خلافة المهتدي بالله أبي عبد الله محمد بن الواثق هارون بن المعتصم

وأمه رومية ، وكانت تسمى قرب كان أسمر رقيقا أجلى ، رحب الوجه ، حسن اللحية ، أشهل العينين ، عظيم البطن ، عريض المنكبين ، قصيرا ، طويل اللحية ، أشيب . ولد في خلافة جده سنة بضع عشرة ومائتين . وكانت بيعته يوم الأربعاء لليلة بقيت من رجب من سنة خمس وخمسين ومائتين بعد خلع المعتز نفسه بين يديه وإشهاده على نفسه بأنه عاجز عن القيام بأمر الخلافة ، وأنه قد رغب إلى من يقوم بأعبائها محمد بن الواثق بالله . ثم مد يده فبايعه قبل الناس كلهم ، ثم بايعه الخاصة ثم كانت بيعة العامة وكتب على المعتز كتاب أشهد عليه فيه بالخلع والعجز والمبايعة للمهتدي .

ودعي للمهتدي يوم الجمعة أول يوم من شعبان ولم يدع له ببغداد حتى قتل المعتز يوم السبت ليومين من شعبان .

وكان المهتدي من أحسن الخلفاء مذهبا ، وأجملهم طريقة ، وأظهرهم ورعا ، وأكثرهم عبادة ، وأسند الحديث .



فعن المهتدي بالله بسنده عن ابن عباس قال: قال العباس: يا رسول الله ، ما لنا في هذا الأمر شيء ؟ قال: "لي النبوة ولكم الخلافة ، بكم يفتح هذا الأمر ، وبكم يختم" .

قال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس: "من أحبك نالته شفاعتي ومن أبغضك فلا نالته شفاعتي" . طرف من سيرته وأحواله

طرف من سيرته [وأحواله

فعن المعافى بن زكريا قال: حدثني بعض الشيوخ -ممن شاهد جماعة من العلماء وخالط كثيرا من الرؤساء- أن هاشم بن القاسم الهاشمي قال: كنت جالسا بحضرة المهتدي عشية من العشايا ، فلما كادت الشمس تغرب وثبت لأنصرف ، وذلك في شهر رمضان ، فقال لي: اجلس . فجلست فأذن المؤذن ، وأقام [فتقدم] وصلى المهتدي بنا ، ثم ركع وركعنا .

ودعا بالطعام ، فأحضر طبق خلاف ، عليه رغيف من الخبز النقي ، وفيه آنية في بعضها ملح ، وفي بعضها خل ، وفي بعضها زيت ، فدعاني إلى الأكل فابتدأت آكل معذرا ، ظانا أنه سيؤتى بطعام له نيقة ، وفيه سعة . فنظر إلي وقال: ألم تكن صائما؟ قلت: بلى . قال: أفلست عازما على صوم غد؟ قلت: كيف لا وهو شهر رمضان؟ فقال: كل واستوف غداءك ، فليس ها هنا من الطعام غير ما ترى .

فعجبت من قوله ، ثم قلت: [والله لأخاطبنه في هذا المعنى ، فقلت:] ولم يا أمير المؤمنين ، وقد أسبغ الله نعمته ، وبسط قدرته ورزقه؟ فقال: [إن] الأمر لعلى ما وصفت ، والحمد لله ، ولكني فكرت في أنه كان في بني أمية عمر بن عبد العزيز ، وكان من التقلل والتقشف على ما بلغك ، فغرت على بني هاشم أن لا يكون في خلفائهم مثله ، فأخذت نفسي بما رأيت .

وعن إبراهيم بن محمد بن عرفة ، وذكر المهتدي فقال: حدثني بعض الهاشميين أنه وجد له سفط فيه جبة صوف ، وكساء ، وبرنس كان يلبسه بالليل ويصلي فيه ، ويقول: أما يستحي بنو العباس أن لا يكون فيهم مثل عمر بن عبد العزيز؟!

أخبرنا محمد بن أحمد أنه كان قد اطرح الملاهي ، [وحرم] الغناء والشرب ، وحسم أصحاب السلطان عن الظلم ، وكان شديد الإشراف على أمر الدواوين والخراج ، فحبس نفسه في الحسبانات لا يخل بالجلوس يوم الاثنين والخميس [والكتاب بين يديه] .

وعن أبو بشر الدولابي قال: أخبرني أبو موسى العباسي قال: لم يزل المهتدي صائما منذ جلس للخلافة إلى أن قتل .

وعن محمد بن أحمد القراريطي قال: قال لي عمي عبد الله بن إبراهيم الإسكافي قال: حضرت مجلس المهتدي بالله ، وقد جلس للمظالم ، فاستعداه رجل على ابن له ، فأمر بإحضاره ، فأحضر وأقامه إلى جنب الرجل ، فسأله عما ادعاه عليه فأقر به ، فأمره بالخروج إليه من حقه ، فكتب له بذلك كتابا ، فلما فرغ قال له الرجل: والله يا أمير المؤمنين ما أنت إلا كما قال الشاعر:


حكمتموه فقضى بينكم أبلج مثل القمر الزاهر     لا يقبل الرشوة في حكمه
ولا يبالي غبن الخاسر

فقال له المهتدي: أما أنت أيها الرجل فجزاك الله خيرا ، وأما أنا فما جلست هذا المجلس حتى قرأت في المصحف ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين [21: 47]



فما رأيت باكيا أكثر من بكائه ذلك اليوم [تعظيم المهتدي للإمام أحمد ]

وقال جعفر بن عبد الواحد : (ذاكرت المهتدي بشيء ، فقلت له : كان أحمد بن حنبل يقول به ، ولكنه كان يخالف - أشير إلى من مضى من آبائه - فقال : رحم الله أحمد بن حنبل والله لو جاز لي أن أتبرأ من أبي . . . لتبرأت منه ، ثم قال لي : تكلم بالحق وقل به فإن الرجل ليتكلم بالحق فينبل في عيني ) . واستقرت الخلافة للمهتدي بالله وكان - ولله الحمد - خليفة صالحا . قال يوما للأمراء : إني ليست لي أم لها من الغلات ما يقاوم عشرة آلاف ألف دينار ، ولست أريد إلا القوت فقط ، ولا أريد فضلا على ذلك إلا لإخوتي فإنهم قد مستهم الحاجة .

التالي السابق


الخدمات العلمية