[ ما أمر به الرسول عائشة في حيضها ]

قال ابن إسحاق : فحدثني عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه القاسم بن محمد ، عن عائشة ، قالت : لا يذكر ولا يذكر الناس إلا الحج ، حتى إذا كان بسرف وقد ساق رسول الله صلى الله عليه وسلم معه الهدي وأشراف من أشراف الناس ، أمر الناس أن يحلوا بعمرة ، إلا من ساق الهدي ؛ قالت : وحضت ذلك اليوم ، فدخل علي وأنا أبكي ؛ فقال : ما لك يا عائشة ؟ لعلك نفست ؟ قالت : قلت : نعم ، والله لوددت أني لم أخرج معكم عامي في هذا السفر ؛ فقال : لا تقولن ذلك ، فإنك تقضين كل ما يقضي الحاج إلا أنك لا تطوفين بالبيت . قالت : ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، فحل كل من كان لا هدي معه ، وحل نساؤه بعمرة ، فلما كان يوم النحر أتيت بلحم بقر كثير ، فطرح في بيتي ، فقلت : ما هذا ؟ قالوا : ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه البقر ، حتى إذا كانت ليلة الحصبة ، بعث بي رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أخي عبد الرحمن بن أبي بكر فأعمرني من التنعيم ، مكان عمرتي التي فاتتني .

قال ابن إسحاق : وحدثني نافع ، مولى عبد الله بن عمر ، عن عبد الله بن عمر ، عن حفصة ابنة عمر ، قالت : لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه أن يحللن بعمرة ، قلن : فما يمنعك يا رسول الله أن تحل معنا ؟ فقال : إني أهديت ولبدت ، فلا أحل حتى أنحر هديي قد تنازع العلماء في قصة عائشة : هل كانت متمتعة أو مفردة ؟ فإذا كانت متمتعة ، فهل رفضت عمرتها ، أو انتقلت إلى الإفراد وأدخلت عليها الحج وصارت قارنة ، وهل العمرة التي أتت بها من التنعيم كانت واجبة أم لا ؟ وإذا لم تكن واجبة ، فهل هي مجزئة عن عمرة الإسلام أم لا ؟ واختلفوا أيضا في موضع حيضها ، وموضع طهرها. واختلف الفقهاء في مسألة مبنية على قصة عائشة ، وهي أن المرأة إذا أحرمت بالعمرة ، فحاضت ولم يمكنها الطواف قبل التعريف ، فهل ترفض الإحرام بالعمرة ، وتهل بالحج مفردا ، أو تدخل الحج على العمرة وتصير قارنة ؟ فقال بالقول الأول فقهاء الكوفة ، منهم أبو حنيفة وأصحابه ، وبالثاني : فقهاء الحجاز ، منهم : الشافعي ومالك ، وهو مذهب أهل الحديث كالإمام أحمد وأتباعه .

قال الكوفيون : ثبت في " الصحيحين " ، عن عروة ( عن عائشة أنها قالت : " أهللت بعمرة فقدمت مكة وأنا حائض لم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة ، فشكوت ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال انقضي رأسك ، وامتشطي ، وأهلي بالحج ، ودعي العمرة . قالت : ففعلت فلما قضيت الحج أرسلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم ، فاعتمرت منه . فقال : " هذه مكان عمرتك ) . قالوا : فهذا يدل على أنها كانت متمتعة ، وعلى أنها رفضت عمرتها وأحرمت بالحج ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : " دعي عمرتك " ، ولقوله : ( انقضي رأسك وامتشطي ) . ولو كانت باقية على إحرامها ، لما جاز لها أن تمتشط ، ولأنه قال للعمرة التي أتت بها من التنعيم : " هذه مكان عمرتك " . ولو كانت عمرتها الأولى باقية لم تكن هذه مكانها ، بل كانت عمرة مستقلة .

