ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائتين

ذكر القبض على محمد بن عبد الملك الزيات

وفي هذه السنة قبض المتوكل على محمد بن عبد الملك الزيات ، وحبسه لسبع خلون من صفر .

وكان سببه أن الواثق استوزر ( محمد بن عبد الملك ، وفوض الأمور كلها إليه ) وكان الواثق قد غضب على أخيه جعفر المتوكل ، ووكل عليه من يحفظه ويأتيه بأخباره ، فأتى المتوكل إلى محمد بن عبد الملك يسأله أن يكلم الواثق ليرضى عنه ، فوقف بين يديه لا يكلمه ، ثم أشار عليه بالقعود فقعد ، فلما فرغ من الكتب التي بين يديه التفت إليه كالمتهدد ، وقال : ما جاء بك ؟ قال : جئت أسأل أمير المؤمنين الرضى عني ، فقال لمن حوله : انظروا ، يغضب أخاه ثم يسألني أن أسترضيه له ! اذهب ، فإذا صلحت; رضي عنك .

فقام من عنده حزينا ، فأتى أحمد بن أبي دؤاد ، فقام إليه أحمد ، واستقبله على باب البيت ( وقبله ) ، وقال : ما حاجتك ؟ جعلت فداك ! قال : جئت لتسترضي أمير المؤمنين لي ، قال : أفعل ، ونعمة عين وكرامة ! فكلم أحمد الواثق به ، فوعده ولم يرض عنه ، ( ثم كلمه فيه ثانية فرضي عنه ) وكساه .

ولما خرج المتوكل من عند ابن الزيات كتب إلى الواثق : إن جعفرا أتاني في زي المخنثين ، له شعر قفا ، يسألني أن أسأل أمير المؤمنين الرضى عنه ، فكتب إليه الواثق : ابعث إليه ، فأحضره ، ومر من يجز شعر قفاه ، فيضرب به وجهه .

قال المتوكل : لما أتاني رسوله لبست سوادا جديدا ، وأتيته رجاء أن يكون قد أتاه الرضى عني ، فاستدعى حجاما ، فأخذ شعري على السواد الجديد ، ثم ضرب به وجهي ، فلما ولي الخلافة المتوكل أمهل حتى كان صفر ، فأمر إيتاخ بأخذ ابن الزيات وتعذيبه ، فاستحضر ، فركب يظن أن الخليفة يستدعيه ، فلما حاذى منزل إيتاخ عدل به إليه ، فخاف ، فأدخله حجرة ، ووكل عليه ، وأرسل إلى منازله من أصحابه من هجم عليها ، وأخذ كل ما فيها ، واستصفى أمواله وأملاكه في جميع البلاد .

وكان شديد الجزع ، كثير البكاء والفكر ، ثم سوهر ، ( وكان ينخس بمسلة لئلا ينام ، ثم ترك فنام يوما وليلة ) ، ثم جعل في تنور عمله هو ، وعذب به ابن أسباط المصري ، وأخذ ماله ، فكان من خشب فيه مسامير من حديد أطرافها إلى داخل التنور ، وتمنع من يكون فيه من الحركة ، وكان ضيقا بحيث إن الإنسان كان يمد يديه إلى فوق رأسه; ليقدر على دخوله لضيقه ، ولا يقدر من يكون فيه يجلس ، فبقي أياما ، فمات .

( وكان حبسه لسبع خلون من صفر ، وموته ) إحدى عشرة بقيت من ربيع الأول ، واختلف في سبب موته ، فقيل كما ذكرناه ، وقيل : بل ضرب فمات وهو يضرب ، وقيل مات بغير ضرب ، وهو أصح .

فلما مات حضره ابناه سليمان ، وعبيد الله ، وكانا محبوسين ، وطرح على الباب في قميصه الذي حبس فيه ، فقالا : الحمد لله الذي أراح من هذا الفاسق ! وغسلاه على الباب ، ودفناه ، فقيل إن الكلاب نبشته وأكلت لحمه .

