عن أنس بن مالك - رضي الله تعالى عنهما - لما استقبلنا وادي حنين انحدرنا في واد أجوف خطوط له مضايق وشعاب ، وإنما ننحدر فيه انحدارا ، وفي عماية الصبح ، وقد كان القوم سبقونا إلى الوادي فمكثوا في شعابه وأجنابه ومضايقه وتهيئوا ، فو الله ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب قد شدوا علينا شدة رجل واحد ، وكانوا رماة .

قال أنس - رضي الله عنه - استقبلنا من هوازن شيء ، لا والله ما رأيت مثله في ذلك الزمان قط ، من كثرة السواد ، قد ساقوا نساءهم وأبناءهم وأموالهم ثم صفوا صفوفا ، فجعلوا النساء فوق الإبل وراء صفوف الرجال ، ثم جاءوا بالإبل والبقر والغنم ، فجعلوها وراء ذلك لئلا يفروا بزعمهم فلما رأينا ذلك السواد حسبناه رجالا كلهم ، فلما انحدرنا في الوادي ، فبينا نحن في غبش الصبح إن شعرنا إلا بالكتائب قد خرجت علينا من مضيق الوادي وشعبه ، فحملوا حملة رجل واحد ، فانكشفت أوائل الخيل - خيل بني سليم - مولية وتبعهم أهل مكة وتبعهم الناس منهزمين ما يلوون على شيء وارتفع النقع فما منا أحد يبصر كفه .

وقال جابر : وانحاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات اليمين ، ثم قال : «أيها الناس هلم إلي أيها الناس ، هلم إلي أنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا محمد بن عبد الله” .

قال : فلا شيء وحملت الإبل بعضها على بعض ، فانطلق الناس .


وذكر كثير من أهل المغازي : أن المسلمين لما نزلوا وادي حنين تقدمهم كثير ممن لا خبرة لهم بالحرب ، وغالبهم من شبان أهل مكة ، فخرجت عليهم الكتائب من كل جهة ، فحملوا حملة رجل واحد والمسلمون غارون ، فر من فر ، وبلغ أقصى هزيمتهم مكة ، ثم كروا بعد .

عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا ، فلما واجهنا العدو تقدمت فأعلو ثنية فاستقبلني رجل من المشركين فأرميه بسهم ، وتوارى عني ، فما دريت ما صنع ، ثم نظرت إلى القوم فإذا هم قد طلعوا من ثنية أخرى ، فالتقوا هم وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فولى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرجع منهزما ، وعلي بردتان متزرا بإحداهما مرتديا بالأخرى ، قال : فاستطلق إزاري فجمعتها جمعا ومررت على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا منهزم ، وهو على بغلته الشهباء ، فقال صلى الله عليه وسلم : " لقد رأى ابن الأكوع فزعا " . فلما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة ، ثم قبض قبضة من تراب من الأرض واستقبل به وجوههم ، وقال : " شاهت الوجوه " . فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا من تلك القبضة ، فولوا مدبرين ، فهزمهم الله ، وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين . . وفي الصحيح عن البراء بن عازب - رضي الله عنهما - قال : عجل سرعان القوم - وفي لفظة : شبان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس عليهم سلاح أو كثير سلاح ، فإنا لما حملنا على المشركين انكشفوا ، فأقبل الناس على الغنائم ، وكانت هوازن رماة فاستقبلتنا بالسهام كأنما رجل جراد ، لا يكاد يسقط لهم سهم انتهى .

قال : وكان رجل على جمل له أحمر ، بيده راية سوداء على رمح طويل أمام هوازن ، وهوازن خلفه ، إذا أدرك طعن برمحه ، وإن فاته الناس ، رفع رمحه لمن وراءه فاتبعوه . فبينما هو كذلك إذ هوى له علي بن أبي طالب ، ورجل من الأنصار يريدانه ، فأتاه علي بن أبي طالب من خلفه فضرب عرقوبي الجمل ، فوقع على عجزه ، ووثب الأنصاري على الرجل فضربه ضربة أطن قدمه بنصف ساقه ، فانجعف عن رحله ، واجتلد الناس ، فو الله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسرى مكتفين عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم . فائدة جواز عقر فرس العدو ومركوبه إذا كان ذلك عونا على قتله ، كما عقر علي - رضي الله عنه - جمل حامل راية الكفار ، وليس هذا من تعذيب الحيوان المنهي عنه . وعن أبي إسحاق سمع البراء بن عازب - وسأله رجل من قيس : أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ - فقال : لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر; كانت هوازن رماة ، وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا ، فأكببنا على الغنائم ، فاستقبلتنا بالسهام ، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء ، وإن أبا سفيان آخذ بزمامها ، وهو يقول : " أنا النبي لا كذب " . وروى محمد بن عمر عن أبي قتادة - رضي الله عنه - قال : مضى سرعان الناس من المنهزمين ، حتى دخلوا مكة ، ساروا يوما وليلة - يخبرون أهل مكة بهزيمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعتاب بن أسيد بوزن أمير ، على مكة ومعه معاذ بن جبل ، فجاءهم أمر غمهم ، وسر بذلك قوم من أهل مكة وأظهروا الشماتة ، وقال قائل منهم : ترجع العرب إلى دين آبائها ، وقد قتل محمد وتفرق أصحابه ، فتكلم عتاب بن أسيد يومئذ فقال : إن قتل محمد ، فإن دين الله قائم - والذي يعبده محمد حي لا يموت ، فما أمسوا من ذلك اليوم حتى جاء الخبر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوقع بهوازن ، فسر عتاب بن أسيد ، ومعاذ بن جبل ، وكبت الله - تعالى - من هناك ممن كان يسره خلاف ذلك .

فرجع المنهزمون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلحقوه بأوطاس وقد رحل منها إلى الطائف . موقف صفوان بن أمية من خبر هزيمة المسلمين وهو يومئذ مشرك وقال ابن هشام : كلدة بن الحنبل - وأسلم بعد ذلك ، وهو مع أخيه لأمه صفوان بن أمية ، وصفوان مشرك في المدة التي جعل له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إلا بطل السحر اليوم!! فقال له صفوان : اسكت فض الله فاك! والله أن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن . .

قال ابن هشام : وقال حسان بن ثابت يهجو كلدة :


رأيت سوادا من بعيد فراعني أبو حنبل ينزو على أم حنبل     كأن الذي ينزو به فوق بطنها
ذراع قلوص من نتاج ابن عزهل



أنشدنا أبو زيد هذين البيتين ، وذكر لنا أنه هجا بهما صفوان بن أمية ، وكان أخا كلدة لأمه . وبعث صفوان غلاما له فقال : اسمع لمن الشعار فجاءه فقال : سمعتهم يقولون : يا بني عبد الرحمن يا بني عبيد الله ، يا بني عبد الله ، فقال :

ظهر محمد وكان ذلك شعارهم في الحرب.

التالي السابق


الخدمات العلمية