( انصراف النبي إلى المنحر ونحره ثلاثا وستين بيده )

ثم انصرف إلى النحر بمنى ، فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده بالحربة وكان ينحرها قائمة معقولة اليسرى وكان عدد هذا الذي نحره عدد سنين عمره- صلى الله عليه وسلم- ثم أمسك وأمر عليا أن ينحر ما بقي من المائة ، ثم أمره أن يتصدق بجلالها وجلودها ولحومها ، في المساكين ، وأمره أن لا يعطي الجزار في جزارتها شيئا منها ، وقال : «نحن نعطيه من عندنا ، وقال : من شاء اقتطع» .

قلت : في حديث ابن جريج عن جعفر بن محمد عن جابر ثم أمر من كل بدنة ببضعة ، فجعلت في قدر ، فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها والله تعالى أعلم .

قال ابن جريج : قلت من الذي أكل مع النبي- صلى الله عليه وسلم- وشرب من المرق ؟ قال جعفر : علي بن أبي طالب أكل مع النبي- صلى الله عليه وسلم- وشرب من المرق .

وقول أنس- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نحر بيده سبع بدن قياما .

حمله أبو محمد- رحمه الله تعالى- على أنه- صلى الله عليه وسلم- لم ينحر بيده أكثر من سبع بدن كما قال أنس وأنه أمر من ينحر ما بعد ذلك إلى تمام ثلاث وستين ، ثم زال عن ذلك المكان ، وأمر عليا فنحر ما بقي ، أو أنه لم يشاهد إلا نحره- صلى الله عليه وسلم- سبعا فقط بيده ، وشاهد جابر تمام نحره- صلى الله عليه وسلم- للباقي ، فأخبر كل واحد منهما بما رأى وشاهد ، وأنه- صلى الله عليه وسلم- نحر بيده مفردا سبع بدن كما قال أنس ثم أخذ هو وعلي الحربة معا فنحرا كذلك تمام ثلاث وستين كما قال عروة بن الحارث الكندي أنه شاهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يومئذ أخذ بأعلى الحربة ، وأمر عليا فأخذ بأسفلها ، ونحرا بها البدن ، ثم انفرد علي بنحر الباقي من المائة كما قال جابر .

وحديث عبد الله بن قرط- رضي الله تعالى عنه- «أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قرب له بدنات خمس فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ ، فلما وجبت جنوبها ، تكلم بكلمة خفية لم أفهمها .

فقلت : ما قال ؟ قال من شاء اقتطع لا يلزم منه أنه نحر خمسا فقط ، فإن المائة لم تقرب إليه جملة ، وإنما كانت تقرب إليه أرسالا ، فقرب منها خمس بدنات رسلا ، وكان ذلك الرسل يبادرن ويتقربن إليه ، لكي يبدأ بكل واحدة منهن . قلت : وضحى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن نسائه بالبقر .

وأما قول عائشة : ضحى عن نسائه بالبقر ، فهو هدي أطلق عليه اسم الأضحية ، وأنهن كن متمتعات ، وعليهن الهدي ، فالبقر الذي نحره عنهن هو الهدي الذي يلزمهن .

ولكن في قصة نحر البقرة عنهن وهن تسع إشكال : وهو إجزاء البقرة عن أكثر من سبعة .

وأجاب أبو محمد ابن حزم عنه بجواب على أصله ، وهو أن عائشة لم تكن معهن في ذلك ، فإنها كانت قارنة وهن متمتعات ، وعنده لا هدي على القارن ، وأيد قوله بالحديث الذي رواه مسلم من حديث هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موافين لهلال ذي الحجة ، فكنت فيمن أهل بعمرة ، فخرجنا حتى قدمنا مكة ، فأدركني يوم عرفة وأنا حائض لم أحل من عمرتي ، فشكوت ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : " دعي عمرتك وانقضي رأسك ، وامتشطي ، وأهلي بالحج ". قالت : ففعلت . فلما كانت ليلة الحصبة وقد قضى الله حجنا ، أرسل معي عبد الرحمن بن أبي بكر ، فأردفني ، وخرج إلى التنعيم ، فأهللت بعمرة فقضى الله حجنا وعمرتنا ، ولم يكن في ذلك هدي ولا صدقة ولا صوم .

وهذا مسلك فاسد تفرد به ابن حزم عن الناس . والذي عليه الصحابة والتابعون ، ومن بعدهم ، أن القارن يلزمه الهدي ، كما يلزم المتمتع ، بل هو متمتع حقيقة في لسان الصحابة ، كما تقدم وأما هذا الحديث فالصحيح أن هذا الكلام الأخير من قول هشام بن عروة ، جاء ذلك في " صحيح مسلم " مصرحا به ، فقال حدثنا أبو كريب ، حدثنا وكيع ، حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه عن عائشة - رضي الله عنها - . . . فذكرت الحديث . وفي آخره : قال عروة في ذلك : إنه قضى الله حجها وعمرتها . قال هشام : ولم يكن في ذلك هدي ولا صيام ولا صدقة .