قال الجمهور : لو تأملتم قصة عائشة حق التأمل ، وجمعتم بين طرقها وأطرافها ، لتبين لكم أنها قرنت ، ولم ترفض العمرة ، ففي " صحيح مسلم " : عن جابر - رضي الله عنه - قال : ( أهلت عائشة بعمرة حتى إذا كانت بسرف عركت ، ثم دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عائشة فوجدها تبكي ، فقال : " ما شأنك " ؟ قالت : شأني أني قد حضت وقد أحل الناس ولم أحل ، ولم أطف بالبيت والناس يذهبون إلى الحج الآن ، قال : إن هذا أمر قد كتبه الله على بنات آدم ، فاغتسلي ، ثم أهلي بالحج " ، ففعلت ووقفت المواقف كلها ، حتى إذا طهرت طافت بالكعبة وبالصفا والمروة . ثم قال : " قد حللت من حجك وعمرتك " ، قالت : يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت . قال : " فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم ) .

وفي " صحيح مسلم " : من حديث طاووس عنها : ( أهللت بعمرة ، وقدمت ولم أطف حتى حضت ، فنسكت المناسك كلها ، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النفر : يسعك طوافك لحجك وعمرتك ) .

فهذه نصوص صريحة ، أنها كانت في حج وعمرة لا في حج مفرد ، وصريحة في أن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد ، وصريحة في أنها لم ترفض إحرام العمرة ، بل بقيت في إحرامها كما هي لم تحل منه . وفي بعض ألفاظ الحديث : ( كوني في عمرتك ، فعسى أن الله يرزقكيها ) ، ولا يناقض هذا قوله : " دعي عمرتك " . فلو كان المراد به رفضها وتركها ، لما قال لها : ( يسعك طوافك لحجك وعمرتك ) ، فعلم أن المراد دعي أعمالها ليس المراد به رفض إحرامها .

وأما قوله : ( انقضي رأسك وامتشطي ) ، فهذا مما أعضل على الناس ، ولهم فيه أربعة مسالك .

أحدها : أنه دليل على رفض العمرة كما قالت الحنفية .

المسلك الثاني : إنه دليل على أنه يجوز للمحرم أن يمشط رأسه ، ولا دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع على منعه من ذلك ولا تحريمه ، وهذا قول ابن حزم وغيره .

المسلك الثالث : تعليل هذه اللفظة ، وردها بأن عروة انفرد بها ، وخالف بها سائر الرواة ، وقد روى حديثها طاووس والقاسم والأسود وغيرهم ، فلم يذكر أحد منهم هذه اللفظة . قالوا : وقد روى حماد بن زيد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه عن عائشة حديث حيضها في الحج ، فقال فيه : حدثني غير واحد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها : ( دعي عمرتك وانقضي رأسك وامتشطي ) ، وذكر تمام الحديث . .. قالوا : فهذا يدل على أن عروة لم يسمع هذه الزيادة من عائشة .

المسلك الرابع : أن قوله " دعي العمرة " ، أي دعيها ، بحالها لا تخرجي منها ، وليس المراد تركها ، قالوا : ويدل عليه وجهان .

أحدهما : قوله : ( يسعك طوافك لحجك وعمرتك ) .

الثاني : قوله : " كوني في عمرتك " . قالوا : وهذا أولى من حمله على رفضها لسلامته من التناقض . قالوا : وأما قوله : " هذه مكان عمرتك فعائشة أحبت أن تأتي بعمرة مفردة ، فأخبرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن طوافها وقع عن حجتها وعمرتها ، وأن عمرتها قد دخلت في حجها ، فصارت قارنة ، فأبت إلا عمرة مفردة كما قصدت أولا ، فلما حصل لها ذلك ، قال : " هذه مكان عمرتك " .

وفي " سنن الأثرم " ، عن الأسود ، قال : قلت لعائشة : اعتمرت بعد الحج ؟ قالت : والله ما كانت عمرة ، ما كانت إلا زيارة زرت البيت .

قال الإمام أحمد : إنما أعمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة حين ألحت عليه ، فقالت : يرجع الناس بنسكين ، وأرجع بنسك ؟ فقال : " يا عبد الرحمن ؛ أعمرها " ، فنظر إلى أدنى الحل ، فأعمرها منه . فصل

واختلف الناس فيما أحرمت به عائشة أولا على قولين .

