سرية عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه إلى ذات السلاسل في جمادى الآخرة سنة ثمان غزوة ذات السلاسل

ذكرها الحافظ البيهقي هاهنا قبل غزوة الفتح ، فساق من طريق موسى بن عقبة وعروة بن الزبير قالا : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل من مشارف الشام في بلي ، وعبد الله ومن يليهم من قضاعة - قال عروة بن الزبير : بنو بلي أخوال العاص بن وائل - فلما صار إلى هناك خاف من كثرة عدوه ، فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمده ، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين الأولين ، فانتدب أبو بكر وعمر في جماعة من سراة المهاجرين ، رضي الله عنهم أجمعين ، وأمر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح . قال موسى بن عقبة : فلما قدموا على عمرو قال : أنا أميركم ، وأنا أرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أستمده بكم . فقال المهاجرون : بل أنت أمير أصحابك ، وأبو عبيدة أمير المهاجرين . فقال عمرو : إنما أنتم مدد أمددته . فلما رأى ذلك أبو عبيدة ، وكان رجلا حسن الخلق لين الشيمة ، قال : تعلم يا عمرو أن آخر ما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال : إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا وإنك إن عصيتني لأطيعنك . فسلم أبو عبيدة الإمارة لعمرو بن العاص .

وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين التميمي قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص يستنفر العرب إلى الإسلام ، وذلك أن أم العاص بن وائل كانت من بني بلي ، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم يستألفهم بذلك ، حتى إذا كان على ماء بأرض جذام يقال له : السلاسل . وبه سميت تلك الغزوة ذات السلاسل . قال : فلما كان عليه وخاف ، بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمده ، فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح في المهاجرين الأولين ، فيهم أبو بكر وعمر ، وقال لأبي عبيدة حين وجهه : " لا تختلفا " . فخرج أبو عبيدة ، حتى إذا قدم عليه قال له عمرو : إنما جئت مددا إلي . فقال له أبو عبيدة : لا ، ولكني على ما أنا عليه ، وأنت على ما أنت عليه . وكان أبو عبيدة رجلا لينا سهلا ، هينا عليه أمر الدنيا ، فقال له عمرو : أنت مددي . فقال له أبو عبيدة : يا عمرو ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لي : " لا تختلفا " . وإنك إن عصيتني أطعتك . فقال له عمرو : فإني أمير عليك ، وإنما أنت مدد لي قال : فدونك . فصلى عمرو بن العاص بالناس .

وقال الواقدي : حدثني ربيعة بن عثمان ، عن يزيد بن رومان ، أن أبا عبيدة لما آب إلى عمرو بن العاص ، فصاروا خمسمائة ، فساروا الليل والنهار حتى وطئ بلاد بلي ودوخها ، وكلما انتهى إلى موضع بلغه أنه قد كان بهذا الموضع جمع ، فلما سمعوا بك تفرقوا ، حتى انتهى إلى أقصى بلاد بلي وعذرة وبلقين ، ولقي في آخر ذلك جمعا ليس بالكثير ، فاقتتلوا ساعة ، وتراموا بالنبل ، ورمي يومئذ عامر بن ربيعة وأصيب ذراعه ، وحمل المسلمون عليهم فهربوا ، وأعجزوا هربا في البلاد وتفرقوا ، ودوخ عمرو ما هناك ، وأقام أياما لا يسمع لهم بجمع ولا مكان صاروا فيه ، وكان يبعث أصحاب الخيل فيأتون بالشاء والنعم ، فكانوا ينحرون ويذبحون ، ولم يكن في ذلك أكثر من ذلك ، ولم تكن غنائم تقسم .

تيمم عمرو من الجنابة وصلاته بأصحابه وقال أبو داود : ثنا ابن المثنى ، ثنا وهب بن جرير ، ثنا أبي ، سمعت يحيى بن أيوب يحدث عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عمران بن أبي أنس ، عن عبد الرحمن بن جبير ، عن عمرو بن العاص ، قال : احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل ، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك . قال : فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا عمرو ، صليت بأصحابك وأنت جنب ؟ " قال : فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت : إني سمعت الله يقول : ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ( النساء : 29 ) فضحك نبي الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا .

حدثنا محمد بن سلمة ، ثنا ابن وهب ، ثنا ابن لهيعة وعمرو بن الحارث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عمران بن أبي أنس ، عن عبد الرحمن بن جبير ، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص ، أن عمرو بن العاص كان على سرية . فذكر الحديث بنحوه ، قال : فغسل مغابنه وتوضأ وضوءه للصلاة ، ثم صلى بهم . فذكر نحوه ، ولم يذكر التيمم . قال أبو داود : وروى هذه القصة عن الأوزاعي ، عن حسان بن عطية ، وقال فيه : فتيمم .

