خلافة هشام بن عبد الملك بويع له بالخلافة يوم الجمعة بعد موت أخيه لخمس بقين من شعبان من هذه السنة - أعني سنة خمس ومائة - وله من العمر أربع وثلاثون سنة وأشهر ; لأنه ولد لما قتل أبوه عبد الملك ، مصعب بن الزبير في سنة ثنتين وسبعين ، فسماه منصورا تفاؤلا ، ثم قدم فوجد أمه قد أسمته باسم أبيها هشام فأقره .

وكانت أمه عائشة بنت هشام حمقاء ، فطلقها عبد الملك . وكانت كنية هشام : أبا الوليد وقال الواقدي : أتته الخلافة وهو بالزيتونة في منزل له ، فجاءه البريد بالعصا والخاتم ، فسلم عليه بالخلافة ، فركب من الرصافة حتى أتى دمشق ، فقام بأمر الخلافة أتم القيام. وقد ولد هشام بن عبد الملك سنة نيف وسبعين، واستخلف بعهد من أخيه يزيد.

قال مصعب الزبيري: (رأى عبد الملك في منامه أنه بال في المحراب أربع مرات، فسأل سعيد بن المسيب فقال: يملك من ولده لصلبه أربعة، فكان آخرهم هشام).

وكان هشام حازما عاقلا، كان لا يدخل بيت ماله مالا حتى يشهد أربعون قسامة: لقد أخذ من حقه، ولقد أعطى لكل ذي حق حقه.

وقال الأصمعي: (أسمع رجل مرة هشاما كلاما، فقال له: يا هذا؛ ليس لك أن تسمع خليفتك).

قال: وغضب مرة على رجل، فقال: (والله؛ لقد هممت أن أضربك سوطا).

وقال سحبل بن محمد: (ما رأيت أحدا من الخلفاء أكره إليه الدماء ولا أشد عليه من هشام).

وعن هشام أنه قال: (ما بقي شيء من لذات الدنيا... إلا وقد نلته إلا شيئا واحدا؛ أخا أرفع مؤنة التحفظ فيما بيني وبينه).

وقال الشافعي: (لما بنى هشام الرصافة بقنسرين ... أحب أن يخلو يوما لا يأتيه فيه غم، فما انتصف النهار حتى أتته ريشة بدم من بعض الثغور، فأوصلت إليه فقال: ولا يوما واحدا!!(.

وقيل: إن هذا البيت له ولم يحفظ له سواه:


إذا أنت لم تعص الهوى قادك الهوى إلى بعض ما فيه عليك مقال

مات في ربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة.

[الحكمة في مخاطبة السلطان]

أخرج ابن عساكر عن إبراهيم بن أبي عبلة قال: (أراد هشام بن عبد الملك أن يوليني خراج مصر فأبيت، فغضب حتى اختلج وجهه، وكان في عينيه الحول، فنظر إلي نظرا منكرا وقال: لتلين طائعا أو لتلين كارها، فأمسكت عن الكلام حتى سكن غضبه، فقلت: يا أمير المؤمنين، أتكلم؟ قال: نعم.

قلت: إن الله تعالى قال في كتابه العزيز: { إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها } الآية فوالله يا أمير المؤمنين؛ ما غضب عليهن إذ أبين، ولا أكرههن إذ كرهن، وما أنا بحقيق أن تغضب علي إن أبيت، ولا تكرهني إذ كرهت، فضحك وأعفاني). [موعظة خالد بن صفوان لهشام بن عبد الملك]

وأخرج عن خالد بن صفوان قال: (وفدت على هشام بن عبد الملك فقال: هات يا بن صفوان، قلت: إن ملكا من الملوك خرج متنزها إلى الخورنق، وكان ذا علم مع الكثرة والغلبة، فنظر وقال لجلسائه: لمن هذا؟ قالوا: للملك.

قال: فهل رأيتم أحدا أعطي مثل ما أعطيت؟ وكان عنده رجل من بقايا حملة الحجة، فقال: إنك قد سألت عن أمر، فتأذن لي بالجواب؟ قال: نعم.

قال: أرأيت ما أنت فيه، أشيء لم تزل فيه، أم شيء صار إليك ميراثا وهو زائل عنك إلى غيرك كما صار إليك؟ قال: كذا هو.

قال: فتعجب بشيء يسير لا تكون فيه إلا قليلا، وتنقل عنه طويلا، فيكون عليك حسابا؟!

قال: ويحك!! فأين المهرب؟ وأين المطلب؟ وأخذته قشعريرة، قال: إما أن تقيم في ملكك فتعمل بطاعة الله تعالى على ما ساءك وسرك، وإما أن تنخلع من ملكك وتضع تاجك، وتلقي عنك أطمارك وتعبد ربك؟

قال: إني مفكر الليلة وأوافيك السحر، فلما كان السحر... قرع عليه بابه، فقال: إني اخترت هذا الجبل وفلوات الأرض، وقد لبست على أمساحي، فإن كنت لي رفيقا... لا تخالف، فلزما الجبل حتى ماتا.

وفيه يقول عدي بن زيد بن الحمار:


أيها الشامت المعير بالدهـ     ـر أأنت المبرأ الموفور؟
أم لديك العهد الوثيق من الـ     أيام؟ بل أنت جاهل مغرور
من رأيت المنون خلدن أم من     ذا عليه من أن يضام خفير؟
أين كسرى كسرى الملوك أبو سا     سان أم أين قبله سابور؟
وبنو الأصفر الكرام ملوك الر     وم، لم يبق منهم مذكور
وأخو الحضر إذ بناه وإذ دجـ     ـلة تجبى إليه والخابور
شاده مرمرا وجلله كلـ     ـسا فللطير في ذراه وكور
لم تهبه ريب المنون، فباد المـ     ـلك عنه، فبابه مهجور
وتذكر رب الخورنق إذ أشـ     ـرف يوما، وللهدى تذكير
سره ماله، وكثرة ما يمـ     ـلك والبحر معرض والسدير
فارعوى قلبه، وقال وما غبـ     ـطة حي إلى الممات يصير؟
ثم بعد الفلاح والملك والأمـ     ـة وارتهم هناك القبور
ثم صاروا كأنهم ورق جـ     ـف فألوت به الصبا والدبور

قال: فبكى هشام حتى اخضلت لحيته، وأمر بأبنيته وطي فرشه، ولزم قصره، فأقبلت الموالي والحشم على خالد بن صفوان وقالوا: ماذا أردت إلى أمير المؤمنين؟ أفسدت عليه لذته؟ فقال: إليكم عني؛ فإني عاهدت الله ألا أخلو بملك... إلا ذكرته الله تعالى).

التالي السابق


الخدمات العلمية