أحدهما : أنه عمرة مفردة ، وهذا هو الصواب لما ذكرنا من الأحاديث . وفي " الصحيح " عنها ، ( قالت : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع موافين لهلال ذي الحجة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " من أراد منكم أن يهل بعمرة ، فليهل ، فلولا أني أهديت لأهللت بعمرة " . قالت : وكان من القوم من أهل بعمرة ، ومنهم من أهل بالحج ، قالت : فكنت أنا ممن أهل بعمرة ) ، وذكرت الحديث . .. " وقوله في الحديث : " دعي العمرة وأهلي بالحج " ، قاله لها بسرف قريبا من مكة ، وهو صريح في أن إحرامها كان بعمرة .

القول الثاني : أنها أحرمت أولا بالحج وكانت مفردة ، قال ابن عبد البر : روى القاسم بن محمد ، والأسود بن يزيد ، وعمرة كلهم عن عائشة ، ما يدل على أنها كانت محرمة بحج لا بعمرة ، منها : حديث عمرة عنها : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نرى إلا أنه الحج ، وحديث الأسود بن يزيد مثله ، وحديث القاسم : " لبينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحج " . قال وغلطوا عروة في قوله عنها : " كنت فيمن أهل بعمرة " . قال إسماعيل بن إسحاق : قد اجتمع هؤلاء ، يعني الأسود والقاسم وعمرة ، على الروايات التي ذكرنا ، فعلمنا بذلك أن الروايات التي رويت عن عروة غلط ، قال : ويشبه أن يكون الغلط ، إنما وقع فيه أن يكون لم يمكنها الطواف بالبيت ، وأن تحل بعمرة كما فعل من لم يسق الهدي ، فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تترك الطواف ، وتمضي على الحج ، فتوهموا بهذا المعنى أنها كانت معتمرة ، وأنها تركت عمرتها ، وابتدأت بالحج . قال أبو عمر : وقد روى جابر بن عبد الله ، أنها كانت مهلة بعمرة ، كما روى عنها عروة . قالوا : والغلط الذي دخل على عروة ، إنما كان في قوله : ( انقضي رأسك ، وامتشطي ، ودعي العمرة ، وأهلي بالحج ) .

وروى حماد بن زيد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه حدثني غير واحد ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها : ( دعي عمرتك ، وانقضي رأسك ، وامتشطي ، وافعلي ما يفعل الحاج ) . فبين حماد أن عروة لم يسمع هذا الكلام من عائشة .

قلت : من العجب رد هذه النصوص الصحيحة الصريحة التي لا مدفع لها ، ولا مطعن فيها ، ولا تحتمل تأويلا البتة بلفظ مجمل ليس ظاهرا في أنها كانت مفردة ، فإن غاية ما احتج به من زعم أنها كانت مفردة ، قولها : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نرى إلا أنه الحج . فيا لله العجب ! أيظن بالمتمتع أنه خرج لغير الحج ، بل خرج للحج متمتعا ، كما أن المغتسل للجنابة إذا بدأ فتوضأ لا يمتنع أن يقول : خرجت لغسل الجنابة ؟ وصدقت أم المؤمنين - رضي الله عنها - إذ كانت لا ترى إلا أنه الحج حتى أحرمت بعمرة ، بأمره صلى الله عليه وسلم ، وكلامها يصدق بعضه بعضا .

وأما قولها : لبينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحج ، فقد قال جابر عنها في " الصحيحين " : إنها أهلت بعمرة ، وكذلك قال طاووس عنها في " صحيح مسلم " ، وكذلك قال مجاهد عنها ، فلو تعارضت الروايات عنها ، فرواية الصحابة عنها أولى أن يؤخذ بها من رواية التابعين ، كيف ولا تعارض في ذلك البتة ، فإن القائل فعلنا كذا ، يصدق ذلك منه بفعله ، وبفعل أصحابه .

ومن العجب أنهم يقولون في قول ابن عمر : تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعمرة إلى الحج ، معناه : تمتع أصحابه ، فأضاف الفعل إليه لأمره به ، فهلا قلتم في قول عائشة : لبينا بالحج إن المراد به جنس الصحابة الذين لبوا بالحج . وقولها : فعلنا ، كما قالت : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسافرنا معه ونحوه . ويتعين قطعا - إن لم تكن هذه الرواية غلطا - أن تحمل على ذلك للأحاديث الصحيحة الصريحة ، أنها كانت أحرمت بعمرة وكيف ينسب عروة في ذلك إلى الغلط ، وهو أعلم الناس بحديثها وكان يسمع منها مشافهة بلا واسطة .