وقال الواقدي : حدثني أفلح بن سعيد ، عن ابن عبد الرحمن بن رقيش ، عن أبي بكر بن حزم قال : كان عمرو بن العاص حين قفلوا ، احتلم في ليلة باردة كأشد ما يكون من البرد ، فقال لأصحابه : ما ترون ؟ قد والله احتلمت ، فإن اغتسلت مت . فدعا بماء فتوضأ ، وغسل فرجه وتيمم ، ثم قام فصلى بهم ، فكان أول من بعث عوف بن مالك بريدا ، قال عوف : فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في السحر وهو يصلي في بيته ، فسلمت عليه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عوف بن مالك ؟ " فقلت : عوف بن مالك يا رسول الله . قال : " صاحب الجزور ؟ " قلت : نعم . ولم يزد على هذا بعد ذلك شيئا ، ثم قال : " أخبرني " . فأخبرته بما كان من مسيرنا ، وما كان من أبي عبيدة وعمرو ، ومطاوعة أبي عبيدة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يرحم الله أبا عبيدة بن الجراح " . قال : ثم أخبرته أن عمرا صلى بالناس وهو جنب ومعه ماء ، لم يزد على أن غسل فرجه وتوضأ ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما قدم عمرو على رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله عن صلاته ، فأخبره فقال : والذي بعثك بالحق ، إني لو اغتسلت لمت ، ولم أجد بردا قط مثله ، وقد قال تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما قال : فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يبلغنا أنه قال شيئا .

ما كان من عوف بن مالك والجزور وقال ابن إسحاق : حدثني يزيد بن أبي حبيب ، عن عوف بن مالك الأشجعي قال : كنت في الغزوة التي بعث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص ، وهي غزوة ذات السلاسل ، فصحبت أبا بكر وعمر ، فمررت بقوم وهم على جزور قد نحروها ، وهم لا يقدرون على أن يعضوها ، وكنت امرأ جازرا ، فقلت لهم : تعطوني منها عشيرا على أن أقسمها بينكم ؟ قالوا : نعم . فأخذت الشفرة ، فجزأتها مكاني ، وأخذت منها جزءا فحملته إلى أصحابي ، فاطبخناه وأكلناه ، فقال أبو بكر وعمر : أنى لك هذا اللحم يا عوف ؟ فأخبرتهما فقالا : لا والله ما أحسنت حين أطعمتنا هذا . ثم قاما يتقيآن ما في بطونهما منه ، فلما أن قفل الناس من ذلك السفر ، كنت أول قادم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجئته وهو يصلي في بيته فقلت : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته . فقال : " أعوف بن مالك ؟ " فقلت : نعم ، بأبي أنت وأمي . فقال : " صاحب الجزور ؟ " ولم يزدني على ذلك شيئا هكذا رواه محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عوف بن مالك ، وهو منقطع بل معضل .

قال الحافظ البيهقي : وقد رواه ابن لهيعة وسعيد بن أبي أيوب ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن ربيعة بن لقيط ، عن مالك بن هدم ، أظنه عن عوف بن مالك ، فذكر نحوه ، إلا أنه قال : فعرضته على عمر فسألني عنه ، فأخبرته فقال : قد تعجلت أجرك . ولم يأكله . ثم حكى عن أبي عبيدة مثله ، ولم يذكر فيه أبا بكر ، وتمامه كنحو ما تقدم .

سؤال عمرو بن العاص النبي صلى الله عليه وسلم من أحب الناس إليه وقال الحافظ البيهقي : أنبأنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا : حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم ، ثنا يحيى بن أبي طالب ، ثنا علي بن عاصم ، ثنا خالد الحذاء ، عن أبي عثمان النهدي ، سمعت عمرو بن العاص يقول : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيش ذات السلاسل ، وفي القوم أبو بكر وعمر ، فحدثت نفسي أنه لم يبعثني على أبي بكر وعمر إلا لمنزلة لي عنده . قال : فأتيته حتى قعدت بين يديه ، فقلت : يا رسول الله ، من أحب الناس إليك ؟ قال : " عائشة " . قلت : إني لست أسألك عن أهلك . قال : " فأبوها " قلت : ثم من ؟ قال : " عمر " قلت : ثم من ؟ حتى عدد رهطا ، قال : قلت في نفسي : لا أعود أسأل عن هذا .

وهذا الحديث مخرج في " الصحيحين " من طريق خالد بن مهران الحذاء ، عن أبي عثمان النهدي ، واسمه عبد الرحمن بن مل ، حدثني عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل ، فأتيته فقلت : أي الناس أحب إليك ؟ قال : " عائشة " قلت : فمن الرجال ؟ قال : " أبوها " قلت : ثم من ؟ قال : " ثم عمر بن الخطاب " فعد رجالا . وهذا لفظ البخاري . وفي رواية : قال عمرو : فسكت مخافة أن يجعلني في آخرهم . [ وصية أبي بكر رافع بن رافع ]