قال : وسمع قبل موته يقول لنفسه : يا محمد لم تقنعك النعمة ، والدواب ، والدار النظيفة ، والكسوة الفاخرة ، وأنت في عافية ، حتى طلبت الوزارة ، ذق ما عملت بنفسك ، ثم سكت عن ذلك ، وكان لا يزيد على التشهد ، وذكر الله عز وجل .

وكان ابن الزيات صديقا لإبراهيم الصولي ، فلما ولي الوزارة ، صادره بألف ألف وخمس مائة ألف درهم ، فقال الصولي :


وكنت أخي برخاء الزمان فلما نبا صرت حربا عوانا     وكنت أذم إليك الزمان
فأصبحت منك أذم الزمانا     وكنت أعدك للنائبات
فها أنا أطلب منك الأمانا

وقال أيضا :


أصبحت من رأي أبي جعفر     في هيئة تنذر بالصيلم
من غير ما ذنب ، ولكنها     عداوة الزنديق للمسلم‌‌‌‌



غضب المتوكل على سليمان بن إبراهيم بن الجنيد

وفيها غضب المتوكل على سليمان بن إبراهيم بن الجنيد النصراني كاتب سمانه ، وضربه ، وأخذ ماله .

وغضب أيضا على أبي الوزير ، وأخذ ماله ومال أخيه وكاتبه .



وفيها أيضا عزل الفضل بن مروان عن ديوان الخراج ، وولاه يحيى بن خاقان الخراساني مولى الأزد .

وولى إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول ديوان زمام النفقات .

وفيها ولى المتوكل ابنه المنتصر الحرمين واليمن والطائف في رمضان .

فلج أحمد بن أبي دؤاد

وفيها فلج أحمد بن أبي دؤاد في جمادى الآخرة .

وثب ميخائيل بن توفيل بأمه تدورة

وفيها وثب ميخائيل بن توفيل بأمه تدورة ، فألزمها الدير ، وقتل اللقط لأنه كان اتهمها به . فكان ملكها ست سنين .

عزل محمد بن الأغلب وحج بالناس في هذه السنة

( وفيها عزل محمد بن الأغلب ، وحج بالناس في هذه السنة محمد بن داود أمير إفريقية عامله على الزاب ، واسمه سالم بن غلبون ، فأقبل يريد القيروان ، فلما صار بقلعة يلبسير أضمر الخلاف وسار إلى الأربس ، فمنعه أهلها من الدخول إليها ، فسار إلى باجة ، فدخلها ، واحتمى بها ، فسير إليه ابن الأغلب جيشا عليهم خفاجة بن سفيان ، فنزل عليه وقاتله ، فهرب سالم ليلا ، فاتبعه خفاجة ، فلحقه ، وقتله ، وحمل رأسه إلى ابن الأغلب ، وكان ابن سالم عند ابن الأغلب محبوسا فقتله ) . ذكر عدة حوادث

[رجفت دمشق رجفة شديدة ]

وفي ربيع الآخر : رجفت دمشق رجفة شديدة لارتفاع الضحى ، وانتقضت منها البيوت ، وتزايلت الحجارة العظيمة ، وسقطت عدة منازل وطاقات في الأسواق على من فيها ، فقتلت خلقا كثيرا من الرجال والنساء والصبيان ، وسقط بعض شرافات المسجد الجامع ، وتصدعت طاقات القبة التي في وسط الجامع مما يلي المحراب ، وانقطع ربع منارة الجامع ، فهرب الناس بالنساء والصبيان ، وهرب أهل الأسواق إلى مصلى العيد يبكون ويتضرعون ويصلون ويستغفرون إلى وقت المغرب ، ثم سكن ذلك ، فرجعوا ، فأخذوا في إخراج الموتى من تحت الهدم . وذكر بعض من كان في دير مران أنه كان يرى [مدينة ] دمشق وهي ترتفع وتستقل مرارا ، وأصاب أهل قرية من عمل الغوطة من الرجفة أنها انكفأت عليهم ، فلم ينج منهم إلا رجل واحد على فرسه ، فأتى أهل دمشق فأخبرهم .