قال أبو محمد : إن كان وكيع جعل هذا الكلام لهشام ، فابن نمير ، وعبدة أدخلاه في كلام عائشة ، وكل منهما ثقة فوكيع نسبه إلى هشام ؛ لأنه سمع هشاما يقوله ، وليس قول هشام إياه بدافع أن تكون عائشة قالته ، فقد يروي المرء حديثا يسنده ، ثم يفتي به دون أن يسنده ، فليس شيء من هذا بمتدافع وإنما يتعلل بمثل هذا من لا ينصف ومن اتبع هواه ، والصحيح من ذلك أن كل ثقة فمصدق فيما نقل . فإذا أضاف عبدة وابن نمير القول إلى عائشة ، صدقا لعدالتهما . وإذا أضافه وكيع إلى هشام ، صدق أيضا لعدالته ، وكل صحيح ، وتكون عائشة قالته وهشام قاله .

قلت : هذه الطريقة هي اللائقة بظاهريته ، وظاهرية أمثاله ممن لا فقه له في علل الأحاديث ، كفقه الأئمة النقاد أطباء علله ، وأهل العناية بها ، وهؤلاء لا يلتفتون إلى قول من خالفهم ممن ليس له ذوقهم ومعرفتهم ، بل يقطعون بخطئه بمنزلة الصيارف النقاد ، الذين يميزون بين الجيد والرديء ، ولا يلتفتون إلى خطإ من لم يعرف ذلك .

ومن المعلوم ، أن عبدة وابن نمير لم يقولا في هذا الكلام : قالت عائشة ، وإنما أدرجاه في الحديث إدراجا ، يحتمل أن يكون من كلامهما ، أو من كلام عروة ، أو من هشام ، فجاء وكيع ، ففصل وميز ، ومن فصل وميز فقد حفظ وأتقن ما أطلقه غيره ، نعم لو قال ابن نمير وعبدة : قالت عائشة ، وقال وكيع : قال هشام ، لساغ ما قال أبو محمد وكان موضع نظر وترجيح .

وأما كونهن تسعا وهي بقرة واحدة ، فهذا قد جاء بثلاثة ألفاظ ، أحدها أنها بقرة واحدة بينهن ، والثاني : أنه ضحى عنهن يومئذ بالبقرة ، والثالث دخل علينا يوم النحر بلحم بقر ، فقلت : ما هذا ؟ فقيل : ذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أزواجه .

وقد اختلف الناس في عدد من تجزئ عنهم البدنة والبقرة ، فقيل : سبعة وهو قول الشافعي ، وأحمد في المشهور عنه ، وقيل عشرة وهو قول إسحاق .

وقد ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسم بينهم المغانم فعدل الجزور بعشر شياه .

وثبت هذا الحديث ، أنه - صلى الله عليه وسلم - ضحى عن نسائه وهن تسع ببقرة .

وقد روى سفيان عن أبي الزبير ، عن جابر ، أنهم نحروا البدنة في حجهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عشرة وهو على شرط مسلم ولم يخرجه ، وإنما أخرج قوله : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهلين بالحج معنا النساء والولدان ، فلما قدمنا مكة ، طفنا بالبيت وبالصفا والمروة ، وأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة .

وفي " المسند " : من حديث ابن عباس : كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فحضر الأضحى ، فاشتركنا في البقرة سبعة ، وفي الجزور عشرة . ورواه النسائي ، والترمذي ، وقال : حسن غريب .

وفي " الصحيحين " عنه : نحرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية ، البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة .

وقال حذيفة : شرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجته بين المسلمين في البقرة عن سبعة ذكره الإمام أحمد - رحمه الله - .

وهذه الأحاديث تخرج على أحد وجوه ثلاثة :

إما أن يقال : أحاديث السبعة أكثر وأصح .

وإما أن يقال عدل البعير بعشرة من الغنم ، تقويم في الغنائم لأجل تعديل القسمة . وأما كونه عن سبعة في الهدايا ، فهو تقدير شرعي .

وإما أن يقال إن ذلك يختلف باختلاف الأزمنة ، والأمكنة ، والإبل ففي بعضها كان البعير يعدل عشر شياه ، فجعله عن عشرة ، وفي بعضها يعدل سبعة ، فجعله عن سبعة والله أعلم .

وقد قال أبو محمد : إنه ذبح عن نسائه بقرة للهدي وضحى عنهن ببقرة وضحى عن نفسه بكبشين ونحر عن نفسه ثلاثا وستين هديا ، وقد عرفت ما في ذلك من الوهم ولم تكن بقرة الضحية غير بقرة الهدي ، بل هي هي ، وهدي الحاج بمنزلة ضحية الآفاقي . ونحر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بمنحره بمنى ، وأعلمهم أن منى كلها منحر ، وأن فجاج مكة طريق ومنحر

وسئل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يبنى له بناء بمنى يظله من الحر ، فقال : لا ، منى مناخ لمن سبق إليه . وفي هذا دليل على اشتراك المسلمين فيها ، وأن من سبق إلى مكان منها ، فهو أحق به حتى يرتحل عنه ولا يملكه بذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية