ذكر إفاضته صلى الله عليه وسلم إلى البيت العتيق

ثم أفاض- صلى الله عليه وسلم- إلى مكة قبل الظهر راكبا ، (وأردف معاوية بن أبي سفيان من منى إلى مكة ) ، فطاف طواف الإفاضة ، وهو طواف الزيارة ، وهو طواف الصدر ، ولم يطف غيره ، قال : هو الصواب .

في حديث عائشة ، وابن عباس : أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أخر طواف يوم النحر إلى الليل ، علقه البخاري ، ورواه الأربعة .

قلت : قال ابن كثير : والأشبه أن هذا الطواف كان قبل الزوال ، ويحتمل أنه كان بعده .

فإن حمل هذا أنه أخر ذلك إلى ما بعد الزوال كأنه يقول : إلى العشي صح ذلك ، وأما إن حمل على ما بعد الغروب فهو بعيد جدا ، ومخالف لما ثبت في الأحاديث الصحيحة من أنه- صلى الله عليه وسلم- طاف يوم النحر نهارا ، وشرب من سقاية زمزم ، وأما الطواف بالليل ، فهو طواف الوداع ، ومن الرواة من يعبر عنه بطواف الزيارة .

ثم أتى زمزم بعد أن قضى طوافه ، وهم يسقون ، فقال : «لولا أن يغلبكم الناس عليها يا ولد عبد المطلب لنزلت ، فسقيت معكم» .

ويقال : إنه نزع دلوا لنفسه ، ثم ناوله الدلو ، قلت : ثم مج فيها فأفرغ على سقايتهم في زمزم .

وفي حديث ابن عباس عند البخاري أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جاء إلى السقاية فاستسقى فقال العباس : يا فضل اذهب إلى أمك فائت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بشراب من عندها ، فقال : اسقني ، فقالت : يا رسول الله إنهم يجعلون أيديهم فيه ، قال : «اسقني (مما يشرب الناس )» ، فشرب منه ، ثم أتى زمزم ، والله تعالى أعلم .

قال : فشرب وهو قائم .

) فقيل : هذا نسخ لنهيه عن الشرب قائما ، وقيل : بل بيان منه أن النهي على وجه الاختيار وترك الأولى ، وقيل : بل للحاجة ، وهذا أظهر . وهل كان في طوافه هذا راكبا أو ماشيا ؟ فروى مسلم في " صحيحه " ، عن جابر قال : ( طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت في حجة الوداع على راحلته ، يستلم الركن بمحجنه لأن يراه الناس ، وليشرف ، وليسألوه ، فإن الناس غشوه ) .

وفي " الصحيحين " ، عن ابن عباس ، قال : ( طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن ) وهذا الطواف ليس بطواف الوداع فإنه كان ليلا ، وليس بطواف القدوم لوجهين .

أحدهما : أنه قد صح عنه الرمل في طواف القدوم ، ولم يقل أحد قط : رملت به راحلته وإنما قالوا : رمل نفسه .

والثاني : ( قول الشريد بن سويد : أفضت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فما مست قدماه الأرض حتى أتى جمعا ) وهذا ظاهره أنه من حين أفاض معه ما مست قدماه الأرض إلى أن رجع ، ولا ينتقض هذا بركعتي الطواف ، فإن شأنهما معلوم . قلت : والظاهر أن الشريد بن سويد ، إنما أراد الإفاضة معه من عرفة ، ولهذا قال : حتى أتى جمعا وهي مزدلفة ، ولم يرد الإفاضة إلى البيت يوم النحر ، ولا ينتقض هذا بنزوله عند الشعب حين بال ، ثم ركب ؛ لأنه ليس بنزول مستقر ، وإنما مست قدماه الأرض مسا عارضا . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية