بسط البيان لما أحرم به ، عليه الصلاة والسلام ، في حجته هذه من الإفراد والتمتع والقران

وقد اختلف في ذلك على أربعة أقوال :

الأول : الإفراد بالحج .

روى الإمامان : الشافعي وأحمد ، والشيخان والنسائي عن عائشة وأحمد ، ومسلم ، وابن ماجه ، والبيهقي عن جابر بن عبد الله ، وأحمد ، ومسلم ، والبزار ، عن عبد الله بن عمر ، ومسلم ، والدارقطني ، والبيهقي ، عن ابن عباس «أنه- صلى الله عليه وسلم- أهل بالحج مفردا» . وقال الدارقطني : ثنا أبو عبيد القاسم بن إسماعيل ومحمد بن مخلد ، قالا : ثنا علي بن محمد بن معاوية البزاز ، ثنا عبد الله بن نافع ، عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل عتاب بن أسيد على الحج فأفرد ، ثم استعمل أبا بكر سنة تسع فأفرد الحج ، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر فأفرد الحج ، ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر ، فبعث عمر فأفرد الحج ، ثم حج أبو بكر فأفرد الحج ، وتوفي أبو بكر واستخلف عمر ، فبعث عبد الرحمن بن عوف فأفرد الحج ، ثم حج عمر سنيه كلها فأفرد الحج ، ثم توفي عمر واستخلف عثمان فأفرد الحج ، ثم حصر عثمان ، فأقام عبد الله بن عباس للناس فأفرد الحج . في إسناده عبد الله بن عمر العمري ، وهو ضعيف ، لكن قال الحافظ البيهقي : له شاهد بإسناد صحيح .

الثاني : القرآن .

روى الإمام أحمد ، والبخاري ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه والبيهقي عن عمر بن الخطاب وأحمد عن عثمان وأحمد والبخاري ، وابن حبان ، عن علي ، وأحمد ، والنسائي ، والشيخان ، والبزار ، والبيهقي ، عن أنس ، والترمذي ، وابن ماجه ، والبزار ، والدارقطني ، والبيهقي ، عن جابر بن عبد الله ، والإمام أحمد ، وابن ماجه ، عن أبي طلحة : زيد بن سهل الأنصاري- رضي الله تعالى عنه- وأحمد ، عن سراقة بن مالك ، والإمامان : مالك ، وأحمد ، والترمذي وصححه ، والنسائي عن سعد بن أبي وقاص ، والطبراني ، عن عبد الله بن أبي أوفى والإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، عن ابن عباس ، وأحمد ومسلم ، والنسائي ، والدارقطني ، عن الهرماس بن زياد ، وأبو يعلى ، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، وأحمد ، والشيخان ، عن ابن عمرو ، وأحمد ، عن عمران بن حصين ، والدارقطني ، عن أبي قتادة ، والترمذي- وحسنه- عن جابر بن عبد الله ، وأحمد ، عن حفصة ، والشيخان ، والبيهقي ، عن عائشة- رضي الله تعالى عنهم- «أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان قارنا» .

الثالث : التمتع .

روى الإمام أحمد ، والشيخان ، وأبو داود ، والنسائي ، عن ابن عمر قال : تمتع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع بالعمرة ، إلى الحج ، وأهدى ، فساق الهدي من ذي الحليفة ، وبدأ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأهل بالعمرة ، ثم أهل بالحج . الحديث .

وروى الشيخان ، عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في تمتعه بالعمرة إلى الحج : وتمتع الناس معه .

وروى مسلم ، عن عمران بن حصين- رضي الله تعالى عنه- قال : «تمتع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وتمتعنا معه» .

وروى مسلم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال : «قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «هذه عمرة استمتعنا بها ، فمن لم يكن عنده الهدي فليحل الحل كله ، فإن العمرة قد دخلت في الحج إلى يوم القيامة» .

وروى البخاري ، عن حفصة- رضي الله تعالى عنها- أنها قالت يا رسول الله : ما شأن الناس حلوا بعمرة ؟ ولم تحلل أنت من عمرتك ؟ قال : «إني لبدت رأسي ، وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر» .

وروى الإمام أحمد ، والترمذي وحسنه ، عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال :

«تمتع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وأول من نهى عنه معاوية .

