ذكر طرف من أخبار المأمون وسيرته

كان المأمون يحفظ القرآن ، وقد سمع الحديث من مالك بن أنس ، وحماد بن زيد ، وهشيم ، وغيرهم ، وكان له حظ من علوم كثيرة ، وأسند الحديث .

قال القاسم بن محمد بن عباد : سمعت أبي يقول : لم يحفظ القرآن من الخلفاء إلا عثمان والمأمون ، وكان المأمون يقرأ القرآن كثيرا ، فروى عنه ذو الرئاستين أنه ختم في رمضان ثلاثة وثلاثين ختمة ، وكان يحفظ الحديث ويرويه .

قال أبو حامد محمد بن عبد الله النيسابوري : المأمون أمير المؤمنين يحدث عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "مولى القوم منهم" وقال مرة : "مولى القوم من أنفسهم" . قال محمد بن قدامة : بلغ المأمون أن أبا حذيفة حدث بهذا الحديث عنه ، فأمر له بعشرة آلاف درهم .

قال أبو عمر الحوضي : لما دخل المأمون مصر قام إليه فرج الأسود مولاه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، الحمد لله الذي كفاك أمر عدوك ، ودان لك العراقان والشامان ومصر وخراسان ، وأنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم والعالم به . فقال : ويحك يا فرج ، قد بقيت لي خلة . قلت : وما هي يا أمير المؤمنين ؟ قال : جلوسي في عسكر ، ومستمل يجيء فيقول : من ذكرت رضي الله عنك ؟ فأقول : حدثنا الحمادان : حماد بن سلمة وحماد بن زيد قالا : حدثنا ثابت البناني ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من عال ابنتين أو أختين أو ثلاثة حتى يمتن أو يموت عنهن كان معي في الجنة كهاتين" فأومأ حماد بن سلمة بالوسطى والإبهام .

وعن محمد بن سهل قال : كنت بالمصيصة وبها المأمون أمير المؤمنين ، فأذن يوما [للناس فقام إليه ] شاب وبيده محبرة ، فقال : يا أمير المؤمنين ، صاحب حديث منقطع به فقال له المأمون : أي شيء تحفظ من باب كذا ؟ فلم يذكر الفتى شيئا ، فما زال المأمون يقول : حدثنا هشيم ، وحدثنا أبو الأحوص ، وحدثنا وكيع ، حتى ذكر الباب ، ثم قال : وإيش تحفظ في باب كذا ؟ فلم يذكر الفتى شيئا ، فما زال المأمون يقول : حدثنا حجاج بن محمد ، وحدثنا فلان وفلان ، حتى ذكر الباب ، ثم التفت إلى الفضل فقال : أحدهم يطلب الحديث ثلاثة أيام ثم يقول أنا من أصحاب الحديث ، أعطوه ثلاثة آلاف درهم .

قال محمد بن عون : سمعت ابن عيينة يقول :

جمع أمير المؤمنين العلماء وجلس للناس ، فجاءت امرأة فقالت : يا أمير المؤمنين ، مات أخي وخلف ستمائة دينار ، أعطوني دينارا واحدا وقالوا : هذا نصيبك . قال : فحسب المأمون ثم قال : هكذا نصيبك رحمك الله ، فقالت العلماء : كيف علمت يا أمير المؤمنين ؟ فقال لها : هذا الرجل خلف أربع بنات . قالت : نعم . قال : فلهما الثلثان أربعمائة وخلف والدة فلها السدس مائة ، وخلف زوجة فلها الثمن خمسة وسبعون دينارا ، بالله لك اثنا عشر أخا . قالت : نعم . قال : أصابهم ديناران ديناران ، وأصابك دينار .

طرف من مناظرات المأمون قال قحطبة بن حميد بن قحطبة : حضرت المأمون يناظر محمد بن القاسم النوشجاني يقول في شيء ومحمد يفضي له ويصدقه . فقال له المأمون : أراك تنقاد لي إلى ما ترى أنه يسرني قبل وجوب الحجة عليك ، ولو شئت أن أقيس الأمور بفضل بيان ، وطول لسان ، وأبهة الخلافة ، وسطوة الرئاسة لصدقت وإن كنت كاذبا ، وصوبت ، وإن كنت مخطئا وعدلت ، وإن كنت جائرا ، ولكن لا أرضى إلا بإزالة الشبهة ، وغلبة الحجة ، وإن شر الملوك عقلا وأسخفهم رأيا من رضي بقولهم : صدق الأمير .

