قال ابن إسحاق : فحدثني عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه القاسم بن محمد ، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، قالت : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحج لخمس ليال بقين من ذي القعدة قال ابن هشام : فاستعمل على المدينة أبا دجانة الساعدي ، ويقال : سباع بن عرفطة الغفاري . وصلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الظهر بالمدينة أربعا ، وخطب الناس وعلمهم ما أمامهم من المناسك ثم ترجل وادهن بزيت ، قلت اغتسل قبل ذلك ، وتجرد في ثوبين صحاريين إزار ورداء كما ذكره ابن سعد ، زاد محمد بن عمر الأسلمي : وأبدلهما بالتنعيم بثوبين من جنسهما ، والله تعالى أعلم ، ولبس إزاره ، ورداءه ، قلت وركب كما قال أنس على رحل وكانت زاملته ، وقال أيضا حج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على رحل رث ، وقطيفة خلقة تستوي أربعة دراهم ولا تستوي . ثم قال : «اللهم اجعله حجا مبرورا ، لا رياء فيه ، ولا سمعة» رواه البخاري تعليقا وابن ماجه ، والترمذي ، في «الشمائل» وأبو يعلى موصولا ، والله تعالى أعلم .

وخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من المدينة نهارا بعد الظهر لخمس بقين من ذي القعدة وصوبا أن خروجه كان يوم السبت ، وبسط الكلام على ذلك الحافظ الدمياطي ، قلت : ورواه الحاكم في «الإكليل» عن جبير بن مطعم ، وبه جزم ابن سعد ، ومحمد بن عمر الأسلمي ، وقال ابن حزم : وكان خروجه يوم الخميس ، قلت : والظاهر أن خروجه كان يوم السبت ، واحتج ابن حزم على قوله بثلاث مقدمات ، إحداها : أن خروجه كان لست بقين من ذي القعدة .

والثانية : أن استهلال ذي الحجة كان يوم الخميس . والثالثة : أن يوم عرفة كان يوم الجمعة واحتج على أن خروجه كان لست بقين من ذي القعدة ، بما روى البخاري من حديث ابن عباس ، انطلق النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة بعدما ترجل وادهن . . . فذكر الحديث . وقال : وذلك لخمس بقين من ذي القعدة .

قال ابن حزم : وقد نص ابن عمر على أن يوم عرفة ، كان يوم الجمعة ، وهو التاسع ، واستهلال ذي الحجة بلا شك ليلة الخميس ، فآخر ذي القعدة يوم الأربعاء ، فإذا كان خروجه لست بقين من ذي القعدة ، كان يوم الخميس ، إذ الباقي بعده ست ليال سواه .

ووجه ما اخترناه أن الحديث صريح في أنه خرج لخمس بقين وهي يوم السبت ، والأحد ، والاثنين ، والثلاثاء ، والأربعاء ، فهذه خمس ، وعلى قوله يكون خروجه لسبع بقين . فإن لم يعد يوم الخروج كان لست وأيهما كان فهو خلاف الحديث .

وإن اعتبر الليالي ، كان خروجه لست ليال بقين لا لخمس فلا يصح الجمع بين خروجه يوم الخميس وبين بقاء خمس من الشهر البتة بخلاف ما إذا كان الخروج يوم السبت ، فإن الباقي بيوم الخروج خمس بلا شك ، ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر لهم في خطبته على منبره شأن الإحرام ، وما يلبس المحرم بالمدينة ، والظاهر أن هذا كان يوم الجمعة لأنه لم ينقل أنه جمعهم ونادى فيهم لحضور الخطبة ، وقد شهد ابن عمر رضي الله عنهما هذه الخطبة بالمدينة على منبره .

وكان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يعلمهم في كل وقت ما يحتاجون إليه إذا حضر فعله ، فأولى الأوقات به الجمعة التي يليها خروجه ، والظاهر أنه لم يكن ليدع الجمعة وبينه وبينها بعض يوم من غير ضرورة ، وقد اجتمع إليه الخلق وهو أحرص الناس على تعليمهم الدين ، وقد حضر ذلك الجمع العظيم ، والجمع بينه وبين الحج ممكن بلا تفويت . والله أعلم .

ولما علم أبو محمد ابن حزم ، أن قول ابن عباس رضي الله عنه وعائشة رضي الله عنها : خرج لخمس بقين من ذي القعدة ، لا يلتئم مع قوله أوله : بأن قال : معناه أن اندفاعه من ذي الحليفة كان لخمس ، قال : وليس بين ذي الحليفة وبين المدينة إلا أربعة أميال فقط ، فلم تعد هذه المرحلة القريبة لقلتها ، وبهذا تأتلف جميع الأحاديث .

قال : ولو كان خروجه من المدينة لخمس بقين لذي القعدة ، لكان خروجه بلا شك يوم الجمعة ، وهذا خطأ ؛ لأن الجمعة لا تصلى أربعا ، وقد ذكر أنس ، أنهم ( صلوا الظهر معه بالمدينة أربعا ) قال : ويزيده وضوحا ، ثم ساق من طريق البخاري ، حديث كعب بن مالك : ( قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في سفر إذا خرج إلا يوم الخميس ) ، وفي لفظ آخر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كان يحب أن يخرج يوم الخميس ) ، فبطل خروجه يوم الجمعة لما ذكرنا عن أنس ، وبطل خروجه يوم السبت ؛ لأنه حينئذ يكون خارجا من المدينة لأربع بقين من ذي القعدة ، وهذا ما لم يقله أحد .