وأصاب أهل البلقاء مثل ما أصاب أهل دمشق ، من هدم المنازل في ذلك اليوم ، وذلك الوقت ، وتزايلت الحجارة من سور مدينتها ، وسقط حائط لها عرضه ذراعا في ستة عشر ذراعا ، وخرج أهلها بنسائهم وصبيانهم ، فلم يزالوا في دعاء وضجيج حتى كف الله عنهم برحمته . [عظمت الزلازل بأنطاكية ]

وعظمت الزلازل بأنطاكية ، ومات [من أهلها خلق كثير ، وكذلك الموصل ، ويقال : إنه مات ] من أهلها عشرون ألفا . [مطر أهل الموصل مطرا شديدا ]

وفي رجب : مطر أهل الموصل مطرا شديدا ، وسقط برد مختم كالسكر وبعضه كبيض الحمام ، فسد مجاري الماء ، ثم سال واد من ناحية البرية ذكروا أنه لم يسل قط ، فما زالوا كذلك في ضجة حتى أتى ربع الليل ، وحمل الماء قوما فغرقتهم ووقعت الدور على بعضهم فقتلتهم ، وكان ما سقط وتهدم أكثر من ألفي دار .

وقطع الماء رحى كانت مبنية من رصاص ، فجرى [الماء ] فيها ، ولولا ذلك لغرق أهل الموصل أجمعين .

وفقد في بستان أكثر من مائتي نخلة بأصولها فلم يبن لها أثر ، وكانت معها زلزلة شديدة وصواعق دفن أكثر من عشرة آلاف والذين غرقوا أكثر . [غضب المتوكل على عمر بن الفرج ]

وفي هذه السنة : غضب المتوكل على عمر بن الفرج وذلك في رمضان ، فوجد في منزله خمسة عشر ألف درهم ، وقبض جواريه وفرشه ، وقيد بثلاثين رطلا من الحديد ، وأحضر مولاه نصر ، فحمل ثلاثين ألف دينار ، وحمل نصر من مال نفسه أربعة عشر ألف دينار ، وأصيب له في الأهواز أربعون ألف دينار ، ولأخيه محمد بن الفرج مائة ألف دينار وخمسون ألف دينار ، وحمل من داره من المتاع على ستة عشر بعيرا فرش فاخرة ، ومن الجوهر ما قيمته أربعون ألف دينار ، وألبس جبة صوف وقيد ، وأخذ عياله ففتشوا فكن مائة جارية ، ثم صولح على أحد عشر ألف ألف ، على أن يرد عليه ما أخذ منه من ضياع الأهواز ، وتنزع عنه القيود [في شوال . ]



وقال علي بن المحسن [التنوخي ] قال : حدثني أبي أن بعض المعمرين من الشهود بالأهواز حدثه عن أبيه - أو بعض أهله - قال : كان محمد بن منصور يتقلد القضاء بكور الأهواز وعمر بن فرج الرخجي يتقلد [الخراج ] بها ، وكانا يتوازيان المرتبة السلطانية ، فلا يركب القاضي إلى الرخجي إلا بعد أن يجيبه ويتشاحان على التعظيم ، وتولدت بينهما عداوة من ذلك ، وكان الرخجي يكتب في القاضي إلى المتوكل ، فلا يلتفت إلى كتبه لعظم محله عند المتوكل ، ويبلغ ذلك القاضي فلا يحفل به ، فلما كان في بعض الأوقات ورد كتاب المتوكل على الرخجي يأمره بأمر في معنى الخراج ، وأن يجتمع مع محمد بن منصور القاضي ولا ينفرد دونه ، وورد بالكتاب خادم كبير من خدم السلطان ، فأنفذ الرخجي إلى القاضي ، فأعلمه الخبر وقال :

تصير إلى ديوان الخراج لنجتمع فيه على امتثال الأمر ، فقال القاضي : لا ، ولكن أتصير أنت إلى الجامع فتجتمع فيه ، وتردد الكلام بينهما إلى أن قال الرخجي للخادم :