وأما قوله في رواية حماد : حدثني غير واحد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها : " دعي عمرتك " ، فهذا إنما يحتاج إلى تعليله ، ورده إذا خالف الروايات الثابتة عنها ، فأما إذا وافقها وصدقها ، وشهد لها أنها أحرمت بعمرة ، فهذا يدل على أنه محفوظ ، وأن الذي حدث به ضبطه وحفظه ، هذا مع أن حماد بن زيد انفرد بهذه الرواية المعللة ، وهي قوله : فحدثني غير واحد ، وخالفه جماعة ، فرووه متصلا عن عروة عن عائشة .

فلو قدر التعارض ، فالأكثرون أولى بالصواب ، فيا لله العجب ! كيف يكون تغليط أعلم الناس بحديثها وهو عروة في قوله عنها : " وكنت فيمن أهل بعمرة " سائغا بلفظ مجمل محتمل ، ويقضى به على النص الصحيح الصريح الذي شهد له سياق القصة من وجوه متعددة قد تقدم ذكر بعضها ؟ فهؤلاء أربعة رووا عنها ، أنها أهلت بعمرة جابر ، وعروة ، وطاووس ، ومجاهد ، فلو كانت رواية القاسم وعمرة والأسود ، معارضة لرواية هؤلاء لكانت روايتهم أولى بالتقديم لكثرتهم ، ولأن فيهم جابرا ، ولفضل عروة وعلمه بحديث خالته رضي الله عنها .

ومن العجب قوله : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أمرها أن تترك الطواف ، وتمضي على الحج ، توهموا لهذا أنها كانت معتمرة ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أمرها أن تدع العمرة وتنشئ إهلالا بالحج ، فقال لها : " وأهلي بالحج " ، ولم يقل : " استمري عليه " ، ولا امضي فيه ، وكيف يغلط راوي الأمر بالامتشاط بمجرد مخالفته لمذهب الراد ؟ فأين في كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة ما يحرم على المحرم تسريح شعره ولا يسوغ تغليط الثقات لنصرة الآراء والتقليد . والمحرم وإن أمن من تقطيع الشعر ، لم يمنع من تسريح رأسه ، وإن لم يأمن من سقوط شيء من الشعر بالتسريح ، فهذا المنع منه محل نزاع واجتهاد ، والدليل يفصل بين المتنازعين ، فإن لم يدل كتاب ولا سنة ولا إجماع على منعه فهو جائز . فصل

وللناس في هذه العمرة التي أتت بها عائشة من التنعيم أربعة مسالك . أحدها : أنها كانت زيادة تطييبا لقلبها وجبرا لها ، وإلا فطوافها وسعيها وقع عن حجها وعمرتها ، وكانت متمتعة ثم أدخلت الحج على العمرة ، فصارت قارنة ، وهذا أصح الأقوال ، والأحاديث لا تدل على غيره ، وهذا مسلك الشافعي وأحمد وغيرهما .

المسلك الثاني : أنها لما حاضت أمرها أن ترفض عمرتها ، وتنتقل عنها إلى حج مفرد ، فلما حلت من الحج أمرها أن تعتمر ؛ قضاء لعمرتها التي أحرمت بها أولا ، وهذا مسلك أبي حنيفة ومن تبعه ، وعلى هذا القول فهذه العمرة كانت في حقها واجبة ، ولا بد منها ، وعلى القول الأول كانت جائزة ، وكل متمتعة حاضت ولم يمكنها الطواف قبل التعريف ، فهي على هذين القولين ، إما أن تدخل الحج على العمرة ، وتصير قارنة ، وإما أن تنتقل عن العمرة إلى الحج ، وتصير مفردة ، وتقضي العمرة .

المسلك الثالث : أنها لما قرنت ، لم يكن بد من أن تأتي بعمرة مفردة ، لأن عمرة القارن لا تجزئ عن عمرة الإسلام ، وهذا أحد الروايتين عن أحمد .

المسلك الرابع : أنها كانت مفردة ، وإنما امتنعت من طواف القدوم لأجل الحيض ، واستمرت على الإفراد حتى طهرت ، وقضت الحج ، وهذه العمرة هي عمرة الإسلام ، وهذا مسلك القاضي إسماعيل بن إسحاق وغيره من المالكية ، ولا يخفى ما في هذا المسلك من الضعف ، بل هو أضعف المسالك في الحديث .