قال : وأيضا قد صح مبيته بذي الحليفة الليلة المستقبلة من يوم خروجه من المدينة ، فكان يكون اندفاعه من ذي الحليفة يوم الأحد ، يعني : لو كان خروجه يوم السبت ، وصح مبيته بذي طوى ليلة دخوله مكة ، وصح عنه أنه دخلها صبح رابعة من ذي الحجة ، فعلى هذا تكون مدة سفره من المدينة إلى مكة سبعة أيام ؛ لأنه كان يكون خارجا من المدينة لو كان ذلك لأربع بقين لذي القعدة ، واستوى على مكة لثلاث خلون من ذي الحجة ، وفي استقبال الليلة الرابعة ، فتلك سبع ليال لا مزيد وهذا خطأ بإجماع وأمر لم يقله أحد ، فصح أن خروجه كان لست بقين من ذي القعدة وائتلفت الروايات كلها ، وانتفى التعارض عنها بحمد الله انتهى .

قلت : هي متآلفة متوافقة ، والتعارض منتف عنها مع خروجه يوم السبت ، ويزول عنها الاستكراه الذي أولها عليه كما ذكرناه . وأما قول أبي محمد ابن حزم : لو كان خروجه من المدينة لخمس بقين من ذي القعدة لكان خروجه يوم الجمعة إلى آخره فغير لازم ، بل يصح أن يخرج لخمس ، ويكون خروجه يوم السبت ، والذي غر أبا محمد أنه رأى الراوي قد حذف التاء من العدد وهي إنما تحذف من المؤنث ففهم لخمس ليال بقين ، وهذا إنما يكون إذا كان الخروج يوم الجمعة .

فلو كان يوم السبت لكان لأربع ليال بقين ، وهذا بعينه ينقلب عليه ، فإنه لو كان خروجه يوم الخميس لم يكن لخمس ليال بقين ، وإنما يكون لست ليال بقين ، ولهذا اضطر إلى أن يؤول الخروج المقيد بالتاريخ المذكور بخمس على الاندفاع من ذي الحليفة ، ولا ضرورة له إلى ذلك ، إذ من الممكن أن يكون شهر ذي القعدة كان ناقصا ، فوقع الإخبار عن تاريخ الخروج بخمس بقين منه بناء على المعتاد من الشهر ، وهذه عادة العرب والناس في تواريخهم ، أن يؤرخوا بما بقي من الشهر بناء على كماله ، ثم يقع الإخبار عنه بعد انقضائه وظهور نقصه كذلك لئلا يختلف عليهم التاريخ فيصح أن يقول القائل : يوم الخامس والعشرين كتب لخمس بقين ، ويكون الشهر تسعا وعشرين ، وأيضا فإن الباقي كان خمسة أيام بلا شك بيوم الخروج ، والعرب إذا اجتمعت الليالي والأيام في التاريخ غلبت لفظ الليالي لأنها أول الشهر ، وهي أسبق من اليوم ، فتذكر الليالي ومرادها الأيام ، فيصح أن يقال : لخمس بقين باعتبار الأيام ، ويذكر لفظ العدد باعتبار الليالي ، فصح حينئذ أن يكون خروجه لخمس بقين ولا يكون يوم الجمعة .

وأما حديث كعب فليس فيه أنه لم يكن يخرج قط إلا يوم الخميس ، وإنما فيه أن ذلك كان أكثر خروجه ولا ريب أنه لم يكن يتقيد في خروجه إلى الغزوات بيوم الخميس .

وأما قوله لو خرج يوم السبت ، لكان خارجا لأربع ، فقد تبين أنه لا يلزم لا باعتبار الليالي ، ولا باعتبار الأيام .

وأما قوله : إنه بات بذي الحليفة الليلة المستقبلة من يوم خروجه من المدينة إلى آخره فإنه يلزم من خروجه يوم السبت أن تكون مدة سفره سبعة أيام ، فهذا عجيب منه ، فإنه إذا خرج يوم السبت وقد بقي من الشهر خمسة أيام ودخل مكة لأربع مضين من ذي الحجة فبين خروجه من المدينة ودخوله مكة تسعة أيام ، وهذا غير مشكل بوجه من الوجوه ، فإن الطريق التي سلكها إلى مكة بين المدينة وبينها هذا المقدار ، وسير العرب أسرع من سير الحضر بكثير ، ولا سيما مع عدم المحامل والكجاوات والزوامل الثقال . والله أعلم . وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على طريق الشجرة

قال البخاري : حدثنا إبراهيم بن المنذر ، ثنا أنس بن عياض عن عبيد الله - هو ابن عمر - عن نافع ، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج من طريق الشجرة ، ويدخل من طريق المعرس ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج إلى مكة يصلي في مسجد الشجرة ، وإذا رجع صلى بذي الحليفة ببطن الوادي ، وبات حتى يصبح .

التالي السابق


الخدمات العلمية