ثم دخلت سنة إحدى وأربعين من الهجرة النبوية

قال ابن جرير : فيها سلم الحسن بن علي الأمر لمعاوية بن أبى سفيان . ثم روى عن الزهري أنه قال : لما بايع أهل العراق الحسن بن علي طفق يشترط عليهم : إنكم سامعون مطيعون ، مسالمون من سالمت ، محاربون من حاربت . فارتاب به أهل العراق وقالوا : ما هذا لكم بصاحب . فما كان عن قريب حتى طعنوه فأشووه ، فازداد لهم بغضا ، وازداد منهم ذعرا ، فعند ذلك عرف تفرقهم واختلافهم عليه ، وكتب إلى معاوية يسالمه ويراسله في الصلح بينه وبينه على ما يختاران .

وعن أبى موسى قال : سمعت الحسن يقول : استقبل والله الحسن بن علي معاوية بن أبى سفيان بكتائب أمثال الجبال ، فقال عمرو بن العاص : إني لأرى كتائب لا تولي حتى تقتل أقرانها . فقال معاوية ، وكان والله خير الرجلين : أي عمرو ، إن قتل هؤلاء هؤلاء ، وهؤلاء هؤلاء ، من لي بأمور الناس ؟ من لي بضيعتهم ؟ من لي بنسائهم ؟ فبعث إليه رجلين من قريش من بنى عبد شمس ; عبد الرحمن بن سمرة وعبد الله بن عامر ، فقال : اذهبا إلى هذا الرجل فاعرضا عليه ، وقولا له ، واطلبا إليه . فأتياه فدخلا عليه فتكلما ، وقالا له ، وطلبا إليه ، فقال لهما الحسن بن علي : إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال ، وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها . قالا : فإنه يعرض عليك كذا وكذا ، ويطلب إليك ويسألك . قال : فمن لي بهذا ؟ قالا : نحن لك به . فما سألهما شيئا إلا قالا : نحن لك به . فصالحه . قال الحسن : ولقد سمعت أبا بكرة يقول : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه ، وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ، ويقول : " إن ابني هذا سيد ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين. "

قال الحسن : فوالله والله بعد أن ولي لم يهرق في خلافته ملء محجمة من دم .

وعن سعيد بن أبي سعيد المدني قال : كنا مع أبي هريرة ، إذ جاء الحسن بن علي فسلم فرددنا عليه ، ولم يعلم به أبو هريرة ومضى ، فقلنا : يا أبا هريرة ، هذا الحسن بن علي قد سلم علينا . قال : فتبعه فلحقه ، وقال : وعليك السلام يا سيدي . وقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إنه سيد " .

وقال أبو الحسن علي بن محمد المدائني : كان تسليم الحسن الأمر لمعاوية في الخامس من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين . وقال غيره : في ربيع الآخر . ويقال : في غرة جمادى الأولى . فالله أعلم .

خطبة الحسن بن علي لإعلام الناس بنزوله لأمر معاوية

قال : وحينئذ دخل معاوية إلى الكوفة فخطب الناس بها بعد البيعة .

وذكر ابن جرير أن عمرو بن العاص أشار على معاوية أن يأمر الحسن بن علي أن يخطب الناس ويعلمهم بنزوله عن الأمر لمعاوية ، فأمر معاوية الحسن ، فقام في الناس خطيبا ، فقال في خطبته بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم : أما بعد ، أيها الناس ، فإن الله هداكم بأولنا ، وحقن دماءكم بآخرنا ، وإن لهذا الأمر مدة ، والدنيا دول ، وإن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين [ الأنبياء : 111 ] . فلما قالها غضب معاوية وأمره بالجلوس ، وعتب على عمرو بن العاص في إشارته بذلك ، ولم يزل في نفسه منه لذلك . والله أعلم .

تبكيت الناس للحسن على نزوله لأمر معاوية

وعن يوسف بن سعد قال : قام رجل إلى الحسن بن علي بعد ما بايع معاوية فقال : سودت وجوه المؤمنين - أو : يا مسود وجوه المؤمنين - فقال : لا تؤنبني رحمك الله ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم أري بني أمية على منبره ، فساءه ذلك فنزلت إنا أعطيناك الكوثر يا محمد . يعني نهرا في الجنة ، ونزلت إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر يملكها بعدك بنو أمية يا محمد . قال القاسم : فعددنا فإذا هي ألف شهر ، لا تزيد يوما ولا تنقص .

وعن أبو الغريف قال : كنا في مقدمة الحسن بن علي اثني عشر ألفا بمسكن مستميتين ، تقطر أسيافنا من الجد على قتال أهل الشام وعلينا أبو العمرطة ، فلما جاءنا صلح الحسن بن علي كأنما كسرت ظهورنا من الغيظ ، فلما قدم الحسن بن علي الكوفة قال له رجل منا يقال له : أبو عامر سفيان بن الليل : السلام عليك يا مذل المؤمنين . فقال : لا تقل هذا يا أبا عامر ، لست بمذل المؤمنين ، ولكني كرهت أن أقتلهم على الملك .

استقرار الحسن بن علي في المدينة

ولما تسلم معاوية البلاد ودخل الكوفة وخطب بها ، واجتمعت عليه الكلمة في سائر الأقاليم والآفاق ، ورجع إليه قيس بن سعد أحد دهاة العرب ، وقد كان عزم على الشقاق ، وحصل على بيعة معاوية عامئذ الإجماع والاتفاق ، ترحل الحسن بن علي ، ومعه أخوه الحسين وبقية إخوتهم وابن عمهم عبد الله بن جعفر من أرض العراق إلى أرض المدينة النبوية ، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ، وجعل كلما مر بحي من شيعتهم يبكتونه على ما صنع من نزوله عن الأمر لمعاوية ، وهو في ذلك مصيب بار راشد ممدوح ، وليس يجد في صدره حرجا ولا تلوما ولا ندما ، بل هو راض بذلك مستبشر به ، وإن كان قد ساء هذا خلقا من ذويه وأهله وشيعته ، ولا سيما بعد ذلك بمدد ، وهلم جرا إلى يومنا هذا . والحق في ذلك اتباع السنة ومدحه فيما حقن به دماء الأمة ، كما مدحه على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما تقدم في الحديث الصحيح ، ولله الحمد والمنة.

التالي السابق


الخدمات العلمية