( خطبة النبي صلى الله عليه وسلم أيام منى ) وخطب- صلى الله عليه وسلم- الناس بمنى خطبة عظيمة .

قلت : قال ابن سعد : على راحلته القصواء .

قال عمرو بن خارجة وهي تقصع بجرتها ، وإن لعابها ليسيل بين كتفي في وسط أيام التشريق . فقيل : هو ثاني يوم النحر ، وهو أوسطها- أي خيارها- لما سيأتي . وهو الحادي عشر من ذي الحجة ، وهو يوم الرءوس سمي بذلك لأنهم كانوا يذبحون يوم النحر ثم يطبخون الرءوس تلك الليلة فيبكرون على أكلها ، وكان عم أبي حرة الرقاشي آخذ بزمام ناقة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يذود عنه الناس .

وسببها أنه- صلى الله عليه وسلم- أنزلت عليه سورة النصر في هذا اليوم ، فعرف أنه الوداع ، فأمر براحلته القصواء فرحلت له ، فوقف للناس بالعقبة ، فاجتمع إليه الناس ، وفي رواية : ما شاء الله من المسلمين ، فحمد الله تعالى ، وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : «أما بعد أيها الناس ، ألا إن ربكم واحد ، ألا وإن أباكم واحد ، ألا لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا لأسود على أحمر ، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم ألا هل بلغت ؟ » قالوا : بلغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال : «فليبلغ الشاهد الغائب ، فرب مبلغ أوعى من سامع» ، ثم قال : «أي شهر هذا ؟ » فسكتوا فقال : هذا شهر حرام ، «أي بلد هذا ؟ » فسكتوا فقال : بلد حرام ، : «أي يوم هذا ؟ » فسكتوا قال : يوم حرام ، ثم قال : «إن الله تعالى قد حرم دماءكم ، وأموالكم ، وأعراضكم ، كحرمة شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، في يومكم هذا ، إلى أن تلقوا ربكم ، ألا هل بلغت ؟ » قالوا : نعم ، قال : «اللهم اشهد ، ثم قال : إنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم» ، ألا هل بلغت ؟ قال : الناس نعم ، قال : «اللهم اشهد ، ألا وإن من كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها ، ألا وإن كل ربا في الجاهلية موضوع وإن كل دم في الجاهلية موضوع وأن أول دمائكم أضع دم إياس بن ربيعة بن الحارث ، كان مسترضعا في بني سعد بن ليث فقتلته هذيل» ، ألا هل بلغت ؟ قالوا : نعم قال : «اللهم فاشهد فليبلغ الشاهد الغائب ، ألا إن كل مسلم محرم على كل مسلم . ثم قال : اسمعوا مني تعيشوا ألا لا تظلموا ، ألا لا تظلموا . ألا لا تظلموا إنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه» .

فقال عمرو بن يثربي يا رسول الله أرأيت إن لقيت غنم ابن عمي فأخذت شاة فاحترزتها ، فقال : إن لقيتها تحمل شفرة وأزنادا بخبت الجميش فلا تهجها .

ثم قال أيها الناس : إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله [التوبة - 37] .

ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض» ، ثم قرأ إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ، ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم [التوبة - 36] ثلاث متواليات : ذو القعدة ، ذو الحجة ، والمحرم ، ورجب الذي يدعى شهر مضر الذي بين جمادى وشعبان ، والشهر تسعة وعشرون وثلاثون ، ألا هل بلغت ؟ قال الناس : نعم فقال : اللهم اشهد» .

ثم قال : «أيها الناس . إن للنساء عليكم حقا ، وإن لكم عليهن حقا ، فعليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا ، ولا يدخلن بيوتكم أحدا تكرهونه إلا بإذنكم ، فإن فعلن فإن الله تعالى قد أذن لكم أن تهجروهن بالمضاجع ، وأن تضربوهن ضربا غير مبرح ، فإن انتهين وأطعنكم ، فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، وإنما النساء عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا ، وإنما أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، فاتقوا الله في النساء ، واستوصوا بهن خيرا ، ألا هل بلغت ؟ قال الناس : نعم ، قال : اللهم اشهد .

ثم قال : أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه ، ولكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرونه ، فقد رضي به ، إن المسلم أخو المسلم ، إنما المسلمون إخوة ، ولا يحل لامرئ مسلم دم أخيه ولا ماله إلا بطيب نفس منه ، إنما أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله ، لا تظلموا أنفسكم ، لا ترجعوا بعدي كفارا ، يضرب بعضكم رقاب بعض ، إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا كتاب الله تعالى ، ألا هل بلغت ؟ قال الناس : نعم قال : اللهم اشهد .


وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا الوليد بن عمرو بن السكين ، ثنا أبو همام محمد بن الزبرقان ، ثنا موسى بن عبيدة ، عن عبد الله بن دينار وصدقة بن يسار ، عن عبد الله بن عمر قال : نزلت هذه السورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى وهو في أوسط أيام التشريق في حجة الوداع : " إذا جاء نصر الله والفتح " فعرف أنه الوداع ، فأمر براحلته القصواء ، فرحلت له ، ثم ركب فوقف الناس بالعقبة ، فاجتمع إليه ما شاء الله من المسلمين ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : " أما بعد ، أيها الناس ، فإن كل دم كان في الجاهلية فهو هدر ، وإن أول دمائكم أهدر دم ربيعة بن الحارث ، كان مسترضعا في بني ليث فقتلته هذيل ، وكل ربا في الجاهلية فهو موضوع ، وإن أول رباكم أضع ربا العباس بن عبد المطلب ، أيها الناس ، إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ; رجب مضر الذي بين جمادى وشعبان ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم " ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم " الآية " إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله " . ( التوبة : 36 ) كانوا يحلون صفرا عاما ويحرمون المحرم عاما ، ويحرمون صفرا عاما ، ويحلون المحرم عاما ، فذلك النسيء ، يا أيها الناس من كان عنده وديعة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها ، أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يعبد ببلادكم آخر الزمان وقد يرضى عنكم بمحقرات الأعمال ، فاحذروا على دينكم محقرات الأعمال ، أيها الناس ، إن النساء عندكم عوان ، أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، لكم عليهن حق ، ولهن عليكم حق ، ومن حقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم غيركم ولا يعصينكم في معروف ، فإن فعلن ذلك فليس لكم عليهن سبيل ، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، فإن ضربتم فاضربوا ضربا غير مبرح ، ولا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما طابت به نفسه ، أيها الناس ، إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا ; كتاب الله ، فاعملوا به ، أيها الناس ، أي يوم هذا ؟ " قالوا : يوم حرام . قال : " فأي بلد هذا ؟ " قالوا : بلد حرام . قال : " فأي شهر هذا ؟ " قالوا : شهر حرام . قال : " فإن الله حرم دماءكم وأموالكم وأعراضكم ، كحرمة هذا اليوم ، في هذا البلد ، وهذا الشهر ، ألا ليبلغ شاهدكم غائبكم ، لا نبي بعدي ولا أمة بعدكم " . ثم رفع يديه فقال : " اللهم اشهد " ثم انصرف إلى منزله وصلى الظهر والعصر يوم النفر بالأبطح ، قالت عائشة- رضي الله تعالى عنها- إنما نزل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالمحصب ، لأنه كان أسمح لخروجه .

التالي السابق


الخدمات العلمية