فخطب الناس قبل الصلاة على راحلته خطبة عظيمة .

قلت : وهو قائم في الركابين- كما عند أبي داود- عن العداء بن خالد- رضي الله تعالى عنه- .

ونص الخطبة بعد الحمد لله ، والثناء عليه ، «أيها الناس : إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم ، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ، وقد بلغت ، فمن كانت عنده أمانة فليردها لمن ائتمنه عليها ، ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية موضوع تحت قدمي ، وإن أول دمائكم أضع ، وفي رواية : وإن أول دم أضع من دمائنا دم ربيعة ، وفي رواية : دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، وكان مسترضعا في بني سعد بن بكر فقتلته هذيل .

وعند ابن إسحاق ، والنسائي ، في بني ليث فقتلته هذيل ، فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية ، وإن كل ربا موضوع ، ولكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون قضى الله أنه لا ربا ، وإن أول ربا أضع ربا العباس بن عبد المطلب ، فإنه موضوع كله .

أما بعد أيها الناس الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه أبدا ولكنه إن يطمع فيما سوى ذلك فقد رضي بما تحقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم ، أيها الناس إن النسيء زيادة في الكفر ، يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ، ويحرمونه عاما ، ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله ويحرموا ما أحل الله ، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرا ، وفي رواية «إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ، ثلاثة متوالية : ذي القعدة وذي الحجة والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» .

«أما بعد أيها الناس : اتقوا الله واستوصوا بالنساء خيرا ، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهم شيئا وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله» . وفي رواية «بكتاب الله ، ولكم عليهن حق ، ولهن عليكم حق ، لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبينة ، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح ، فإن انتهين فلهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف .

فاعقلوا أيها الناس قولي- فإني قد بلغت- وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعدي أبدا- إن اعتصمتم به- أمرين ، وفي رواية أمرا بينا كتاب الله عز وجل وسنة نبيه- صلى الله عليه وسلم- .


أيها الناس اسمعوا قولي واعقلوه ، تعلمن أن كل مسلم أخ لمسلم ، وفي رواية : أخو المسلم وأن المسلمين إخوة ، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس ، فلا تظلمن أنفسكم واعلموا أن القلوب لا تغل على ثلاث : إخلاص العمل لله عز وجل ومناصحة أولي الأمر ، وعلى لزوم جماعة المسلمين ، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم ، ومن تكن الدنيا نيته يجعل الله فقره بين عينيه ويشتت عليه ضيعته ، ولا يأتيه منها إلا ما كتب له ، ومن تكن الآخرة نيته يجعل الله غناه في قلبه ، ويكفيه ضيعته وتأتيه الدنيا وهي راغمة ، فرحم الله امرأ سمع مقالتي حتى يبلغه غيره ، ورب حامل فقه وليس بفقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ، أرقاءكم أرقاءكم أطعموهم مما تأكلون ، واكسوهم مما تلبسون ، فإن جاء بذنب لا تريدون أن تغفروه فبيعوا عباد الله ، ولا تعذبوهم ، أوصيكم بالجار- حتى أكثر- فقلنا إنه سيورثه .

أيها الناس : إن الله قد أدى لكل ذي حق حقه ، وإنه لا يجوز وصية لوارث ، والولد للفراش ، وللعاهر الحجر ، ومن ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه ، فعليه لعنة الله ، والملائكة ، والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا ، العارية مؤداة ، والنحلة مردودة ، والدين مقضي والزعيم غارم .

أما بعد : فإن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون من ها هنا عند غروب الشمس حتى تكون الشمس على رءوس الجبال مثل عمائم الرجال على رءوسها . هدينا مخالف هديهم ، وكانوا يدفعون من المشعر الحرام عند طلوع الشمس على رءوس الجبال مثل عمائم الرجال على رءوسها . ويقولون : أشرق ثبير كيما نغير فأخر الله هذه وقدم هذه ، يعني : قدم المزدلفة قبل طلوع الشمس ، وأخر عرفة إلى أن تغيب الشمس ، وإنا لا ندفع من عرفة حتى تغيب الشمس ، وندفع من المزدلفة حتى تطلع الشمس ، وهدينا مخالف لهدي الأوثان والشرك» .

قلت : وفي حديث المسور بن مخرمة- رضي الله تعالى عنه- قال : خطبنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعرفات فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : «أما بعد : فإن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون من هذا الموضع إذا كانت الشمس على رءوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوهها ، وإنا ندفع بعد أن تغيب وكانوا يدفعون من المشعر الحرام إذا كانت الشمس منبسطة» ، رواه الطبراني برجال الصحيح .

«وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون ؟ » قالوا : نشهد أنك بلغت ، وأديت ، ونصحت ، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها على الناس «اللهم اشهد ، اللهم اشهد ، اللهم اشهد» . ثلاث مرات .

قلت : روى البيهقي ، عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- «أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خطب بعرفات ، فلما قال : «لبيك اللهم لبيك ، قال إنما الخير خير الآخرة» . [ اسم الصارخ بكلام الرسول وما كان يردده ]

قال ابن إسحاق : وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه عباد قال : كان الرجل الذي يصرخ في الناس يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معرفة ، ربيعة بن أمية بن خلف .

قال : يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم : قل يأيها الناس ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : هلا تدرون أي شهر هذا ؟ فيقول لهم ، فيقولون : الشهر الحرام ؛ فيقول : قل لهم : إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة شهركم هذا ؛ ثم يقول : قل : يأيها الناس ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : هل تدرون أي بلد هذا ؟ قال : فيصرخ به ؛ قال : فيقولون البلد الحرام ؛ قال : فيقول : قل لهم : إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة بلدكم هذا ؛ قال : ثم يقول : قل : يا أيها الناس ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : هل تدرون أي يوم هذا ؟ قال : فيقوله لهم . فيقولون : يوم الحج الأكبر ؛ قال : فيقول : قل لهم : إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا

التالي السابق


الخدمات العلمية