وروى الشيخان ، عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- عن معاوية- رضي الله تعالى عنه- قال : «قصرت عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بمشقص» ، زاد مسلم ، فقلت : «لا أعلم هذه إلا حجة عليك» .

وروى النسائي ، عن عطاء ، عن معاوية قال : «أخذت من أطراف شعر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بمشقص كان معي ، بعد ما طاف بالبيت وبالصفا والمروة ، في أيام العشر» .

قال قيس بن سعد الراوي ، عن عطاء : «والناس ينكرون هذا على معاوية» .

وروى البخاري عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما- قال : «اعتمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قبل أن يحج» .

القول الرابع في كيفية إحرامه صلى الله عليه وسلم الرابع : - الإطلاق .

روى الشيخان ، عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت : خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا نذكر حجا ولا عمرة وفي لفظ «نلبي لا نذكر حجا ولا عمرة» ، وفي لفظ «خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا نرى إلا الحج . حتى إذا دنونا من مكة ، أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من لم يكن معه هدي إذا طاف بين الصفا والمروة ، أن يحل» .

قال الإمام الشافعي- رحمه الله تعالى- أخبرنا سفيان ، أخبرنا ابن طاوس ، وإبراهيم بن ميسرة ، وهشام بن حجير سمعوا طاوسا يقول : «خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من المدينة لا يسمي حجا ولا عمرة ، ينتظر القضاء ، فنزل عليه القضاء بين الصفا والمروة ، فأمر أصحابه من كان منهم أهل ولم يكن معه هدي أن يجعلها عمرة . الحديث» .

فهذه أربعة أقوال : «الإفراد ، والقران ، والتمتع ، والإطلاق ، ورجحا أنه- صلى الله عليه وسلم- كان قارنا ، ورجحه المحب الطبري ، والحافظ ، وغيرهم ، ويأتي تحقيقه بعد تمام القصة ، قال : أهل في مصلاه ، ثم ركب ناقته ، فأهل أيضا ، ثم أهل لما استقلت به على البيداء وكان يهل بالحج والعمرة تارة ، وبالعمرة تارة ، وبالحج تارة لأن العمرة جزء منه ، فمن ثم قيل : قرن . وقيل : تمتع ، وقيل : أفرد ، وكل ذلك وقع بعد صلاة الظهر ، خلافا لابن حزم ، وصاحب الاطلاع . ( الجمع بين الروايات التي قالت أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد بالحج والروايات التي قالت أنه حج قارنا بين الحج والعمرة )

إن قيل : قد رويتم عن جماعة من الصحابة أنه ، عليه الصلاة والسلام ، أفرد الحج ، ثم رويتم عن هؤلاء بأعيانهم وعن غيرهم ، أنه جمع بين الحج والعمرة ، فما الجمع بين ذلك ؟ فالجواب : أن رواية من روى أنه أفرد الحج محمولة على أنه أفرد أفعال الحج ، ودخلت العمرة فيه نية وفعلا ووقتا ، وهذا يدل على أنه اكتفى بطواف الحج وسعيه عنه وعنها ، كما هو مذهب الجمهور في القارن ، خلافا لأبي حنيفة ، رحمه الله ، حيث ذهب إلى أن القارن يطوف طوافين ويسعى سعيين ، واعتمد على ما روي في ذلك عن علي بن أبي طالب ، وفي الإسناد إليه نظر . وأما من روى التمتع ثم روى القران ، فقد قدمنا الجواب عن ذلك بأن التمتع في كلام السلف أعم من التمتع الخاص والقران ، بل ويطلقونه على الاعتمار في أشهر الحج وإن لم يكن معه حج ، كما قال سعد بن أبي وقاص تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا - يعني معاوية - يومئذ كافر بالعرش . يعني بمكة . وإنما يريد بهذا إحدى العمرتين ; إما الحديبية أو القضاء ، فأما عمرة الجعرانة فقد كان معاوية قد أسلم ; لأنها كانت بعد الفتح ، وحجة الوداع بعد ذلك سنة عشر ، وهذا بين واضح . والله أعلم .

الترجيح لرواية من روى القران لوجوه عشرة .

أحدها : أنهم أكثر كما تقدم .

الثاني : أن طرق الإخبار بذلك تنوعت كما بيناه .

الثالث : أن فيهم من أخبر عن سماعه ولفظه صريحا ، وفيهم من أخبر عن إخباره عن نفسه بأنه فعل ذلك وفيهم من أخبر عن أمر ربه له بذلك ولم يجئ شيء من ذلك في الإفراد .