وحديث عائشة هذا يؤخذ منه أصول عظيمة من أصول المناسك .

أحدها : اكتفاء القارن بطواف واحد وسعي واحد .

الثاني : سقوط طواف القدوم عن الحائض ، كما أن حديث صفية زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أصل في سقوط طواف الوداع عنها .

الثالث : أن إدخال الحج على العمرة للحائض جائز ، كما يجوز للطاهر ، وأولى ؛ لأنها معذورة محتاجة إلى ذلك .

الرابع : أن الحائض تفعل أفعال الحج كلها ، إلا أنها لا تطوف بالبيت .

الخامس : أن التنعيم من الحل .

السادس : جواز عمرتين في سنة واحدة ، بل في شهر واحد .

السابع : أن المشروع في حق المتمتع إذا لم يأمن الفوات أن يدخل الحج على العمرة ، وحديث عائشة أصل فيه .

الثامن : أنه أصل في العمرة المكية ، وليس مع من يستحبها غيره ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعتمر هو ولا أحد ممن حج معه من مكة خارجا منها إلا عائشة وحدها ، فجعل أصحاب العمرة المكية قصة عائشة أصلا لقولهم ، ولا دلالة لهم فيها ، فإن عمرتها إما أن تكون قضاء للعمرة المرفوضة عند من يقول : إنها رفضتها ، فهي واجبة قضاء لها ، أو تكون زيادة محضة ، وتطييبا لقلبها عند من يقول : إنها كانت قارنة ، وإن طوافها وسعيها أجزأها عن حجها وعمرتها . والله أعلم . فصل

وأما كون عمرتها تلك مجزئة عن عمرة الإسلام ، ففيه قولان للفقهاء وهما روايتان عن أحمد ، والذين قالوا : لا تجزئ ، قالوا : العمرة المشروعة التي شرعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفعلها نوعان لا ثالث لهما : عمرة التمتع ، وهي التي أذن فيها عند الميقات ، وندب إليها في أثناء الطريق وأوجبها على من لم يسق الهدي عند الصفا والمروة . الثانية : العمرة المفردة التي ينشأ لها سفر ، كعمره المتقدمة ، ولم يشرع عمرة مفردة غير هاتين ، وفي كلتيهما المعتمر داخل إلى مكة .

وأما عمرة الخارج إلى أدنى الحل فلم تشرع . وأما عمرة عائشة ، فكانت زيارة محضة ، وإلا فعمرة قرانها قد أجزأت عنها بنص رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، وهذا دليل على أن عمرة القارن تجزئ عن عمرة الإسلام ، وهذا هو الصواب المقطوع به ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة : ( يسعك طوافك لحجك وعمرتك ) ، وفي لفظ : " يجزئك " ، وفي لفظ : " يكفيك " . وقال : ( دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ) ، وأمر كل من ساق الهدي أن يقرن بين الحج والعمرة ، ولم يأمر أحدا ممن قرن معه وساق الهدي بعمرة أخرى غير عمرة القران ، فصح إجزاء عمرة القارن عن عمرة الإسلام قطعا وبالله التوفيق . فصل

وأما موضع حيضها ، فهو بسرف بلا ريب ، وموضع طهرها قد اختلف فيه ، فقيل : بعرفة هكذا روى مجاهد عنها ، وروى عروة عنها أنها أظلها يوم عرفة وهي حائض ولا تنافي بينهما ، والحديثان صحيحان ، وقد حملهما ابن حزم على معنيين ، فطهر عرفة : هو الاغتسال للوقوف بها عنده ، قال : لأنها قالت : تطهرت بعرفة ، والتطهر غير الطهر ، قال : وقد ذكر القاسم يوم طهرها ، أنه يوم النحر ، وحديثه في " صحيح مسلم " . قال : وقد اتفق القاسم وعروة على أنها كانت يوم عرفة حائضا ، وهما أقرب الناس منها . وقد روى أبو داود : حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عنها : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موافين هلال ذي الحجة . .. فذكرت الحديث ، وفيه فلما كانت ليلة البطحاء ، طهرت عائشة ، وهذا إسناد صحيح لكن قال ابن حزم : إنه حديث منكر ، مخالف لما روى هؤلاء كلهم عنها ، وهو قوله : إنها طهرت ليلة البطحاء ، وليلة البطحاء كانت بعد يوم النحر بأربع ليال ، وهذا محال إلا أننا لما تدبرنا وجدنا هذه اللفظة ليست من كلام عائشة ، فسقط التعلق بها ، لأنها ممن دون عائشة ، وهي أعلم بنفسها . قال : وقد روى حديث حماد بن سلمة هذا وهيب بن خالد ، وحماد بن زيد ، فلم يذكرا هذه اللفظة .