ارجع إلى حضرة أمير المؤمنين واذكر القصة وأن قاضيه يريد إيقاف ما أمر به [أمير المؤمنين ] ، فبلغه الخبر ، فركب محمد بن منصور إلى الديوان ومعه شهوده ، فدخله والرخجي فيه في دست وكتابه بين يديه ، فلما بصروا به قاموا ، إلا الرخجي فعدل إلى آخر البساط ، بعد أن أمر غلامه فطوى البساط وجلس على البوري ، وحف به الشهود ، وجاء الخادم ، فجلس عند القاضي وأراه الكتاب ، فلم يزل الرخجي يخاطب القاضي وبينهما مسافة حتى فرغا من الأمر ، فلما فرغا قال الرخجي للقاضي : يا أبا جعفر ، ما هذه الجبرية ؟ ! لا تزال تتولع بي وتقدر أنك عند الخليفة مثلي ، أو أن محلك يوازي محلي ، والخليفة لا يضرب على يدي في أمواله التي بها قوام دولته ، ولقد أخذت من ماله ألف ألف دينار ، وألف ألف دينار ، وألف ألف دينار فما سألني عنها ، وإنما أنت لك أن تحلف منكرا على حق ، وأن تفرض لامرأة على زوجها وتحبس ممتنعا من أداء حق ، وأبو جعفر [ساكت ] ، فلما ذكر الرخجي ألف ألف دينار وثنى القول يعدد بإصبعه ، وقد كشفها ليراها الناس ، فلما أمسك عمر [ابن الفرج ] لم يجبه القاضي بشيء ، وقال لوكيل : يا فلان ، قد سمعت ما جرى ؟

فقال : قد وكلتك لأمير المؤمنين [وللمسلمين ] على [هذا ] الرجل في المطالبة لهم بهذا المال . فقال له الوكيل : إن رأى القاضي أن يحكم بهذا المال للمسلمين ، قال والرخجي يسمع ، فقال القاضي : دواة . وكتب القاضي سجلا بخطه بذلك المال ، ورمى به إلى الشهود وقال : اشهدوا على إنفاذي الحكم بما في هذا الكتاب ، وإلزام فلان ابن فلان هذا [وأومأ إلى الرخجي ] بما أقر به عندي من المال المذكور مبلغه في هذا الكتاب للمسلمين . فكتب الشهود خطوطهم ، وأخذ القاضي الكتاب ومضى ، وأخذ الرخجي يهزأ به ويقول : يا أبا جعفر لقد بالغت في عقوبتي ، قتلتني ! قال : إي والله !

فكتب صاحب الخبر إلى المتوكل بما جرى ، فأحضر وزيره وقال : أنا منذ زمان أقول لك حاسب هذا الخائن ، وأنت تدافع حتى حفظ الله علينا أموالنا بقاضينا محمد بن منصور ، ورمى إليه بكتاب صاحب الخبر [قال ] : اكتب الساعة بالقبض على الرخجي ، فخرج الوزير وهو قلق لعنايته بالرخجي ، وقال لكاتبه :

اكتب إليه : [يا مسكين ] يا مشئوم . ما دعاك إلى معاداة القضاة وأنت مقتول إن لم تتلاف أمرك مع القاضي .

فركب الرخجي إلى القاضي فحجبه ، فرجع خجلا ، فاحتال فدخل مع بعض خواص القاضي بالليل ، فصاح عليه : اخرج عن داري فأكب على رأسه وبكى ، فقام القاضي فاعتنقه وبكى وقال : عزيز علي ولا حيلة لي فقد نفذ الحكم ! فنهض ونفذ بمن قبض عليه ، ونصب القاضي من باع أملاك الرخجي وحمل ثمنها إلى بيت المال . [قدوم يحيى بن هرثمة ]

وفي هذه السنة : قدم يحيى بن هرثمة . وكان والي طريق مكة بعلي بن محمد بن علي الرضا بن موسى بن جعفر من المدينة .

التالي السابق


الخدمات العلمية