قال : قال ابن الأعرابي : بعث إلي المأمون فصرت إليه وهو في بستان يحيى بن أكثم ، فرأيتهما موليين ، فجلست ، فلما أقبلا قمت فسلمت عليه بالخلافة ، فسمعته يقول ليحيى : يا أبا محمد ، ما أحسن أدبه ، رآنا موليين فجلس ، ثم رآنا مقبلين فقام ثم رد السلام وقال : يا محمد ، أخبرني عن أحسن ما قيل في الشراب فقلت : يا أمير المؤمنين ، قوله :


تريك القذى من دونها وهي دونه إذا ذاقها من ذاقها يتمنطق

فقال : أشعر منه الذي يقول : - يعني أبا نواس -


فتمشت في مفاصلهم     كتمشي البرء في السقم
فعلت في البيت إذ مزجت     مثل فعل الصبح في الظلم
واهتدى ساري الظلام بها     كاهتداء السفر بالعلم

فقلت : فائدة يا أمير المؤمنين . فقال : أخبرني عن قول هند بنت عتبة :


نحن بنات طارق     نمشي على النمارق

من طارق هذا ؟ قال : فنظرت في نسبها فلم أجده . فقلت : يا أمير المؤمنين ، ما أعرف في نسبها ! فقال : إنما أرادت النجم ، فانتسبت إليه لحسنها ، من قول الله عز وجل : والسماء والطارق . فقلت : فائدتان يا أمير المؤمنين قال : أنا بؤبؤ هذا الأمر [وأنت بؤبؤه ] . ثم دفع إلي بعنبرة وكان يقلبها في يده ، فبعتها بخمسة آلاف درهم .

قال ابن أبي حفصة الشاعر : أعلمت أن أمير المؤمنين لا يبصر الشعر ! ؟ فقلت : ومن يكون أفرس منه ! ؟ والله إنا لننشد أول البيت فيسبق إلى آخره من غير أن يكون سمعه . قال : إني أنشدته شيئا أجدت فيه ، فلم أره تحرك له ، فأسمعه :


أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلا     بالدين والناس بالدنيا مشاغيل

فقلت : ما زدته على أن جعلته عجوزا في محرابها في يدها سبحة ، فمن يقوم بأمر الدنيا إذا كان مشغولا عنها ، وهو المطوق بها ؟ ألا قلت كما قال جرير لعمر بن عبد العزيز :


فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه     ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله

قال ابن أبي دؤاد : أدخل رجل من الخوارج على المأمون فقال : ما حملك على خلافنا ؟ قال : آية في كتاب الله عز وجل . قال : وما هي ؟ قال : قوله : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون قال له المأمون : ألك علم بأنها منزلة ؟ قال : نعم . قال : وما دليلك ؟ قال : إجماع الأمة . قال :

فكما رضيت بإجماعهم في التنزيل فارض بإجماعهم في التأويل . قال : صدقت ، السلام عليك يا أمير المؤمنين .

طرف من نابهة المأمون وكرمه قال يحيى بن أكثم : ما رأيت أكمل آلة من المأمون . وجعل يحدث بأشياء استحسنها من كان في مجلسه . ثم قال : كنت عنده ليلة أذاكره وأحدثه ، ثم نام وانتبه وقال : يا يحيى ، انظر أيش عند رجلي . فنظرت فلم أر شيئا . فقال : شمعة ، فتبادر الفراشون .

فقال ، انظروا ، فنظروا ، فإذا تحت فراشه حية بطوله ، فقتلوها ، فقلت : قد انضاف إلى كمال أمير المؤمنين علم الغيب . فقال : معاذ الله ، ولكن هتف بي هاتف الساعة وأنا نائم :


يا راقد الليل انتبه     إن الخطوب لها سرى
ثقة الفتى بزمانه     ثقة محللة العرى

فانتبهت ، فعلمت أن قد حدث أمر إما قريب ، وإما بعيد . فتأملت ما قرب فكان ما رأيت .

عن أبي العيناء قال :

قصد أعرابي المأمون فوقف على بابه سنة لا يصل إليه ، فصاح الأعرابي يوما : نصيحة ، نصيحة . قال : فأدخل على المأمون فقال له : يا أعرابي ، ما نصيحتك ؟ قال : يا أمير المؤمنين ، رأيت البارحة رؤيا ، وقد أحببت أن تفسرها لي . فتبسم المأمون وقال : ما الرؤيا ؟ فأنشأ يقول :


إني رأيتك في منامي سيدي     يا ابن الإمام على الجواد السابق
وكسوتني حللا طرائف حسنها     يزهو لدي مع الكميت الفائق

فقال المأمون : ادفعوا إلى الأعرابي خلعة وفرسا كميتا بسرجه ولجامه . فلما دفع إليه قال : يا أمير المؤمنين :


وأجزتني بخريطة مملوءة     ذهبا وأخرى باللجين الفائق

فقال المأمون : يدفع إليه ألف دينار ، وألف درهم ، فقبض ذلك وأنشأ يقول :


وأجزتني بخريدة رومية     حسناء تشفع بالغلام الفائق

فقال المأمون : يدفع إليه ذلك ، ثم قال : يا أعرابي ، إياك أن ترى مثل هذه ، فربما لم تجد من يفسرها لك .

عن عمر بن أبي سليمان بن عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس قال : كنت يوما بين يدي المأمون ، فجعل لا يمر عليه غلام من غلمانه إلا أعتقه ، وعلى رأسه غلام نظيف ، نظيف الثياب ، وكنت أحب أن يعتقه فيمن يعتق ، فلما تنحى الغلام قلت : يا أمير المؤمنين ، رأيت لا يمر أحد من غلمانك إلا أعتقته وعلى رأسك غلام من صفته وحاله ، وكنت أحب أن تعتقه . فقال : حدثني أبي ، عن آبائه يرفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "طينة المعتق من طينة المعتق" والذي رأيته على رأسي حجام ، فكرهت أن يكون من طينتنا حجام .

عن الحارث بن محمد قال : أخبرني بعض أصحابنا قال : بكر أحمد بن أبي خالد يقرأ على المأمون قصصا ، فجاع ، فمرت به قصة فيها فلان بن فلان اليزيدي ، فقرأ : الثريدي . فقال المأمون : يا غلام ، صحفة مملوءة ثريدا لأبي العباس ، فإنه أصبح جائعا . فاستحيى وقال : ما أنا بجائع ، ولكن صاحب القصة أحمق ، نقط على الياء ثلاث نقط . فقال : ما أنفع جمعه لك . فأحضرت الصحفة مملوءة ثريدا وعراقا وودكا ، فخجل أحمد ، فقال له المأمون : بحياتي لما ملت إليها فأكلت . فعدل فأكل حتى اكتفى وغسل يده ، وعاود القراءة ، ومرت قصة فلان بن فلان الحمصي ، فقرأ : الخبيصي فقال المأمون : يا غلام ، جام مملوء خبيصا لأبي العباس ، فإن طعامه كان مبتورا . فاستحيى وقال : يا سيدي ، صاحب القصة أحمق ، فتح الميم فصارت سنتين . فقال : لولا حمقه وحمق صاحبه مت اليوم جوعا ، فأتي بجام مملوء خبيصا ، فخجل ، فقال المأمون : بحياتي ألا ملت نحوه فأكلت . فأكل وغسل يده ، وعاود القراءة ، فما أسقط حرفا حتى انقضى المجلس .

وقال محمد بن الجهم : دعاني المأمون فقال : أنشدني بيت مدح نادر . فأنشدته :


يجود بالنفس إذ ضن البخيل بها     والجود بالنفس أقصى غاية الجود

فقال : قد وليتك همذان ، فأنشدني بيت هجاء نادر فأنشدته :


قبحت مناظره فحين خبرته     حسنت مناظره لقبح المخبر

فقال : قد وليتك الدينور ، فأنشدني بيت مرثية نادرا ، فأنشدته :


أرادوا ليخفوا قبره عن عدوه     فطيب تراب القبر دل على القبر

فقال : قد وليتك نهاوند ، فأنشدني بيت غزل . فأنشدته :


حب مجد وحبيب يلعب     والقلب ما بينهما يذهب

التالي السابق


الخدمات العلمية