الرابع : تصديق روايات من روى أنه اعتمر أربع عمر لها .

الخامس : أنها صريحة لا تحتمل التأويل بخلاف روايات الإفراد .

السادس : أنها متضمنة زيادة سكت عنها أهل الإفراد أو نفوها ، والذاكر الزائد مقدم على الساكت ، والمثبت مقدم على النافي .

السابع : أن رواة الإفراد أربعة : عائشة ، وابن عمر ، وجابر ، وابن عباس ، والأربعة رووا القران ، فإن صرنا إلى تساقط رواياتهم ، سلمت رواية من عداهم للقران عن معارض ، وإن صرنا إلى الترجيح ، وجب الأخذ برواية من لم تضطرب الرواية عنه ، ولا اختلفت كالبراء ، وأنس ، وعمر بن الخطاب ، وعمران بن حصين ، وحفصة ، ومن معهم ممن تقدم .

الثامن : أنه النسك الذي أمر به من ربه ، فلم يكن ليعدل عنه .

التاسع : أنه النسك الذي أمر به كل من ساق الهدي ، فلم يكن ليأمرهم به إذا ساقوا الهدي ، ثم يسوق هو الهدي ويخالفه .

العاشر : أنه النسك الذي أمر به آله وأهل بيته ، واختاره لهم ، ولم يكن ليختار لهم إلا ما اختار لنفسه .

وثمت ترجيح حادي عشر ، وهو قوله : ( دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ) ، وهذا يقتضي أنها قد صارت جزءا منه ، أو كالجزء الداخل فيه ، بحيث لا يفصل بينها وبينه ، وإنما تكون مع الحج كما يكون الداخل في الشيء معه .

وترجيح ثاني عشر : وهو قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - للصبي بن معبد وقد أهل بحج وعمرة ، فأنكر عليه زيد بن صوحان ، أو سلمان بن ربيعة ، فقال له عمر : هديت لسنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم ، وهذا يوافق رواية عمر عنه - صلى الله عليه وسلم - أن الوحي جاءه من الله بالإهلال بهما جميعا ، فدل على أن القران سنته التي فعلها ، وامتثل أمر الله له بها .

وترجيح ثالث عشر : أن القارن تقع أعماله عن كل من النسكين ، فيقع إحرامه وطوافه وسعيه عنهما معا ، وذلك أكمل من وقوعه عن أحدهما ، وعمل كل فعل على حدة .

وترجيح رابع عشر : وهو أن النسك الذي اشتمل على سوق الهدي أفضل بلا ريب من نسك خلا عن الهدي . فإذا قرن ، كان هديه عن كل واحد من النسكين ، فلم يخل نسك منهما عن هدي ، ولهذا - والله أعلم - أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ساق الهدي أن يهل بالحج والعمرة معا ، وأشار إلى ذلك في المتفق عليه من حديث البراء بقوله : " إني سقت الهدي وقرنت " .

وترجيح خامس عشر : وهو أنه قد ثبت أن التمتع أفضل من الإفراد لوجوه كثيرة ، منها : أنه - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بفسخ الحج إليه ، ومحال أن ينقلهم من الفاضل إلى المفضول الذي هو دونه ، ومنها : أنه تأسف على كونه لم يفعله بقوله : ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة ) .

ومنها : أنه أمر به كل من لم يسق الهدي .

ومنها : أن الحج الذي استقر عليه فعله وفعل أصحابه القران لمن ساق الهدي ، والتمتع لمن لم يسق الهدي ، ولوجوه كثيرة غير هذه ، والمتمتع إذا ساق الهدي ، فهو أفضل من متمتع اشتراه من مكة ، بل في أحد القولين : لا هدي إلا ما جمع فيه بين الحل والحرم . فإذا ثبت هذا ، فالقارن السائق أفضل من متمتع لم يسق ، ومن متمتع ساق الهدي لأنه قد ساق من حين أحرم ، والمتمتع إنما يسوق الهدي من أدنى الحل ، فكيف يجعل مفرد لم يسق هديا ، أفضل من متمتع ساقه من أدنى الحل ؟ فكيف إذا جعل أفضل من قارن ساقه من الميقات ، وهذا بحمد الله واضح .

التالي السابق


الخدمات العلمية