قلت : يتعين تقديم حديث حماد بن زيد ومن معه على حديث حماد بن سلمة لوجوه .

أحدها : أنه أحفظ وأثبت من حماد بن سلمة .

الثاني : أن حديثهم فيه إخبارها عن نفسها ، وحديثه فيه الإخبار عنها .

الثالث : أن الزهري روى عن عروة عنها الحديث ، وفيه : فلم أزل حائضا حتى كان يوم عرفة ، وهذه الغاية هي التي بينها مجاهد والقاسم عنها ، لكن قال مجاهد عنها : فتطهرت بعرفة ، والقاسم قال : يوم النحر . وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه لما كان بسرف ، : ( من لم يكن معه هدي ، فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل ، ومن كان معه هدي فلا ) ، وهذه رتبة أخرى فوق رتبة التخيير عند الميقات .

فلما كان بمكة ، أمر أمرا حتما من لا هدي معه أن يجعلها عمرة ويحل من إحرامه ، ومن معه هدي أن يقيم على إحرامه ، ولم ينسخ ذلك شيء البتة ، بل سأله سراقة بن مالك عن هذه العمرة التي أمرهم بالفسخ إليها ، هل هي لعامهم ذلك أم للأبد ، قال : ( بل للأبد ، وإن العمرة قد دخلت في الحج إلى يوم القيامة ) .

وقد روى عنه - صلى الله عليه وسلم - الأمر بفسخ الحج إلى العمرة أربعة عشر من أصحابه ، وأحاديثهم كلها صحاح ، وهم عائشة وحفصة أما المؤمنين ، وعلي بن أبي طالب ، وفاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، وأسماء بنت أبي بكر الصديق ، وجابر بن عبد الله ، وأبو سعيد الخدري ، والبراء بن عازب ، وعبد الله بن عمر ، وأنس بن مالك ، وأبو موسى الأشعري ، وعبد الله بن عباس ، وسبرة بن معبد الجهني ، وسراقة بن مالك المدلجي رضي الله عنهم ، ونحن نشير إلى هذه الأحاديث .

ففي " الصحيحين " : عن ابن عباس ، ( قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج ، فأمرهم أن يجعلوها عمرة ، فتعاظم ذلك عندهم ، فقالوا : يا رسول الله ! أي الحل ؟ فقال " الحل كله ) .

وفي لفظ لمسلم : ( قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لأربع خلون من العشر إلى مكة ، وهم يلبون بالحج ، فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجعلوها عمرة ، وفي لفظ : وأمر أصحابه أن يجعلوا إحرامهم بعمرة إلا من كان معه الهدي ) .

وفي " الصحيحين " عن جابر بن عبد الله : ( أهل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بالحج ، وليس مع أحد منهم هدي غير النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلحة ، وقدم علي - رضي الله عنه - من اليمن ومعه هدي ، فقال أهللت بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعلوها عمرة ، ويطوفوا ، ويقصروا ، ويحلوا إلا من كان معه الهدي ، قالوا : ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ، ولولا أن معي الهدي لأحللت ) ، وفي لفظ : فقام فينا فقال : ( لقد علمتم أني أتقاكم لله وأصدقكم ، وأبركم ، ولولا أن معي الهدي لحللت كما تحلون ، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ، لم أسق الهدي ، فحلوا " فحللنا ، وسمعنا وأطعنا ) ، وفي لفظ : ( أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أحللنا ، أن نحرم إذا توجهنا إلى منى . قال : فأهللنا من الأبطح ، فقال سراقة بن مالك بن جعشم : يا رسول الله ! لعامنا هذا أم للأبد ؟ قال للأبد ) .

