمن إنشاء الاستثناء بعد الفراغ من الكلام والسكوت عليه ، وقد نص أحمد على جوازه ، وهو الصواب بلا ريب ، والمصير إلى موجب هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة أولى . وبالله التوفيق .

وفي القصة : أن رجلا من الصحابة يقال له أبو شاه ، قام فقال : اكتبوا لي ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( اكتبوا لأبي شاه ) يريد خطبته ، ففيه دليل على كتابة العلم ونسخ النهي عن كتابة الحديث ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه ) وهذا كان في أول الإسلام خشية أن يختلط الوحي الذي يتلى بالوحي الذي لا يتلى ، ثم أذن في الكتابة لحديثه .

وصح عن عبد الله بن عمرو أنه كان يكتب حديثه ، وكان مما كتبه صحيفة تسمى الصادقة ، وهي التي رواها حفيده عمرو بن شعيب عن أبيه عنه ، وهي من أصح الأحاديث ، وكان بعض أئمة أهل الحديث يجعلها في درجة أيوب عن نافع عن ابن عمر ، والأئمة الأربعة وغيرهم احتجوا بها .

التالي السابق


الخدمات العلمية