ثم دخلت سنة ثلاثين ومائتين

ذكر مسير بغا إلى الأعراب بالمدينة

وفي هذه السنة وجه الواثق بغا الكبير إلى الأعراب الذين أغاروا بنواحي المدينة .

وكان سبب ذلك أن بني سليم كانت تفسد حول المدينة بالشر ، ويأخذون مهما أرادوا من الأسواق بالحجاز بأي سعر أرادوا ، وزاد الأمر بهم إلى أن وقعوا بناس من بني كنانة وباهلة ، فأصابوهم ، وقتلوا بعضهم في جمادى الآخرة من سنة ثلاثين ومائتين ، فوجه محمد بن صالح عامل المدينة إليهم حماد بن جرير الطبري ، وكان مسلحة لأهل المدينة ، في مائتي فارس ، وأضاف إليهم جندا غيرهم ، وتبعهم متطوعة ، فسار إليهم حماد ، فلقيهم بالرويثة ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، فانهزمت سودان المدينة بالناس ، وثبت حماد وأصحابه ، وقريش والأنصار ، وأخذ بنو سليم الكراع ، والسلاح ، والثياب ، فطمعوا ، ونهبوا القرى والمناهل ما بين مكة والمدينة ، وانقطع الطريق .

فوجه إليهم الواثق بغا الكبير أبا موسى في جمع من الجند ، فقدم المدينة في شعبان ، فلقيهم ببعض مياه الحرة من وراء السوارقية قريتهم التي يأوون إليها ، وبها حصون ، فقتل بغا منهم نحوا من خمسين رجلا ، وأسر مثلهم ، وانهزم الباقون ، أقام بغا بالسوارقية ، ودعاهم إلى الأمان على حكم الواثق ، فأتوه متفرقين ، فجمعهم ، وترك من يعرف بالفساد ، وهم زهاء ألف رجل ، وخلى سبيل الباقين ، وعاد بالأسرى إلى المدينة في ذي القعدة سنة ثلاثين ، فحبسهم ، ثم سار إلى مكة .

فلما قضى حجه سار إلى ذات عرق بعد انقضاء الموسم ، عرض على بني هلال مثل الذي عرض على بني سليم ، فأقبلوا ، وأخذ من المفسدين نحوا من ثلاثمائة رجل ، وأطلق الباقين ، ورجع إلى المدينة ، فحبسهم . ظهر في هذه السنة في بعض قرى خوارزم عجب من امرأة رأت مناما ، فكانت لا تأكل ولا تشرب ، وقد ذكر قصتها أبو عبد الله الحاكم في "تاريخ نيسابور" .

يقول أبا زكريا يحيى بن محمد العنبري :

سمعت أبا العباس عيسى بن محمد المروزي يقول : وردت في سنة ثمان وثلاثين مدينة من مدائن خوارزم تدعى هزارسف ، فأخبرت أن بها امرأة من نساء الشهداء رأت رؤيا : كأنها أطعمت في منامها شيئا ، فهي لا تأكل ولا تشرب منذ عهد عبد الله بن طاهر والي خراسان ، وكان [قد ] توفي قبل ذلك بثماني سنين ، فمررت بها وحدثتني حديثها ، فلم أستعص عليها لحداثة سني ، ثم إني عدت إلى خوارزم في آخر سنة اثنين وخمسين ومائتين ، فرأيتها باقية ، ووجدت حديثها شائعا مستفيضا ، فطلبتها فوجدتها غائبة على عدة فراسخ ، فمضيت في أثرها ، فأدركتها بين قريتين تمشي مشية [قوية ] وإذا هي امرأة نصف جيدة القامة ، حسنة البنية ، ظاهرة الدم ، متوردة الخدين ، فسايرتني وأنا راكب ، وعرضت عليها الركوب فلم تركب ، وحضر مجلسي أقوام ، فسألتهم عنها ، فأحسنوا القول فيها وقالوا : أمرها عندنا ظاهر ، فليس فينا من يختلف فيها ، وذكر لي بعضهم أنهم لم يعثروا منها على كذب ولا حيلة في التلبيس ، وأنه قد كان من يلي خوارزم من العمال يحضرونها ويوكلون بها من يراعيها ، فلا يرونها تأكل شيئا ولا تشرب ، ولا يجدون لها أثر غائط ولا بول ، فيبرونها ويكسونها ، فلما تواطأ أهل الناحية على تصديقها ، سألتها عن اسمها ، فقالت : رحمة بنت إبراهيم ، وذكرت أنه كان لها زوج نجار فقير يأتيه رزقه يوما بيوم ، وأنها ولدت منه عدة أولاد ، وأن ملك الترك عبر على النهر [إليهم ] وقتل من المسلمين خلقا كثيرا ، قالت : ووضع زوجي بين يدي قتيلا ، فأدركني الجزع ، وجاء الجيران يسعدونني على البكاء ، وجاء الأطفال يطلبون الخبز وليس عندي شيء ، فصليت وتضرعت إلى الله تعالى [أسأله الصبر ، و ] أن يجبر بهم ، فذهب بي النوم في سجودي ، فرأيت في منامي كأني في أرض خشناء ذات حجارة وشوك ، وأنا أهيم فيها وألزم خبري أطلب زوجي ، فناداني رجل : إلى أين أيتها الحرة ؟ قلت : أطلب زوجي ، قال : خذي ذات اليمين ، فأخذت ذات اليمين ، فوقفت على أرض سهلة طيبة الثرى ، ظاهرة العشب ، فإذا قصور وأبنية لا أحسن أصفها ، وإذا أنهار تجري على وجه الأرض من غير أخاديد ، وانتهيت إلى قوم جلوس حلقا حلقا ، عليهم ثياب خضر ، قد علاهم النور ، فإذا هم القوم الذين قتلوا في المعركة يأكلون على موائد بين أيديهم ، فجعلت أتخللهم وأتصفح وجوههم أبغي زوجي ، لكنه بصرني فناداني : يا رحمة يا رحمة ، فتحققت الصوت ، فإذا أنا به في مثل حالة من رأيت من الشهداء ، وجهه مثل القمر ليلة البدر ، وهو يأكل مع رفقة له قتلوا يومئذ معه ، فقال لأصحابه : إن هذه البائسة جائعة منذ اليوم ، أفتأذنون [لي ] أن أناولها شيئا تأكله ؟ فأذنوا له ، فناولني كسرة خبز ، وأنا أعلم حينئذ أنه خبز ، ولكن لا أدري كأي خبز هو ؟ ! أشد بياضا من الثلج واللبن ، وأحلى من العسل والسكر ، وألين من الزبد والسمن ، فأكلته فلما استقر في معدتي قال : اذهبي ، فقد كفاك الله مئونة الطعام والشراب ما بقيت في الدنيا ، فانتبهت من نومي وأنا شبعى ريا ، لا أحتاج إلى طعام وشراب وما ذقته منذ ذلك اليوم إلى يومي هذا [ولا شيئا مما يأكله الناس . قال أبو العباس : وكنا نأكل فتتنحى وتأخذ على أنفها ، تزعم أنها تتأذى برائحة الطعام ] ، فسألتها : هل تتغذى بشيء غير الخبز أو تشرب شيئا غير الماء ؟ فقالت : لا ، فسألتها هل يخرج منها ريح ؟ قالت : لا ، أو أذى ؟ قالت : لا ، قلت : فالحيض ؟ أظنها قالت : انقطع بانقطاع الطعم ، قلت : فهل تحتاجين حاجة النساء إلى الرجال ؟ قالت : لا ، قلت : فتنامين ؟ قالت : نعم أطيب نوم ، قلت : فما ترين في منامك ؟ قالت : ما ترون ، قلت : فهل يدركك اللغوب والإعياء إذا مشيت ؟

قالت : نعم . وذكرت لي أن بطنها لاصقة بظهرها ، فأمرت امرأة من نسائنا فنظرت ، فإذا بطنها لاصقة بظهرها ، وإذا هي قد اتخذت كيسا فضمنته قطنا وشدته على بطنها ليستقيم ظهرها إذا مشيت ، فأجرينا ذكرها لأبي العباس أحمد بن محمد بن طلحة بن طاهر والي خوارزم ، فأنكر ، وأشخصها [إليه ] ، ووكل أمه بها ، فبقيت عنده نحوا من شهرين في بيت ، فلم يروها تأكل ولا تشرب ، ولا رأوا لها أثر من يأكل ويشرب ، فكثر تعجبه وقال : لا تنكر لله قدرة ، وبرها وصرفها ، فلم يأت عليها إلا القليل حتى ماتت رحمها الله .

. ذكر خروج المشركين إلى بلاد المسلمين بالأندلس

في هذه السنة خرج المجوس من أقاصي بلاد الأندلس في البحر إلى بلاد المسلمين ، وكان ظهورهم في ذي الحجة سنة تسع وعشرين ، عند أشبونة ، فأقاموا ثلاثة عشر يوما ، بينهم وبين المسلمين بها وقائع ، ثم ساروا إلى قادس ، ثم إلى شدونة ، فكان بينهم وبين المسلمين بها وقائع .

ثم ساروا إلى إشبيلية ثامن المحرم ، فنزلوا على اثني عشر فرسخا منها ، فخرج إليهم كثير من المسلمين ، فالتقوا ، فانهزم المسلمون ثاني عشر المحرم ، وقتل كثير منهم .

ثم نزلوا على ميلين من إشبيلية ، فخرج أهلها إليهم ، وقاتلوهم ، فانهزم المسلمون رابع عشر المحرم ، وكثر القتل والأسر فيهم ، ولم ترفع المجوس السيف عن أحد ، ولا عن دابة ، ودخلوا حاجز إشبيلية وأقاموا به يوما وليلة ، وعادوا إلى مراكبهم .

وأقام عسكر عبد الرحمن ، صاحب البلاد ، مع عدة من القواد ، فتبادر إليهم المجوس ، فثبت المسلمون ، وقاتلوهم ، فقتل من المشركين سبعون رجلا وانهزموا ، حتى دخلوا مراكبهم ، وأحجم المسلمون عنهم ، فسمع عبد الرحمن ، فسير جيشا آخر غيرهم ، فقاتلوا المجوس قتالا شديدا ، فرجع المجوس عنهم ، فتبعهم العسكر ثاني ربيع الأول ، وقاتلوهم ، وأتاهم المدد من كل ناحية ، ونهضوا لقتال المجوس من كل جانب ، فخرج إليهم المجوس وقاتلوهم ، فكاد المسلمون ينهزمون ، ثم ثبتوا ، فترجل كثير منهم ، فانهزم المجوس ، وقتل نحو خمس مائة رجل ، وأخذوا منهم أربعة مراكب ، فأخذوا ما فيها ، وأحرقوها ، وبقوا أياما لا يصلون إلى المجوس ، لأنهم في مراكبهم .

ثم خرج المجوس إلى لبلة ، فأصابوا سبيا ، ثم نزل المجوس إلى جزيرة قريب قوريس ، فنزلوها ، وقسموا ما كان معهم من الغنيمة ، فحمي المسلمون ، ودخلوا إليهم في النهر ، فقتلوا من المجوس رجلين ، ثم رحل المجوس فطرقوا شدونة فغنموا طعمة وسبيا ، وأقاموا يومين .

ثم وصلت مراكب لعبد الرحمن ، صاحب الأندلس ، إلى إشبيلية ، فلما أحس بها المجوس لحقوا بلبلة ، فأغاروا ، وسبوا ، ثم لحقوا بأكشونية ، ثم مضوا إلى باجة ، ثم انتقلوا إلى مدينة أشبونة ، ثم ساروا ، فانقطع خبرهم عن البلاد ، فسكن الناس .

وقد ذكر بعض مؤرخي العرب سنة ست وأربعين خروج المجوس إلى إشبيلية أيضا ، وهي شبيهة بهذه ، ثم فلا أعلمه أهي هذه ، وقد اختلفوا في وقتها ، أم هي غيرها ، وما أقرب أن تكون هي إياها ، وقد ذكرتها هناك لأن في كل واحدة منهما شيئا في الأخرى . [ من الحوادث ]

وحج هذه السنة إسحاق بن مصعب ، وإليه أحداث المواسم .

وحج بالناس هذه السنة محمد بن داود .

التالي السابق


الخدمات العلمية