وهذه الألفاظ كلها في الصحيح ، وهذا اللفظ الأخير صريح في إبطال قول من قال : إن ذلك كان خاصا بهم ، فإنه حينئذ يكون لعامهم ذلك وحده لا للأبد ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إنه للأبد .

وفي " المسند " : عن ابن عمر ( قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة وأصحابه مهلين بالحج ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من شاء أن يجعلها عمرة إلا من كان معه الهدي " . قالوا : يا رسول الله ! أيروح أحدنا إلى منى وذكره يقطر منيا ؟ قال : " نعم " وسطعت المجامر ) .

وفي " السنن " : عن الربيع بن سبرة ، عن أبيه : ( خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كنا بعسفان ، قال سراقة بن مالك المدلجي : يا رسول الله ! اقض لنا قضاء قوم كأنما ولدوا اليوم ، فقال : " إن الله عز وجل قد أدخل عليكم في حجة عمرة ، فإذا قدمتم ، فمن تطوف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة ، فقد حل إلا من معه هدي ) .

وفي " الصحيحين " عن عائشة : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نذكر إلا الحج . .. فذكرت الحديث ، وفيه : ( فلما قدمنا مكة ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه "اجعلوها عمرة " ، فأحل الناس إلا من كان معه الهدي . .. ) ، وذكرت باقي الحديث .

وفي لفظ للبخاري : ( خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نرى إلا الحج ، فلما قدمنا تطوفنا بالبيت ، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من لم يكن ساق الهدي أن يحل ، فحل من لم يكن ساق الهدي ونساؤه لم يسقن ، فأحللن ) .

وفي لفظ لمسلم : ( دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو غضبان ، فقلت : من أغضبك يا رسول الله أدخله الله النار . قال : أوما شعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون ، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت . ما سقت الهدي معي حتى أشتريه ، ثم أحل كما حلوا ) . وقال مالك : عن يحيى بن سعيد ، عن عمرة ، قالت : سمعت ( عائشة تقول : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخمس ليال بقين من ذي القعدة ، ولا نرى إلا أنه الحج ، فلما دنونا من مكة ، أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة أن يحل ) ، قال يحيى بن سعيد : فذكرت هذا الحديث للقاسم بن محمد ، فقال : أتتك والله بالحديث على وجهه .

وفي " صحيح مسلم " : عن ابن عمر ، قال : حدثتني حفصة ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أزواجه أن يحللن عام حجة الوداع ، فقلت : ما منعك أن تحل ؟ فقال : " إني لبدت رأسي ، وقلدت هديي ، فلا أحل حتى أنحر الهدي ) .

وفي " صحيح مسلم : ( عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما ، خرجنا محرمين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كان معه هدي فليقم على إحرامه ، ومن لم يكن معه هدي فليحلل ) ، وذكرت الحديث .

وفي " صحيح مسلم " أيضا : ( عن أبي سعيد الخدري ، قال : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نصرخ بالحج صراخا ، فلما قدمنا مكة أمرنا أن نجعلها عمرة إلا من ساق الهدي . فلما كان يوم التروية ، ورحنا إلى منى ، أهللنا بالحج ) .

وفي " صحيح البخاري " : عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : ( أهل المهاجرون والأنصار ، وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع ، وأهللنا فلما قدمنا مكة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي . .. ) ( نقل الخلاف فيمن لم يسق الهدي هل له فسخ أم لا )

وقد اختلف العلماء في ذلك ، فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي : كان ذلك من خصائص الصحابة ، ثم نسخ جواز الفسخ لغيرهم . وتمسكوا بقول أبي ذر ، رضي الله عنه : لم يكن فسخ الحج إلى العمرة إلا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . رواه مسلم . وأما الإمام أحمد فرد ذلك وقال : قد رواه أحد عشر صحابيا ، فأين تقع هذه الرواية من ذلك ؟! وذهب ، رحمه الله ، إلى جواز الفسخ لغير الصحابة . وقال ابن عباس ، رضي الله عنهما ، بوجوب الفسخ على كل من لم يسق الهدي ، بل عنده أنه يحل شرعا إذا طاف بالبيت ولم يكن ساق هديا صار حلالا بمجرد ذلك ، وليس عنده النسك إلا القران لمن ساق الهدي ، أو التمتع لمن لم يسق . فالله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية