وقوفه ، عليه الصلاة والسلام ، بالمشعر الحرام ، ودفعه من المزدلفة قبل طلوع الشمس ، وإيضاعه في وادي محسر

لما برق الفجر ، صلاها في أول الوقت خلافا لمن زعم أنه صلاها قبل الوقت بأذان وإقامة ، يوم النحر ، وهو يوم العيد ، وهو يوم الحج الأكبر ، وهو يوم الأذان ببراءة الله ورسوله من كل مشرك ، ثم ركب القصواء حتى أتى موقفه عند المشعر الحرام فوقف على قزح وقال : «كل المزدلفة موقفنا إلا بطن محسر» ، فاستقبل القبلة ، وأخذ في الدعاء والتضرع والتهليل ، والتكبير ، والذكر ، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا ، وذلك قبل طلوع الشمس .

قلت : وكان أهل الجاهلية لا يدفعون حتى تطلع الشمس على ثبير ، ويقولون : أشرق ثبير كيما نغير . فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إن قريشا خالفت هدي إبراهيم ، فدفع طلوع الشمس .

وهنالك سأله عروة بن مضرس بن الطائي ، فقال : يا رسول الله : إني جئت من جبل طيئ أكللت راحلتي وأتعبت نفسي ، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه ، فهل لي من حج ؟ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «من شهد صلاتنا هذه ، فوقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا ، فقد أتم حجه وقضى تفثه» . وبهذا احتج من ذهب إلى أن الوقوف بمزدلفة والمبيت بها ، ركن كعرفة ، وهو مذهب اثنين من الصحابة : ابن عباس ، وابن الزبير - رضي الله عنهما - ، وإليه ذهب إبراهيم النخعي ، والشعبي ، وعلقمة ، والحسن البصري ، وهو مذهب الأوزاعي ، وحماد بن أبي سليمان ، وداود الظاهري ، وأبي عبيد القاسم بن سلام ، واختاره المحمدان : ابن جرير ، وابن خزيمة ، وهو أحد الوجوه للشافعية ، ولهم ثلاث حجج . هذه إحداها ، والثانية : قوله تعالى : ( فاذكروا الله عند المشعر الحرام ) [ البقرة 198 ] .

والثالثة : فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي خرج مخرج البيان لهذا الذكر المأمور به .

واحتج من لم يره ركنا ، بأمرين :

أحدهما : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مد وقت الوقوف بعرفة إلى طلوع الفجر ، وهذا يقتضي أن من وقف بعرفة قبل طلوع الفجر بأيسر زمان ، صح حجه ، ولو كان الوقوف بمزدلفة ركنا لم يصح حجه .

الثاني : أنه لو كان ركنا ، لاشترك فيه الرجال والنساء ، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النساء بالليل ، علم أنه ليس بركن ، وفي الدليلين نظر ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قدمهن بعد المبيت بمزدلفة ، وذكر الله تعالى بها لصلاة عشاء الآخرة ، والواجب هو ذلك . وأما توقيت الوقوف بعرفة إلى الفجر ، فلا ينافي أن يكون المبيت بمزدلفة ركنا ، وتكون تلك الليلة وقتا لهما كوقت المجموعتين من الصلوات ، وتضييق الوقت لأحدهما لا يخرجه عن أن يكون وقتا لهما حال القدرة . ثم سار بمزدلفة مردفا للفضل بن عباس ، وهو يلبي في مسيره ، وانطلق أسامة بن زيد على رجليه في سباق قريش ، وفي طريقه ذلك ، أمر الفضل بن عباس أن يلقط له حصى الجمار سبع حصيات ، ولم يكسرها من الجبل ، تلك الليلة كما يفعل من لا علم عنده ولا التقطها بالليل ، فالتقط له سبع حصيات من حصى الخذف فجعل ينفضهن في كفه ويقول : «أمثال هؤلاء ، فارموا ، وإياكم والغلو في الدين ، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» ،

وفي طريقه تلك عرضت له امرأة من خثعم جميلة ، فسألته عن الحج عن أبيها- وكان شيخا كبيرا لا يستمسك على الراحلة- فأمرها أن تحج عنه ، وجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه ، فوضع يده على وجهه فصرفه إلى الشق الآخر لئلا تنظر إليه ولا ينظر إليها .

قلت : في حديث جابر وكان الفضل رجلا حسن الشعر أبيض وسيما ، والله تعالى أعلم .

فقال العباس لويت عنق ابن عمك ، فقال : «رأيت شابا وشابة ، فلم آمن الشيطان عليهما» .

وسأله آخر هناك عن أمه ، وقال : «إنها عجوز كبيرة ، وإن حملتها لم تستمسك وإن ربطتها خشيت أن أقتلها» ، قال : «أرأيت إن كان على أمك دين أكنت قاضيه ؟ » قال : نعم . قال «فحج عن أمك»

فلما أتى بطن محسر حرك ناقته وأسرع السير ، وهذه كانت عادته- صلى الله عليه وسلم- في المواضع التي نزل فيها بأس الله بأعدائه ، فإن هنالك أصاب الفيل ما قص الله علينا . ولذلك سمي الوادي وادي محسر ، لأن الفيل حسر فيه أي أعيا وانقطع عن الذهاب .

ومحسر برزخ بين منى ومزدلفة لا من هذه ولا من هذه ، وعرنة برزخ بين عرفة والمشعر الحرام ، فبين كل مشعرين برزخ ليس منها ، فمنى من الحرم ، وهي مشعر ، ومحسر من الحرم وليس بمشعر ، ومزدلفة حرم ومشعر ، وعرنة ليست بمشعر ، وهي من الحل وعرفة حل ومشعر .

قلت : كذا في أكثر الروايات .

وفي حديث أم جندب ، عند أبي داود وغيره ، أنه كان راكبا يظله الفضل بن العباس وهو غريب مخالف للروايات الصحيحة .

وسلك الطريق الوسطى بين الطريقين ، وهي التي تخرج على الجمرة الكبرى ، حتى أتى منى .

قلت : قال ابن سعد : ولم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة .

التالي السابق


الخدمات العلمية