قال : وكان من الحديث في هذه الغزاة ، أن رافع بن أبي رافع الطائي ، وهو رافع بن عميرة ، كان يحدث فيما بلغني عن نفسه ، قال : كنت امرأ نصرانيا ، وسميت سرجس ، فكنت أدل الناس وأهداهم بهذا الرمل ، كنت أدفن الماء في بيض النعام بنواحي الرمل في الجاهلية ، ثم أغير على إبل الناس ، فإذا أدخلتها الرمل غلبت عليها ، فلم يستطع أحد أن يطلبني فيه ، حتى أمر بذلك الماء الذي خبأت في بيض النعام فأستخرجه ، فأشرب منه ؛ فلما أسلمت خرجت في تلك الغزوة التي بعث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل ؛ قال : فقلت : والله لأختارن لنفسي صاحبا ؛ قال : فصحبت أبا بكر ، قال : فكنت معه في رحله ، قال : وكانت عليه عباءة له فدكية ، فكان إذا نزلنا بسطها وإذا ركبنا لبسها ، ثم شكها عليه بخلال له ، قال : وذلك الذي له يقول أهل نجد حين ارتدوا كفارا : نحن نبايع ذا العباءة قال : فلما دنونا من المدينة قافلين ، قال : قلت : يا أبا بكر ، إنما صحبتك لينفعني الله بك ، فانصحني وعلمني ، قال : لو لم تسألني ذلك لفعلت ، قال : آمرك أن توحد الله ولا تشرك به شيئا ، وأن تقيم الصلاة ، وأن تؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج هذا البيت ، وتغتسل من الجنابة ، ولا تتأمر على رجل من المسلمين أبدا . قال : قلت : يا أبا بكر ، أما أنا والله فإني أرجو أن لا أشرك بالله أحدا أبدا ؛ وأما الصلاة فلن أتركها أبدا إن شاء الله ؛ وأما الزكاة فإن يك لي مال أؤدها إن شاء الله ؛ وأما رمضان فلن أتركه أبدا إن شاء الله ؛ وأما الحج فإن أستطع أحج إن شاء الله تعالى ؛ وأما الجنابة فسأغتسل منها إن شاء الله ؛ وأما الإمارة فإني رأيت الناس يا أبا بكر لا يشرفون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند الناس إلا بها ، فلم تنهاني عنها ؟ قال : إنك إنما استجهدتني لأجهد لك ، وسأخبرك عن ذلك : إن الله عز وجل بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بهذا الدين ، فجاهد عليه حتى دخل الناس فيه طوعا وكرها ، فلما دخلوا فيه كانوا عواذ الله وجيرانه ، وفي ذمته ، فإياك لا تخفر الله في جيرانه ، فيتبعك الله خفرته ، فإن أحدكم يخفر في جاره ؛ فيظل ناتئا عضله ، غضبا لجاره أن أصيبت له شاة أو بعير ، فالله أشد غضبا لجاره . قال : ففارقته على ذلك .

قال : فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر أبو بكر على الناس ، قال : قدمت عليه ، فقلت له : يا أبا بكر ، ألم تك نهيتني عن أن أتأمر على رجلين من المسلمين ؟ قال : بلى ، وأنا الآن أنهاك عن ذلك ؛ قال : فقلت له : فما حملك على أن تلي أمر الناس ؟ قال : لا أجد من ذلك بدا ، خشيت على أمة محمد صلى الله عليه وسلم الفرقة فائدة قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وقد احتج بهذه القصة -عمرو جنابته- من قال : إن التيمم لا يرفع الحدث ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سماه جنبا بعد تيممه ، وأجاب من نازعهم في ذلك بثلاثة أجوبة :

أحدها : أن الصحابة لما شكوه قالوا : صلى بنا الصبح وهو جنب ، فسأله النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ، وقال : "صليت بأصحابك وأنت جنب ؟ " استفهاما واستعلاما ، فلما أخبره بعذره وأنه تيمم للحاجة أقره على ذلك .

الثاني : أن الرواية اختلفت عنه ، فروي عنه فيها أنه غسل مغابنه ، وتوضأ وضوءه للصلاة ، ثم صلى بهم ، ولم يذكر التيمم ، وكأن هذه الرواية أقوى من رواية التيمم ، قال عبد الحق وقد ذكرها وذكر رواية التيمم قبلها ، ثم قال : وهذا أوصل من الأول ؛ لأنه عن عبد الرحمن بن جبير المصري ، عن أبي القيس مولى عمرو عن عمرو . والأولى التي فيها التيمم ، من رواية عبد الرحمن بن جبير ، عن عمرو بن العاص ، لم يذكر بينهما أبا قيس .

الثالث : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يستعلم فقه عمرو في تركه الاغتسال ، فقال له : "صليت بأصحابك وأنت جنب ؟ " فلما أخبره أنه تيمم للحاجة علم فقهه ، فلم ينكر عليه ، ويدل عليه أن ما فعله عمرو من التيمم - والله أعلم - خشية الهلاك بالبرد ، كما أخبر به ، والصلاة بالتيمم في هذه الحال جائزة غير منكر على فاعلها ، فعلم أنه أراد استعلام فقهه وعلمه . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية