[ أمر الرسول بإنفاذ بعث أسامة ]

وقال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عروة بن الزبير وغيره من العلماء ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استبطأ الناس في بعث أسامة بن زيد ، وهو في وجعه ، فخرج عاصبا رأسه حتى جلس على المنبر ، وقد كان الناس قالوا في إمرة أسامة : أمر غلاما حدثا على جلة المهاجرين والأنصار .

فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل ، ثم قال : أيها الناس ، أنفذوا بعث أسامة ، فلعمري لئن قلتم في إمارته لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله ، وإنه لخليق للإمارة ، وإن كان أبوه لخليقا لها

قال : ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وانكمش الناس في جهازهم ، استعز برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه ، فخرج أسامة ، وخرج جيشه معه حتى نزلوا الجرف ، من المدينة على فرسخ ، فضرب به عسكره ، وتتام إليه الناس ، وثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقام أسامة والناس ، لينظروا ما الله قاض في رسول الله صلى الله عليه وسلم . فتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يسر الجيش ، وارتدت العرب إما عامة أو خاصة من كل قبيلة ، وظهر النفاق ، واشرأبت يهود والنصرانية ، وبقي المسلمون كالغنم في الليلة المطيرة ؛ لفقد نبيهم ، وقلتهم وكثرة عدوهم . فقال الناس لأبي بكر : إن هؤلاء - يعنون جيش أسامة - جند المسلمين ، والعرب على ما ترى قد انتقضت بك ، فلا ينبغي أن تفرق جماعة المسلمين عنك . فقال أبو بكر : والذي نفسي بيده لو ظننت أن السباع تختطفني لأنفذت جيش أسامة كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - . فخاطب الناس ، وأمرهم بالتجهز للغزو ، وأن يخرج كل من هو من جيش أسامة إلى معسكره بالجرف ، فخرجوا كما أمرهم ، وجيش أبو بكر من بقي من تلك القبائل التي كانت لهم الهجرة في ديارهم ، فصاروا مسالح حول قبائلهم ، وهم قليل .

فلما خرج الجيش إلى معسكرهم بالجرف وتكاملوا - أرسل أسامة عمر بن الخطاب ، وكان معه في جيشه ، إلى أبي بكر يستأذنه أن يرجع الناس ، وقال : إن معي وجوه الناس وحدهم ، ولا آمن على خليفة رسول الله ، وحرم رسول الله والمسلمين أن يتخطفهم المشركون . وقال من مع أسامة من الأنصار لعمر بن الخطاب : إن أبا بكر خليفة رسول الله ، فإن أبى إلا أن نمضي فأبلغه عنا ، واطلب إليه أن يولي أمرنا رجلا أقدم سنا من أسامة .

فخرج عمر بأمر أسامة إلى أبي بكر ، فأخبره بما قال أسامة . فقال : لو خطفتني الكلاب والذئاب لأنفذته كما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أرد قضاء قضى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته . قال عمر : فإن الأنصار تطلب رجلا أقدم سنا من أسامة . فوثب أبو بكر ، وكان جالسا ، وأخذ بلحية عمر وقال : ثكلتك أمك يا ابن الخطاب ! استعمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتأمرني أن أعزله ؟ !

ثم خرج أبو بكر حتى أتاهم وأشخصهم وشيعهم ، وهو ماش وأسامة راكب ، فقال له أسامة : يا خليفة رسول الله ، لتركبن أو لأنزلن ! فقال : والله لا نزلت ولا أركب ، وما علي أن أغبر قدمي ساعة في سبيل الله ! فإن للغازي بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة تكتب له ، وسبعمائة درجة ترفع له ، وسبعمائة سيئة تمحى عنه .

فلما أراد أن يرجع قال لأسامة : إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل ، فأذن له ، ثم وصاهم فقال : لا تخونوا ، ولا تغدروا ، ولا تغلوا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا طفلا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة ، ولا تعقروا نخلا وتحرقوه ، ولا تقطعوا شجرة مثمرة ، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا لمأكلة ، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع ، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له ، وسوف تقدمون على قوم قد فحصوا أوساط رءوسهم ، وتركوا حولها مثل العصائب ، فاخفقوهم بالسيف خفقا . اندفعوا باسم الله .

وأوصى أسامة أن يفعل ما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

فسار وأوقع بقبائل من ناس قضاعة التي ارتدت ، وغنم وعاد ، وكانت غيبته أربعين يوما ، وقيل : سبعين يوما .

وكان إنفاذ جيش أسامة أعظم الأمور نفعا للمسلمين ، فإن العرب قالوا : لو لم يكن بهم قوة لما أرسلوا هذا الجيش ، فكفوا عن كثير مما كانوا يريدون أن يفعلوه .

التالي السابق


الخدمات العلمية